اعتقال العشرات من رجال الدين والدعاة في السعودية خلال الأسابيع القليلة الماضية استوقف العالم، وفرض السؤال: هل الموقوفون مذنبون أم ضحايا؟ عددهم يناهز الأربعين، أبرزهم اشتهروا على مواقع التواصل الاجتماعي من أمثال سلمان العودة وعوض القرني وعلي العمري.
المعروف عن هؤلاء أنهم لا ينتمون إلى مدرسة واحدة، سياسية كانت أم عقائدية، وإن كان أكثرهم مُصنَّفين خارج دائرة المؤسسة الدينية الرسمية. كما أنهم لا يشكلون مجموعة متجانسة في مواقفها من الشأن العام سعوديًا وإقليميًا. المعروف عنهم أيضا أنهم مقربون من الدائرة المتنفذة في العائلة المالكة، أو شركاء معها وإن بأشكال وطرق ومسافات مختلفة.
لا أحد من الموقوفين يصنّف نفسه معارضا. جمعيهم فعلوا كل ما في وسعهم للابتعاد عن «شبهة المعارضة»، فيلتزمون الصمت عندما تنكل السلطات بـ»الليبراليين» والناشطين، بل حتى عندما يتعرض واحد منهم لظلم الحكام.
أكثر من ذلك، السلطات السعودية المتعاقبة هي صاحبة الفضل على أغلبيتهم. هي التي شجعت، بأشكال وطرق مختلفة، انتشارهم الجماهيري حتى راكَمَ بعضهم ملايين المتابعين في العالم الافتراضي، مقابل رضاهم بالبقاء في مربع العمل الدعوي والنقاش الديني المجرد والبعيد عن الواقع الأليم الذي يعيشه ملايين السعوديين.
تلك هي الصفقة غير المعلنة التي أراحت الطرفين، فكان من ثمراتها استمرار تكلس أجهزة الحكم حتى باتت عصيّة على الإصلاح، وتأخّر ميلاد مجتمع مدني وسياسي واعٍ ومؤثر في بلاد يتجاوز عدد سكانها 32 مليون نسمة تُركوا فريسة للتجهيل السياسي والنقابي وللجدل الديني الذي لا طائل منه ولا نهاية له.
لا يمكن لصفقة كهذه إلا أن تصب في صالح السلطات الحاكمة وطريقة إدارتها للبلاد وخيراتها. ولا يمكن للأسرة الحاكمة في السعودية أن تحلم بأكثر من هذه الصفقة لتأمن على نفسها من دعاة يحظون بكل تلك الشعبية والثقة بين عامة الناس. حتى في محطات الاختلاف مع المؤسسة الملكية، لم تحدث القطيعة بين «الجريئين» من هؤلاء الدعاة والمؤسسة الحاكمة. ظل كل طرف، من موقعه وحساباته، يدرك أن زواج المصلحة مفيد للاثنين وأن الطريق طويل سيحتاج خلاله كل طرف إلى الآخر.
اليوم نحن في محطة من محطات الطريق الطويل، فيُعتقل هؤلاء ليس بسبب مواقف جريئة وتاريخية، رغم أن حالة السعودية اليوم تتطلب مواقف سياسية ودينية وثقافية جريئة وعلنية. بل اعتُقلوا بسبب التهور وغياب النضج لدى من يحكمون المملكة، وإلا كيف يصل بهم الأمر إلى اعتقال دعاة لا يشكلون خطراً إلا على الوعي الاجتماعي.. وهم في الأصل سندهم وحليفهم الطبيعي، خصوصا مع إفلاس المؤسسة الدينية الرسمية؟
لا يُعرف عن الموقوفين أنهم معارضون للتوجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي للمملكة. ولا يُعرف عن أحدهم معارضته لانتقال المُلك إلى ولي العهد محمد بن سلمان خلفا لوالده متى ما شاء الولد ووالده. ولا يُعرف أن أحدهم عارض «الانقلاب» الذي أطاح بولي العهد السابق محمد بن نايف. ولا يُعرف عن أحدهم وقوفه جهرا ضد المذبحة المفتوحة في اليمن والمستمرة منذ ثلاثين شهراً. ولا يُعرف لأغلبهم موقف واضح من طبول الحرب التي تُقرع صوب إيران. وكذلك الشأن بالنسبة للأزمة مع قطر. (قد تشكّل الأزمة مع قطر استثناءً من حيث أن السلطات السعودية تواصلت مع بعضهم وطالبتهم بتأييد ما أقدمت عليه، كما فعلت مع كتّاب وصحافيين ومثقفين. فكان رد الفعل من الدعاة استجابة تراوحت بين صمت قد يُفسّر رفضا لافتعال العداء مع قطر، بينما يعتبره القصر الملكي وصقوره معارضةً له، وتأييد لا يُعرف إن كان حقيقيا أو انتُزع من أصحابه في ظروف الاعتقال).
المحصلة أن هؤلاء يدفعون ثمن مواقف لم يتخذوها ومعارضة لم يجرؤوا عليها. والسلطات، بهذا الاعتقال، تكشف عن ضيق غير مسبوق بالصمت (في السابق كانت تضيق بالكلام) تعبّر عنه الحملة التي استهدفتهم في الإعلام السعودي. لكن الاعتقال يعوّض هؤلاء الشيوخ بعضا مما خسروا من مصداقية بسبب مواقفهم المتلونة أو المنعدمة عند الظروف والأزمات التي تتطلب مواقف.
ما لم يتوقعه صاحب قرار الاعتقالات الجماعية أن ما أقدم عليه سيضعه تحت دائرة الضوء والانتقاد دوليا، وأن ضرر فعلته يفوق نفعها. أما داخليا فالموقوفون هم صمّام الأمان بين أسرة حاكمة بحاجة إلى تماسك ومجتمع يغلي في منطقة تغلي. وباعتقالهم أمست الأسرة بلا صمّام إلا من المنظومة البيروقراطية العقيمة والمؤسسة الدينية الرسمية التي فقدت المصداقية وثقة الناس فيها لكثرة ما أصدرت من مواقف وفتاوى تحت الطلب.
في مجتمع قبلي وديني يعاني كل أنواع الفراغ، بإمكان هؤلاء الدعاة، حتى على اختلاف مدارسهم ومشاربهم، تشكيل «لوبي» سياسي واجتماعي وديني شديد التأثير في أيٍّ من الاتجاهين: ضد السلطة أو معها. بإمكانهم أن يكونوا صنّاع رأي عام وقوة تغيير، لكنهم إلى الآن ليسوا أكثر من «قوة تخدير».
٭ كاتب صحافي جزائري
توفيق رباحي
إنها الحرب الإستباقية !
فكل من لا يؤيد الحصار على قطر شخص غير موثوق بولائه !!
ولا حول ولا قوة الا بالله