دير سانت كاترين: قطعة أثرية تاريخية نادرة في قلب الصحراء

حجم الخط
1

اضافة إلى سواحل البحر الأحمر الذهبية ومطاعم الأسماك وحمامات السباحة وغيرها من متاع الدنيا ضمن المرافق السياحية في طابا وشرم الشيخ، يمكن للزائرين من محبي الطبيعة والباحثين عن المعرفة ان يعرجوا على بعض المعالم الجغرافية والتاريخية الفريدة والقريبة مثل جزيرة فرعون أو الدير الأسطوري «سانت كاترين» أو جبل موسى. في هذا الربيع كنا قد حققنا أمنية قديمة طال ارجاؤها بزيارة دير القديسة كاترين، سانت كاترين، أو دير طور سيناء وهو واحد من بين أكثر الأديرة المنتشرة في المشرق والمغرب عراقة وخصوصية ويشكل أحد أهم المراكز الأرثوذوكسية للتنسك والتوحد تتواصل فيه الحياة زهاء أربعة عشر قرنا دون انقطاع. اقيم في وسط سيناء في عهد الامبراطور البيزنطي يوستينيانوس في القرن السادس، وفاز بحماية ورعاية الدول الإسلامية المتتالية منذ ظهور الإسلام.
كان دير القديسة كاترين ولا يزال معلما تاريخيا وسياحيا بارزا تربطه مع صحراء شبه جزيرة سيناء علاقة متبادلة من العظمة والهيبة والوقار. ورغم زعزعة الأمن في سيناء ما زال الدير يستقطب سائحين يأتون من كافة أصقاع الدنيا طيلة أيام السنة ومنهم من يصله في ساعات الفجر لرصد طلوع الشمس وهي لحظة ممتعة للنظر تبعث على التمعن والتفكير مثلما هي ساعة الغروب أيضا، لكن عدد هؤلاء في تراجع مستمر. أما سر غرابة المشهد الطبيعي المهيب فيعود إلى ارتفاع منطقة الدير 2664 مترا ما يفسح المجال لرؤية خليجي السويس والعقبة معا كما يبدوان شعبتين متقارنتين في الأطلس الجغرافي. ويبعد الدير من الطريق الرئيسي الموصل بين طابا وشرم الشيخ إلى الغرب نحو 80 كيلو مترا يتسلق فيها الزائرون بمراكبهم دروبا معبدة في حالة ممتازة حتى بلدة سانت كاترين وسط سلسلة من الجبال متعددة الألوان، جرداء تناطح السماء وعلى حافتيها ترى بعض قطعان ماعز سمراء هزيلة تسير متكاسلة بحثا عن كلأ قليل. بعد تسديد رسوم الدخول بقيمة ثلاثة دولارات لوزارة السياحة المصرية يستطيع الوافدون التقدم إلى الدير سيرا على الأرجل مدة عشر دقائق ولمن يستوحش ذلك له ان يستعين بقوافل الجمال التي يستخدمها البدو هناك للمواصلات.
الدير الذي يقع على سفح جبل شاهق وبمحاذاة واد يمتد على نحو عشرين دونما وفي كافة جنباته يستطيع الزائر ان يسمع المرشدين المصريين الشباب يقودون المجموعات السياحية وهم يشرحون قصة المكان في مختلف اللغات الأجنبية.

حياة الزهد

المرشد احمد، الذي يجيد الكثير من اللغات قدم من الاسكندرية للعمل مرافقا سياحيا لزائرين من أوروبا قال متوددا، ان الانكليز والألمان هم أكثر المجموعات السياحية انتظاما، لافتا إلى ان الطليان يميلون بأطباعهم للشرقيين. وداخل الدير الذي يتشكل من كنيسة وحجيرات وصوامع للتوحد ومكتبة وأبراج للحمام وحديقة من أشجار الزيتون والنخيل والسرو، يعيش اليوم 23 راهبا معظمهم من اليونانيين منهم ثلاثة رهبان من مصر والأردن ولبنان يتقاسمون المسؤوليات فيما بينهم من مرافقة الزائرين إلى الاهتمام بحراسة الموجودات الثمينة وتولي مسؤولية طعام وشراب النزلاء المتوحدين الذين ما زالوا يحافظون على حياة التقشف والتزهد ويقومون بتحضير الخبز بأنفسهم بالطريقة البدائية مرة في الأسبوع وغالبا ما يكون طعامهم نباتيا على شكل خضراوات مسلوقة.
الأب ينة راهب يوناني نحيف البنية، علامات النشاط بادية في حركاته، يستيقظ كل يوم في الثالثة فجرا لاداء مهمته الثابتة في قرع جرس الكنيسة. أما المساعدات الخارجية التي تصلهم من أرجاء مختلفة من العالم فتنفق في دعم فقراء البدو سيما في البلدة المجاورة للدير والتي اكتسبت اسمه. رغم صحراوية المكان والسماء الصافية تسود منطقة سانت كاترين في الصباح أجواء باردة ولولا أشعة الشمس التي تبعث الدفء لتجمد كل شيء هناك بسبب ارتفاعها الذي تسبب في سقوط الثلوج في قلب الصحراء أحيانا، وهذه ليست حالة نادرة. وأوضح الأب خريستو وهو صديق شخصي لإمام بلدة سانت كاترين الشيخ محمد البكر ان الدير يحافظ منذ 14 قرنا على طراز الحياة المتقشف، إذ يمضي الرهبان المتوحدون معظم أوقاتهم في التعبد والعمل في المنجرة أو الفرن والقراءة وصيانة المكان المقدس واستقبال زائريه طيلة أيام الأسبوع عدا الأحد والجمعة من الساعة الثامنة صباحا حتى الثانية عشرة ظهرا.

الأخوية السينائية

وردا على سؤالنا حول الدافع لتوحده في هذه المنطقة النائية والصعبة قال: «هي الرغبة في ممارسة الفضائل المسيحية النابعة من الوصية الأولى ـ أحب الرب الهك ـ والانخراط في عمل الخير الخالص لوجه الله». ولفت الأب خريستو إلى ان الدير يتبع نظاما داخليا صارما خاصة بالأخوية السينائية منذ قرون يشرف على تنفيذه رئيس الدير وهو رئيس أساقفة كل سيناء ويسام من قبل بطريرك القدس، وأضاف «الحياة داخل الدير اشتراكية يتساوى فيها الرهبان حسب قوانين الحياة التوحيدية ويصلوا مشتركين في ساعة معينة من النهار مثلما يتناولون طعامهم حول مائدة واحدة».

العليقة الملتهبة

وكان الرهبان المتوحدون قد اختاروا هذا المكان النائي مركزا لهم لمجاورته موقع «العليقة الملتهبة» جبل النبي موسى حيث كلمه الله، وقد بنى مهندس الامبراطور يوستينيانوس الدير وأحاطه بسور عظيم ليحمي نزلائه من البرابرة والغزاة، وفي العام 1798 تهدم الجدار المحيط جراء الأمطار الغزيرة فأعاد تشييده نابليون بونابرت الذي احتل المنطقة آنذاك. ويتراوح ارتفاعه من عشرة إلى عشرين مترا ويبلغ عرضه ثلاثة أمتار وفيه عدة مداخل حديدية وخشبية. وبنيت على طول الواجهة الداخلية للدير – الحصن صوامع المتوحدين وأبنية أخرى متفرقة وكنيسة تشمل تسعة معابد. كما بنيت أقواس وقباب من أجل تسوية الأرض الوعرة، شيدت فوقها الصوامع والكنائس. وفي العام 1951 اقيم على أساسات السور من الجانب الشمالي جناح جديد للدير يضم مكتبة ومعرض الأيقونات والرسوم وغرفة طعام وشقة رئيس الأساقفة وبجوارها دار ضيافة.

أرز لبنان

لكن القسم الأهم في الدير هو الكنيسة الرئيسية المبنية من الحجر الصواني (البازلت) على الطراز الملوكي ذي الثلاثة أقسام تتألف من قدس الأقداس والقدس والرواق. ويرجع عهد الجدران والأعمدة والسقف الخشبي والفسيفساء إلى فترة حكم الامبراطور يوستينيانوس، فيما يغطي السقف القديم سقف خشبي بني في القرن الثامن عشر، أما أبواب الكنيسة الخشبية المنقوشة فقد صنعت من أرز لبنان في القرن السادس ومنها ما بني في القرن الحادي عشر على يد الصليبيين. وفوق قوس الهيكل المقدس هناك فسيفساء في غاية الروعة تعرف بفسيفساء التجلي، لا تزال في حالة جيدة موضوعها مستوحى من انجيل متي، حيث يوجد السيد المسيح عليه السلام في الوسط وعن يمينه وشماله النبي ايليا والنبي موسى والتلاميذ الثلاثة بطرس ويعقوب ويوحنا. كما توجد أيقونات كثيرة من أبرزها أيقونة تبين النبي موسى أمام العليقة الملتهبة وهو يخلع حذاءه من قدميه، ورسم آخر وهو يتسلم لوحتي الوصايا العشر وشخصان مكللان بهالة من النور وكذلك ملاكان يقدمان الهدايا للحمل رمز السيد المسيح. وخلف هذه الكنيسة تقع كنيسة «العليقة القديمة» حيث يدخل الزائرون إليها حفاة إحياء لذكرى أمر الله للنبي موسى، وهي الأخرى مرصعة بالأيقونات والرسومات. أما جرسية الدير فقام ببنائها المتوحد غريغوريوي حافظ الأواني المقدسة في الدير عام 1871 وفيها 12 جرسا من أحجام مختلفة كان قدمها قياصرة روسيا. وفي معرض الأيقونات والرسوم يعرض الدير اليوم 150 أيقونة مختارة من بين نحو ألف ذات قيمة روحية وتاريخية وفنية من بينها أيقونات نادرة صممت في القرن السادس على طريقة الشمع المذوب وفنها مزيج من الطراز اليوناني والسرياني والقبطي.

أرشيف نادر

أما مكتبة الدير فهي في المرتبة الثانية في العالم بعد مكتبة الفاتيكان من ناحية العدد وقيمة المخطوطات، حيث توجد فيها ثلاثة آلاف مخطوطة ثلثاها يونانية وباقيها عربية وإسلامية وقبطية وأرمنية واثيوبية وأغلبها ذات فحوى مسيحي. ومن أهم هذه المستندات التاريخية السجل السرياني العريق المكتوب في القرن الرابع ميلادي. كما كان يوجد السجل السينائي وهو أثمن مخطوط في العالم يحتوي على النص اليوناني للكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد وفي العام 1865 استعاره باحث ألماني باسم امبراطور روسيا ولم يعد هذا السجل وقد اشتراه المتحف البريطاني عام 1933 مقابل 100 ألف ليرة. ويمتد بستان الدير كمثلث طويل في الناحية الغربية وهو عبارة عن واحة حقيقية داخل الجبال الصوانية أقامها الرهبان الذين جلبوا التراب من بعيد وحفروا الآبار لاستجماع مياه الأمطار والثلوج بفضل عمل جماعي طالما شكل ركنا هاما في حياتهم.

مقبرة الدير

وداخل البستان توجد مقبرة الدير على شكل معبد صغير أعد تحته مكان لدفن الموتى من المتوحدين الذين يدفنون في مقبرة صغيرة ثم تنقل عظامهم إلى مخبأ العظام. وعمر تقاليد تجميع الجماجم والعظام هو بعمر الدير، ويبدو ان البيئة الصخرية القاسية حالت دون حفر الأضرحة ودفعت المتوحدين إلى استحداث طريقة تخزين الهياكل العظمية إضافة إلى استخدام الموت موعظة كما توحي كومة مئات الجماجم. وقد سمي الدير بهذه التسمية لنقل رفاة القديسة سانت كاترين من الكنيسة في قمة جبل يحمل اسمها وهو أعلى جبل في شبه جزيرة سيناء ويبعد عن الدير مسافة خمس ساعات على الأقدام في طريق ضيقة مبنية من 1700 درجة منحوتة بالصخر ومنه يمكن للزائر أن يرى المشهد العجيب للبحر الأحمر بخليجيه من الشمال والجنوب. وبجواره يقع جبل سيناء أو جبل موسى على ارتفاع 2240 مترا ويبعد عن الدير مسافة ساعتين مشيا على الأقدام وفيه مغارة صغيرة دخلها كليم الله ومكث داخلها 40 نهارا و40 ليلة. أما القديسة كاترين فقد ولدت في الاسكندرية عام 194 لأسرة ارستوقراطية وثنية وتلقت علوم الفلسفة والخطابة والشعر والموسيقى والرياضيات والطبيعة في مدارس مختلفة وقد جعل منها جمالها الفتان وثقافتها المدهشة وأخلاقها الفضيلة، كما تؤكد المراجع عروسا يطلب يدها الجميع ولكنها رفضت كافة العروض إلى ان عرفها أحد النساك بالعروس الحقيقية للنفوس فاعتمدت ودعيت كاترين أي «الأكليل» بعد ان اعترفت بإيمانها بالمسيح، وفشل الامبراطور ماكسيميانوس في ثنيها عن دينها بواسطة 50 خطيبا أرسلهم إليها من أرجاء امبراطوريته. وبعد مرور ثلاثة قرون بانت رفاتها ونقلت من قبل رهبان الدير الذي بات يعرف باسمها في صندوق رخامي.

دير سانت كاترين: قطعة أثرية تاريخية نادرة في قلب الصحراء

وديع عواودة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول عبدالقادر /مصر الحبيبة:

    معلومات قيمة وشيقة استمتعت بها كثيرا فعلا مصر بلد غنية بحضارتها وثراها الفكرى والثقافى
    ربنا يحفظك يا بلدى ويحفظ كل بلادنا العربية

إشترك في قائمتنا البريدية