الناصرة ـ «القدس العربي» ـ وديع عواودة: وصل الأب بول ساوما، راهب لبناني إلى دير اللطرون الواقع في منتصف الطريق بين القدس ويافا طفلا في الثانية عشرة من عمره ولم يبرحه حتى اليوم. 72 سنة على التوالي قضى منها خمس سنوات في الدراسة قبل أن يرتسم راهبا، واظب على حياة الرهبنة 67 عاما دون انقطاع داخل هذا الدير النادر الذي يعتبره «جنة الله على الأرض». «القدس العربي» زارت الدير وحدثنا أبونا بول عن تجربته في الدير المدهش بجماليته في مظهره وجوهره وسكينته والقائم على سفح تلة اللطرون، ظهره للقدس ووجهه للبحر ومحاط بالكروم والغابات. الأب بول الذي يتقن اللاتينية، والفرنسية، والعربية، والعبرية والسريانية كانت الحرب العالمية الثانية سببا في انتقاله من لبنان إلى هنا
. ويشير إلى أن أحداث الحرب العالمية الثانية عطلت المدارس في لبنان أيضا فوجد ذووه ضالتهم في مدرسة الدير الداخلية. وعن ذلك يقول بلهجة تعكس إنفعالا داخله «قدمت للدير في مطلع 1945 من منطقة جبل صنين العالي كطفل وكان عمري 12 سنة. وفي الشهور الثلاثة الأولى بكيت كثيرا حتى جفت دموعي بسبب الوحدة. بدأت أتأقلم بعد غربة صعبة بدون أم ولا أب ولا أخت ولا معارف ولم أفهم اللغة الفرنسية لأنهم وقتها كانوا رهبانا فرنسيين فقط». أما اليوم فيؤكد بلهجة قاطعة تنم عن فرح عميق إنه يعيش في جنة الله على الأرض يتمتع بعمله وعبادته كل يوم من جديد ولا يعرف طعم الكلل والملل. زرناه في عز موسم قطاف الزيتون وهو يشارك في العمل الفعلي مع بقية الرهبان والعمال الذين يتم تشغيلهم في القطيف وتغمره فرحة الفلاح في موسم الحصاد وذلك رغم أن المسيرة مع هذا العمل بدأت قبل سبعة عقود. وقتها بدأت حياة الرهبنة غداة عودته لبيته في لبنان بعد خمس سنوات من مغادرته للتعلم. ويستذكر ذلك مستعينا بذاكرته الخصبة: «أبلغني الرهبان أنني الآن وبعد نهاية التعليم حر ولي الخيار أن أعود لأهلي أو أصبح راهبا. عدت لأهلي واستشرتهم وقلت لهم إنني أعيش داخل جنة وحياتنا تتراوح بين العمل والتعلم والعبادة فشجعتني والدتي للبقاء في الدير». وعن ذلك يضيف باعتزاز ومحبة «كانت أمي ترغب بمرافقتي للدير ولم يتمكنوا من زيارتي لأن الحدود أغلقت بعد حرب 1948. كانت والدتي سيدة متدينة جدا وهي التي علمتني الدين».
نبع السعادة
ويؤكد أن مصدر السعادة توفيق الرهبان بين عبادة الله والعيش معه كل اليوم لافتا لأدائهم ثماني صلوات يوميا واحدة في الليل والبقية خلال النهار. ويشدد على أن كل الصلوات تمتاز بإقبال وخشوع كبيرين كأنها الأولى وفي كل منها يتواصل مع الله. ويعتمد دير اللطرون الذي ترأسه أبونا بول 30 عاما نظاما داخليا صارما إذ يخلد الرهبان للنوم عند الساعة التاسعة ويستيقظون قبيل الثالثة فجرا كل يوم. بيد أنه يؤكد أن الحياة هنا جنة: «نعيش مع الله بفرح وسلام، حياتنا روحية وأخوية بين الرهبان رغم فارق الأجيال بين 20 وبين 85 وهذه سعادة ما بعدها سعادة والحمد لله». وردا على سؤال يوضح أن الرهبان يتعاملون معه كالأخ الكبير في الدير. ولكن الأيام تتوالى والبشر يتعرضون للملل والإرهاق فهل تجربتك مختلفة؟
«الحمد الله لم أتعب ومع تقدم الأيام يزيد الحب ويكبر ومحبة الله تحافظ عليك وتقربك منه تجعلك تحب كل شيء». وعن الحرمان من الزواج والابتعاد التام عن المرأة يقول إن الراهب يتفوق على نفسه ويبقى بعيدا عن الزواج بفضل محبة الله التي تبقيه مسرورا بحاله وتغنيه عن حب المرأة وتسد الفراغ حتى لو كان ذلك منافيا للطبيعة الإنسانية.
قراءة
وعلاوة على الصلوات هناك فعاليات أخرى كالدروس في اللاهوت والفلسفة والمطالعة يوميا وعن ذلك يقول الأب بول إن الدير ينفق على غذاء الروح أكثر مما ينفقه على غذاء البطن، مشيرا للمكتبة العملاقة في الدير الحاوية لـ 65 ألف كتاب بلغات كثيرة ويتولى رعايتها راهبان. وردا على سؤال يوضح الراهب الفلاح أنه يقرأ أيضا مضامين علمانية كالأدب والثقافة والأدب الكنعاني والأدب المصري وغيره مثلما يقرأ كثيرا بالفرنسية واللاتينية.
الطعام
ويكرر أبونا بول عدم اهتمام الرهبان بغذاء البطن مقارنة مع غذاء الروح ويقول إنهم يعدون طعامهم وإن هناك مسؤولا عن المطبخ. ويضيف بتواضع «نأكل طعاما متواضعا بسيطا عبارة عن خضرة وفواكه. القليل من السمك أما اللحوم ممنوعة أبدا إلا بحال كان الراهب مريضا ويحتاج للحمة. نحن نباتيون».
وبخلاف الكثير من الأديرة يعتمد الرهبان في دير اللطرون في معيشتهم على أنفسهم فقط بالعمل ويرفضون بتاتا المساعدات ويعتبرون الحسنات والصداقات ممنوعة.
يتبرع بـ 91 ٪ من منتوجاته
ويعتاش رهبان الدير من زراعة كروم العنب وإنتاج النبيذ وكروم الزيتون وتسويق زيته بعد عصره في معصرة خاصة بهم. وعن ذلك يوضح «الحمد لله شغلنا ناجح. نملك 750 دونم عنب للنبيذ وهو طيب المذاق للأكل أيضا ونملك 23 ألف شجرة زيتون أعطتنا في العام الماضي 35 طن زيتا وهذا العام سنتجاوز الـ 40 طنا. الرهبان يعملون وهناك عمال يساعدوننا. نستخدم لاستهلاكنا 9٪ فقط من إنتاجنا والبقية نتبرع بها مساعدات لأنه يحظر علينا أن نغتني فنتبرع بكل ما يزيد». في غزة على سبيل المثال يتكفل دير اللطرون 87 عائلة كل منها تحصل على 120 دولارا شهريا وفي الضفة الغربية عدد أكبر بكثير من هذه العائلات ولا فرق لأي دين تنتمي، كما ونساعد عائلات ومؤسسات.
بني هذا الدير عام 1890 وهو دير لاتيني اكتسب تسميته من الموقع اللطرون حيث كانت قرية فلسطينية مسيحية قد هجرت في نكبة 1948 وهناك من يرجح أن التسمية أصلها فرنسي وتعني «برج الفرسان» وتمتد مساحة الدير على 2400 دونم نصفها تم شراؤها بفضل عمل الرهبان. وقبل ذلك كان ديرا صغيرا على شكل فندق صغير بين القدس ويافا ولاحقا قاموا بتوسيعه حتى اكتمل بصورته النهائية اليوم كان يدعى دير باب الرب. وعلى بعد كيلومتر عنه هناك دير تلاميذ عمواس حتى اليوم وهي من قرى اللطرون التي دمرت في حرب 1967 سوية مع قريتي يالو وبيت نوبا.
النكبة
في حرب 1948 خسر الدير بعض أراضيه وشهد معارك طاحنة من حوله بين المنظمات الصهيونية وبين الجيش الأردني وسقطت 400 قذيفة إسرائيلية على الدير وطار سقفه القرميدي وقتل راهب وأصيب راهبان كما يؤكد الأب بول ساوما. ويضيف «لم يسمعنا الإسرائيليون ولم يكترثوا بنا وكانوا يدمرون ويكسرون ولاحقا تعرفوا علينا بعد الهدنة فصارت العلاقات أحسن».
يافا
وقبيل النكبة كانت يافا مدينة عامرة تفور بالحياة، يستذكر الأب بول ويقول إنه زارها عدة مرات لشراء احتياجات الدير ويتابع «كانت مدينة تعج بالحياة بأسواقها ومينائها ومؤسساتها. كانت مسكونة من قبل أغلبية فلسطينية وأقلية يهودية. كانت متطورة جدا وجميلة وفيها كل ما تريد».