درس إيطالي وإسرائيلي للعرب

نحن العرب ربما نكون أكثر الشعوب التي تكتب شعراً ورومانسيات وقصائد غزل بالمبادئ الإنسانية كالأخوة والعدالة والمساواة وإغاثة الملهوف وحفظ الأرواح والأموال وحماية النفس البشرية، لكن كل عواطفنا ليست سوى مشاعر عابرة في الواقع العملي، إن لم نقل في محل مجرور في أحسن الأحوال، وربما لا محل لها من الإعراب أبداً. نقول هذا الكلام ونحن نتابع الحملة الإيطالية الإعلامية والسياسية والإنسانية والمدنية والحقوقية العظيمة التي انطلقت في إيطاليا ومختلف أنحاء العالم تنديداً بقتل الطالب الإيطالي لوجيو ريجيني الذي لقي مصرعه في مصر قبل فترة. لم تدع إيطاليا مقتل مواطنها يمر مرور الكرام للحفاظ على علاقاتها «التاريخية» مع مصر، ولم تتستر على القضية، بل عملت من الحبة قبة بحجم هرم خوفو المصري الشهير. لقد أصبحت قضية ريجيني قضية رأي عام أوروبي وربما عالمي، وأصبحت الحكومة المصرية في وضع مأساوي لا تحسد عليه بعد أن حوّلها الإعلام الإيطالي خصوصاً والغربي عموماً إلى لحم مفروم.
لا شك أن النظام المصري يعيش أزمة حقيقية الآن ليس بسبب الوضع المعيشي الرهيب الذي يعانيه غالبية الشعب المصري، ولا بسبب انخفاض سعر الجنيه إلى الحضيض، ولا بسبب الاضطرابات السياسية التي تحدق بمصر، بل لأنه أصبح في مرمى الإعلام الغربي بسبب مقتل الطالب الإيطالي في مصر على أيدي أجهزة الأمن المصري أو غيرها. لا يهم من قتل ريجيني بالنسبة للإيطاليين، بل المهم أنه مواطن إيطالي مات في مصر في ظروف غامضة، ولا بد من زلزلة الأرض تحت أقدام الذين قتلوه وتحميل المسؤولية للنظام المصري وأجهزته عموماً.
لا يمر يوم إلا ويطرح البرلمان الإيطالي قضية مقتل ريجيني. لا يمر يوم إلا وتمتلئ الصحف الإيطالية وشاشات التلفزيون الإيطالي بتطورات قضية الطالب. لا يمر يوم إلا وتتعرض مصر لكل أنواع الانتقادات والتشويه والهجمات الإعلامية القاسية. لا يمر يوم إلا وتنطلق التظاهرات والاعتصامات في شوارع إيطاليا ضد مصر تنديداً بمقتل ريجيني. لا يمر يوم إلا وتجد الحكومة المصرية نفسها في مأزق لأنها حتى الآن لم تقدم شرحاً مقبولاً للإيطاليين حول موت الطالب لوجيو ريجيني. وكم شعرت بالحزن وأنا أرى المسؤولين المصريين على شاشات التلفزيون وكأنهم يتحدثون من داخل قفص الاتهام وهم يردون على المطالب والتساؤلات الإيطالية المحرجة. لقد استنفر الإعلام المصري والدولة المصرية عموماً من أجل قضية الطالب ريجيني. لم يعد لدى الحكومة من هم سوى الخلاص من تلك القضية التي تؤرق النظام المصري منذ أسابيع بأي ثمن وبأي طريقة. لقد بات شبح الطالب الإيطالي البسيط يشكل كابوساً مرعباً للحكومة المصرية بعد التركيز الإعلامي الرهيب على مقتله إيطالياً وأوربياً وعالمياً، وبعد أن وصل الأمر بالدولة الإيطالية إلى سحب سفيرها من القاهرة احتجاجاً على تقاعس السلطات المصرية في تقديم أجوبة وافية على الأسئلة الإيطالية.
لاحظوا كيف تأهبت إيطاليا رسمياً وإعلامياً وشعبياً من أجل حياة طالب بسيط قُتل في مصر، وكيف يموت عشرات الألوف من العرب يومياً كالذباب دون أن نسمع أحداً يذكر حتى أسماءهم، فما بالك أن يترحم عليهم، أو يندد بقتلهم لا سمح الله. إن الشعوب والحكومات التي تقيم الدنيا من أجل حياة مواطن، لا شك أنها ستحمي حياة بقية الشعب، وستجعل كل من يحاول الاعتداء على مواطنيها أن يفكر مليون مرة، لأنه سيلاقي جزاء لم يتصوره في حياته. هكذا تحمي الحكومات التي تحترم شعوبها أوطانها وأهلها. أما الحكومات التي تتعامل مع مواطنيها كما لو كانوا مجرد أسراب من الذباب، فسيستخف الجميع بها، وسيقتلونها وسيدوسون عليها كما يدوس الناس على النمل.
إن قضية الطالب الإيطالي تذكرنا بقضية الأسير الإسرائيلي الشهير شاليط الذي أسرته حركة حماس قبل سنوات. لم تهدأ إسرائيل بعدها يوماً واحداً وهي تحاول بكل الطرق والأساليب استعادة مواطنها المخطوف. وقد جعلت منه قضية رأي عام إسرائيلي، لا بل عالمي، بحيث لم يبق إنسان في الشرق والغرب إلا وسمع باسم شاليط الإسرائيلي. وقد كتبت وقتها مقالاً بعنوان: «شاليط الإسرائيلي، وشلّووط العربي»، أوضحت فيه أن الفرق بين المواطن الإسرائيلي والغربي من جهة والمواطن العربي من جهة أخرى كالفرق بين الإنسان والشلووط، أي الشحاطة. وعندما نبادل نحن العرب أسيراً إسرائيلياً بألف أسير عربي، فهذا اعتراف عربي صريح بأن كل إنسان إسرائيلي أو غربي يساوي ألوف العرب. هل شاهدتم يوماً بلداً عربياً يبادل عربياً بإسرائيلي؟ معاذ الله، فكل مليون شلووط عربي بشاليط إسرائيلي أو أوروبي واحد. يا بلاش!
لاحظوا الآن كيف تسعى إسرائيل بكل ما أوتيت من قوة لاسترجاع رُفات الجاسوس الإسرائيلي الشهير إيلي كوهين الذي اخترق النظام السوري لسنوات ثم أعدموه في دمشق قبل عقود. هل تعلمون أن أي اجتماع بين القيادة الإسرائيلية والروسية هذه الأيام يمضي الإسرائيليون نصفه في إقناع روسيا بالتوسط لدى النظام السوري كي يفرج عن رفاة كوهين كي يعيدوا دفنه في إسرائيل؟ ولن نتفاجأ إذا قام بشار الأسد بتسليم رُفاة الجاسوس الإسرائيلي لروسيا كي تسلمه بدورها لإسرائيل ليكسب مزيداً من الرضا الإسرائيلي.
لاحظوا الفرق بين إسرائيل والنظام السوري، فبينما تطلب إسرائيل من الرئيس الروسي بوتين ليل نهار المساعدة باسترداد رُفات مواطنها كوهين من سوريا، نرى أن بشار الأسد يطلب من بوتين المساعدة في ذبح السوريين واستخدام كل أنواع الأسلحة الروسية الحديثة الفتاكة لقتل الشعب السوري وتدمير سوريا. وقد اعترف بوتين نفسه بأن سوريا أصبحت أفضل مكان لتجريب الأسلحة الروسية.
الزعيم الذي يستخف بشعبه، ويقيم وزناً للشعوب الأخرى ليس محط احترام لدى الخارج، بل هو محط ازدراء واحتقار.
احترموا شعوبكم كي يحترمكم الآخرون.
تعلموا من إيطاليا وإسرائيل!

٭ كاتب وإعلامي سوري
[email protected]

د. فيصل القاسم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    تقول إحدى الروايات أن رجلا قدم للمعتصم ناقلا له حادثة شاهدها قائلا: يا أمير المؤمنين، كنت بعمورية فرأيت امرأة عربية في السوق مهيبة جليلة تسحل إلى السجن فصاحت في لهفة: وامعتصماه وامعتصماه
    فأرسل المعتصم رسالة إلى أمير عمورية قائلا له: من أمير المؤمنين إلى كلب الروم أخرج المرأة من السجن وإلا أتيتك بجيش بدايته عندك ونهايته عندي. فلم يستجب الأمير الرومي وانطلق المعتصم بجيشه ليستعد لمحاصرة عمورية فمضى إليها، فلما استعصت عليه قال: اجعلو النار في المجانيق وارموا الحصون رميا متتابعا ففعلوا، فاستسلمت ودخل المعتصم عمورية فبحث عن المرأة فلما حضرت قال لها: هل أجابك المعتصم قالت نعم.
    فلما استقدم الرجل قالت له: هذا هو المعتصم قد جاء وأخزاك قال: قولي فيه قولك. قالت: أعز الله ملك أمير المؤمنين بحسبي من المجد أنك ثأرت لي. بحسبي من الفخر أنك انتصرت فهل يأذن لي أمير المؤمنين في أن أعفو عنه وأدع مالي له. فأعجب المعتصم بمقالها وقال لها: لأنت جديرة حقا بأن حاربت الروم ثأرًا لك. ولتعلم الروم أننا نعفو حينما نقدر.
    – عن الويكيبيديا –
    هل تقصد بمقالك هذا يا دكتور فيصل بأن النخوة قد ماتت عندنا ؟؟؟
    أصبحنا لا ننتخي لقتلانا ولا لجرحانا ولا حتى لإغتصاب نساءنا ؟
    لا بارك الله فينا – فنحن من مكنا من يسومنا سوء العذاب بأيدينا
    ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول عبد الكريم البيضاوي . السويد:

      ياداود.
      هل فكرت كم من حروب كانت ستشتعل وكم من آلاف الأرواح ستزهق وكم من مئات الآلاف من النازحين وقوارب الموت الوبيوت المهدمة لو كان المعتصم اليوم بيننا, وكل من نادى ” وامعتصماه …وامعتصماه ” أشعل حربا لإنقاذه.
      أفضل سماع قصص ألف ليلة ليلة لأنني أعلم أنها قصص من صنع الخيال.
      تحياتي.

    2. يقول الكروي داود النرويج:

      سأحمل روحي على راحتي …………وألقي بها في مهاوي الردى
      فإما حياة تسر الصديق ……………………و اما ممات يغيظ العدى
      وما العيشُ – لا عِشْتُ – إن لم أكن ……..مخوف الجناب حرام الحِمَى
      إذا قُلْتُ أصغى لي العالَمُون ……………….ودَوَّى مقاليَ بين الورى
      لَعَمْرُكَ إني أرى مصرعي ……………………ولكن أغذ إليه الخطى
      أرى مقتلي دون حقي السليب ……………..ودون بلادي هو المبتغى
      يلذ لأذني سماع الصليل ……………………يُهَيّ ِج نفسي مسيل الدما
      وجسم تَجَدَّل فوق الهضاب …………………..تناوشه جارحات الفَلا
      فمنه نصيب لأسد السماء …………………ومنه نصيب لأسد الثرى
      كسا دمه الأرض بالأرجوان ………………وأثقل بالعطر ريح الصبا
      وعفَّر منه بَهِيَّ الجبين …………………….ولكن عُفارًا يزيد البَها
      وبان على شفتيه ابتسام ………………….معانيه هُزْءٌ بهذي الدُّنا
      ونام ليحلم حلم الخلود ……………………ويهنأ فيه بأحلى الرؤى
      لعمرك هذا ممات الرجال ……………….ومن رام موتًا شريفًا فذا
      فكيف اصْطِبارِي لِكَيْد الحقود ………….وكيف احتمالِي لِسَوْمِ الأَذَى
      أخوفًا وعندي تهون الحياة ………………….وذُلاًّ وإنِّي لرب الإبا
      بقلبي سأرمي وجوه العداء ……………..وقلبي حديد وناري لظى
      وأحمي حياضي بِحَدِّ الحُسَام ……………..فَيَعْلَمُ قومي بأنِّي الفَتَى
      – للشاعر الفلسطينى الشهيد عبدالرحيم محمود –
      مع تحياتي ومحبتي وإحترامي لك يا جاري العزيز وللجميع
      ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول أبو يحي الجزائري:

    ” كم شعرت بالحزن وأنا أرى المسؤولين المصريين على شاشات التلفزيون وكأنهم يتحدثون من داخل قفص الاتهام وهم يردون على المطالب والتساؤلات الإيطالية المحرجة”. مقتطف من مقال د. فيصل القاسم
    لا يا دكتور فيصل أنا أشعر بالفرح لما أرى القتلة في هذا الموقف مهما كان القتيل،
    نعم النظام العسكري الإنقلابي أقام بنيانه الهش منذ البداية على جماجم ألاف المصريين الأبرياء الذي أبادهم – وكأنهم حشرات ضارة- أمام الحرس الجمهوري وفي رابعة والنهضة وغيرها،.
    نعم لقد قتل ” النظام النيروني” الطالب الإيطالي تحت التعذيب الوحشي، ولا شك في ذلك، ربما اعتقد أنه مواطن مصري، ولذلك يتصرف هؤلاء القتلة وكأنهم في قفص الاتهام” لأن دم الإيطالي المغدور لن يذهب هباء، سيكون ثمنه باهضا.
    ولكنه سيكون لعنة كذلك على العالم الغربي” الخائن للقيم الديمقراطية”، لعنة كذلك على الحكومة الإيطالية التي فرشت السجاد الأحمر لزعيم الإنقلابيين الدمويين.
    أفرح لأنني أشعر بأن ” خطيئة اغتيال الطالب ريجيني ستبين للغرب بأن من يحكم مصر هو زعيم عصابة اختطف دولة، إنه ضوء في وسط النفق المظلم ” لملكة الرعب” سيشكل بصيص أمل للمضطهدين في ” المعتقلات النازية” بأن اساعة الخلاص قد اقتربت.
    أفرح لأنني أرى بأن القتلة لن يهنؤوا بغنائمهم، سيعيشون تحت هاجس الملاحقة الدولية باعتبارهم مجرمي حرب، وسننتظر أولا ماذا سيفعل النائب العام الإيطالي

  3. يقول الصابر الايوبي:

    تحلبل رائع وواقعي للاسف

  4. يقول شفاء النعيمي - كندا:

    لا فض فوك ولا تربت يداك يا دكتور !

  5. يقول الدكتور أحمد نظام الدين:

    نعم احترموا شعوبكم كي يحترمكم الآخرون يامن تسمون أنفسكم زعماء ورؤساء …

  6. يقول ليبي مغترب:

    لقد أصبت الحقيقة في عينها ياستاذ فيصل نعم لاقيمة ولاحقوق ولا احترام للمواطن العادي في عالمناء العربي فهولا الحكام العرب المجرمين يعاملون شعبهم كقطيع من الغنم ويحكمونهم حتي الموت

  7. يقول أنيس زعبي لوس انجيليس اللايات المتحدة:

    أستاذ فيصل انك تنادي و تصرخ في وادي عميق لا قرار له…دع العرب لبناء ناطحات السحاب ودع الحكومات تتباهى بقتل شعوبها لتثبت لآسيادها الغرب ألأوروبي ألغربي وألأروبي الشرقي أنهم لماصلحهم هم الخادم ألأمين
    قالها مره الثعلب الصهيوني المسمى شمعون بيريس …دعهم يقتلوا بعضهم البعض فهذه اكبرخدمه يقدموها لنا نحن ألأسرائيليين وبلا أي مقابل
    لا أدري الى متى سوف نبقى نقول ما لك غير الله ايتها الشعوب العربيه
    لكن ألله قال أيضا أعقل وتوكل وقال أيضا أسع يا عبدي لآسع معاك

  8. يقول سامح // الاردن:

    * للأسف : لا توجد قيمة للمواطن ( العربي ) المنكوب ..؟؟؟
    سلام

  9. يقول سامح // الاردن:

    * ( الحاكم العربي ) همه الاول ( الكرسي )
    * تأمين وتثبيت الكرسي اهم من الشعب واهم من ( الوطن ) ..؟؟؟
    سلام

  10. يقول سامح // الاردن:

    * اكبر ( هجرة ) عقول وعلماء وخبراء ومن كل المهن
    الى ( الغرب ) تأتي من الدول ( العربية ) البائسة المنكوبة..؟؟؟
    سلام

1 2 3 4

إشترك في قائمتنا البريدية