يقول الشاعر ت. س. أليوت إن الشاعر هو الناقد في تجلياته التطبيقية، لهذا فإن مسوداته هي التي تشهد على ذلك، من خلال الحذف والإضافة، وبالفعل كانت تجربة الشاعر أودن في قراءة مسودات أليوت عملا بالغ الدقة، لهذا كان من الطبيعي أن تنشأ خصومات بين الشعراء والنقاد.
وقد أدرك محمود درويش مبكرا أهمية التفاصيل إذا وظفت فنيا، وأدرك أيضا أن شعرية الخطاب القومي الصاخب لا تؤدي إلى الأهداف المرجوة منها، بمعزل عن النوايا، وحين قرأ أشعار حاييم بليك والصيحات المشحونة بالميثولوجيا، وما تبقى منه هو القليل، رغم شهرته وإطلاق اسمه على شوارع.
ورأى محمود أن التيار الشعري الحديث يجسده إلى حد كبير يهودا أميحاي، هو الأشد تأثيرا لأنه يتقمص دور الضحية ويحاول تمرير رؤاه من خلال صور شعرية جمالية.
وحين قال محمود في إحدى قصائده «لنُصاب بالوطن البسيط وباحتمال الياسمين» كان يتجه نحو أشكال تعبيرية غير مطروقة، وتحدث عن الإنسان الفلسطيني العادي في حياته اليومية الرتيبة، باعتباره بشرا قبل كل شيء وأن إبهاظ هذا الإنسان ببطولة متخيلة، قد يهدده بالخروج من الجغرافيا والإقامة في المكان المطلق، لهذا اختفى الشاعر الذي غالبا اجتذبه الياسمين بجدائل البصل والثوم المعلق في سقوف البيوت، ودافع عن حق الفلسطيني بأن يعيش كالآخرين ويكون أقرب إلى التاريخ من الأسطورة.
ورغم كل ما كتب عن درويش شاعرا وإنسانا، أثناء حياته، إلا أنه كان يشكو من جنوح النقد إلى السياسة، بحيث اختلط الأمر على نقاده، ولم يفكوا الاشتباك بين الشاعر والمثقف السياسي.
ولأن محمود نشأ في حزب سياسي حدد له جهة البوصلة لبعض الوقت، إلا أنه لم يكن سعيدا بوفرة الكتب، سواء كانت أكاديمية أو محددة في النطاق الإعلامي والصحافي، ما يحسم العلاقة الإشكالية بين محمود ونقاده، وما كان ينشأ من خصومات من صميم الشعر وجمالياته، ما كتبه في أثر الفراشة شعرا عن النقد، وفي أقل من صفحتين باح الشاعر بما كان يزعجه نقديا، وقال إنه تعرض لاغتيال نقدي، لأن النقاد يريدون منه القصيدة ذاتها والاستعارة ذاتها، يقول في هذه المقاطع إنه إذا مشيت في طريق جانبي شاردا، قالوا لقد خان الطريق، وإذا عثرت على بلاغة عشبة قالوا تخلى عن عناد السنديان، وإذا رأيت الورد أصفر في الربيع تساءلوا أين الدم الوطني في أوراقه، وإذا كتبت هي الفراشة اختي الصغرى على باب الحديقة، حركوا المعنى بملعقة الحساء. يغتالني النقاد أحيانا وأنجو من قراءاتهم وأشكرهم على سوء التفاهم، ثم أبحث عن قصيدتي الجديدة والحقيقية.
إن حصار الشاعر بصورة نمطية تسلل من النقاد إلى العامة، وفي إحدى أمسياته الشعرية قال للحضور سأقرأ لكم حصتكم من شعري، واتركوا لي فرصة قراءة حصتي.
وبالعودة إلى مفهوم الوطن البسيط يقول محمود إن الأم أم حتى لو كانت أم شهيد، وإنه لا يستطيع سماع زغرودتها بمعزل عن دموعها، وكان في فترة التحول الأخيرة من حياته الشعرية يسخر من الإفراط والمسرحة، بحيث يبدو المشهد أقرب إلى كاريكاتير. ويذكرنا محمود برسالة كتبها الشاعر التركي ناظم حكمت إلى زوجته نوار قال فيها، إنه بحاجة إلى سروال من الصوف في برد الزنزانة أكثر من حاجته إلى الشعارات والأناشيد، إن ما يجعل شعر محمود قابلا للتصديق والتغلغل في وجدان القراء هو هذا البعد عن التهويل والمبالغات، لأن الإنسان في نهاية الأمر إنسان له طاقة على الاحتمال، لهذا يقدم لنا أدب السجون نماذج صادقة لأن من يدس أصابعه في الجمر ليس كمن يتدفأ عليه عن بعد. إن تلك المقاطع من قصيدة اغتيال لمحمود درويش تستكمل عناصرها وهي أقرب إلى مانفستو نقدي كتبه شاعر.
٭ كاتب أردني
خيري منصور
/يقدم لنا أدب السجون نماذج صادقة لأن من يدس أصابعه في الجمر ليس كمن يتدفأ عليه عن بعد/..
أولا.. بالنسبة للشق الأخير من هذا المقتبس.. المنطق التعبيري أو التعبير المنطقي يقول /لأن من يتدفأ على الجمر عن بعد ليس كمن يدس أصابعه فيه/.. ولا يقول العكس..
ثانيا.. ليس هناك في الحقيقة /أدب صادق/ بالمعنى الحرفي لكلمة /صدق/.. الأدب أيا كان /كذبة/ في حد ذاته وذلك من أجل الوصول إلى الحقيقة.. كما يقول صامويل بيكيت بما معناه..