ذاكرة الرواية العربية

رحلة المائة سنة من الكتابة الروائية العربية تستحق اليوم منا أن نهتم بها من أجل أن نضعها في سقف الاستمرار والخلود والتجاذب مع الرواية العالمية، بعد أن تجاوزت المعضلات الأولى التي تصحب عادة نشوء الأجناس، أو التأسيسات الأولى من ضعف بنيوي وتركيبي من الناحية التقنية، كاختلاط الأجناس، لأن الحدود والفواصل غير واضحة وتتداخل أحياناً فنجد الشعر يصحب الخطابة والسرد في علبة موحدة اسمها الرواية، البحث المستمر عن اللغة الروائية، الثرثرة التي لا تعني الشيء الكثير من ناحية البنية السردية التي تتطلب منطقاً وعقلاً واضحاً، الدرس الأخلاقي والمجتمعي الذي يفترض أن لا تعيد الرواية إنتاجه بأدواته ولكن بوسائلها الفنية الخاصة.
لا بد إذاً من موسوعة روائية ذات نفس عالمي تعريفي، عالية القيمة، تشتمل على أهم المنجزات العربية التي تركت صدى محلياً وعالمياً، شبيهة بموسوعة لابلياد la Pléiade الفرنسية، التي جمعت بين مجلداتها ما أنتجته، وتنتجه العبقرية العالمية التي لا تتوقف عن تكوين منجزها وتجديده وإدهاش قارئها.
تظهر فيها اللحظات الفاصلة التي حكمت الرواية العربية وحددت مفاصلها التاريخية والجمالية. ويكون المنجز المستهدف بطباعة فاخرة، ومميزة، تخرج قليلاً عن المألوف والمتداول ثقافياً وروائياً.
وتشكل الذاكرة الجمعية العربية الحافظة لميراث أمة من الأمم في زمن المحو المستمر، وتواصل تفكك العالم العربي بحيث أنه مهدد بالفناء والموت إذا سار الوضع الحالي على الوتيرة نفسها. الهدف من وراء الموسوعة الروائية الحفاظ على الرابط الثقافي بين الأجيال وبين الثقافات العربية التي تخترقها العلائق التناصية المترتبة عن الاستعمارات المختلفة أو حتى بدون ذلك، أي كنصوص حرة بحكم التعدد الثقافي الإنساني، لأن العالم العربي ليس خارج التجاذبات العالمية من حيث التأثير الثقافي. وهو ما تولدت عنه الكثير من الأجناس على رأسها الرواية. نستطيع طبعاً، ضمن هذه الموسوعة، أن نتحدث في المقدمات التمهيدية عن الأشكال الأولى التي هيأت سردياً للميراث الانساني وليس العربي فقط. الذي يمكن أن نسميه المرحلة البدئية في ظل القطيعة مع ألف ليلة وليلة، رحلة ابن جبير، رسالة الغفران، حي بن يقضان، السيرة الهلالية. التي لم يكن ينقصها الكثير لتصبح نصوصاً متكاملة وكبيرة.
القطيعة التي فرضتها النهضة المبتورة قتلتها، بل أنست أجيالاً كاملة الذاكرة الجمعية. صحيح أنها ليست روايات بالمعنى الأوروبي، ولا حتى بالمعنى العربي المتوارث، لكنها أشكال سردية محايثة وقوية، تنتظم فيها الحكاية بشكل دقيق وواضح. تستحق الرواية العربية في سقف تطورها الحالي، هذه الموسوعة الكبيرة والاستثنائية التي تعيد لها قيمتها كجنس كبير وتفتح أمامها أبوابًا كبيرة للتطور ليس فقط بوصفها أهم الأجناس الأدبية اليوم، ولكن الجنس الذي استطاع عالمياً وعربياً تتبع لحظات ارتقاء وانحدار الوجدان العربي بتوصيفه ثقافياً وحضارياً واجتماعياً وإنسانياً، من خلال نماذجه الأدبية العالية التي اخترقت المحلية وضاهت العالمية. يمكن تقسيم هذا المتن الكبير اللاحق للميراث الأول، إلى مجموعة حقب حية.
الحقبة التأسيسية، ويمكن أن تنضوي تحتها رواية زينب فواز: «حسن العواقب»، التي فتحت السبل المغلقة عربياً على نموذجية سردية جديدة، ورواية زينب لمحمد حسين هيكل، والأيام لطه حسين، وسارة للعقاد، تلحق جزئية مهمة كثيراً ما أهملت تتعلق بالجهد الرومانسي الذي تبلورت فيه اللغة الأدبية بشكل عميق، بعد أن بينت الأبحاث اللسانية أن حصر اللغة في فعل القداسة يقتلها ويمنعها من الحياة. روايات صغيرة كروايات جبران ومي زيادة ويمكن أن تضاف إليها الروايات التاريخية لجرجي زيدان بوصفها تأسيسًا أخرج الخطاب السردي من دائرة الانغلاق. يجب أن تجد مكانها في موسوعة شاملة والخروج من دائرة التقسيمات السياسية القديمة.
وهذه الحقب هي عبارة عن ممارسات قبلية تظهر فيها التأثيرات العالمية وفعل المثاقفة. ثم حقبة الترسيخ التي أصبح فيها الجنس الروائي العربي حقيقة موضوعية. ويمثلها بامتياز نجيب محفوظ، وكل الجيل الذي سار في أثره وفي أثر القطيعات السردية التي أحدثها في سرده الجديد، وحنا مينة، خريف، والطيب صالح، ووطار، ابن هدوقة، إسماعيل فهد إسماعيل، زهور ونيسي، محمود المسعدي، صنع الله إبراهيم، ليلى العثمان، خناثة بنونة. جمال الغيطاني، عبد الرحمن الربيعي. عبد الرحمن منيف. نبيل سليمان، إبراهيم الكوني، وأسماء أخرى.
ويمكن ضبط الحالة الراهنة للرواية العربية في تجليها وفي انتفائها أيضاً. أصبحت فيها الرواية العربية، بالخصوص بعد نوبل، تلعب في الساحات العالمية الكبيرة من خلال الجوائز العالمية والترجمات في كبريات دور النشر. ظهر جيل شديد الحساسية لما يحيط بعصره. رهانه أن يكتب رواية تندرج داخل النسق الأدبي، تقطع مع العلاقة المرضية بالأيديولوجية. يمكن تسجيل العديد من النصوص في هذا السياق. تاج السر. إلياس خوري. رجاء عالم، عبدو خال. علاء الأسواني، إبراهيم نصر الله. إبراهيم عبد المجيد، أحلام مستغانمي، سميحة خريس، ليلى الأطرش، بنسالم حميش، وغيرهم. في المسارات الجديدة نفسها، جيل أصغر لكنه أدق في بعض نماذجه. تخلى نهائياً عن يقينيات الأجيال المتعاقبة في ظل حياة عربية لم تعد تضمن فسحات كبيرة ومقروئية شروطها تكثر وحاجاتها الجديدة تترسخ.
وصاحب هذا الجيل الشاب الخيبات الكبرى، فسجلها بحثاً عن مجتمع آخر أكثر إنسانية وديقراطية وجمالاً. تجاوز الديكتاتوريات التي خاضت ضدها الأجيال السابقة حرباً ضروساً بدون التمكن من إسقاطها.
واعتمد هذا الجيل من الروائيين الجدد على المشكلات الكبرى التي تخترق المجتمعات العربية بقوة. مثل مشكلات الهويات، الحروب، الحب، الأحقاد، الخير والشر، المسخ الإرهابي، النظام والإسلاميين، وكل الثنائيات التي تصنع الذاكرة الإنسانية أمام تاريخها العميق. جيل كتابي وليس عمرياً، وجد نفسه في خضم المعضلات الإنسانية الكبيرة. الأمر الذي أعطى خصوصية عالية لنصوص هذا الجيل، خالد خليفة، عمارة لخوص، سعود السنعوسي، شكري المبخوت، بثينة العيسى، محمد علواني، حجي جابر، لينا هويان، حمور زيادة وغيرهم كثيرون. تستحق الرواية العربية موسوعة في قيمة موسوعة الثريا الفرنسية، وربما أجمل. مسألة رؤية وإمكانات لربط مختلف الأجيال العربية بتاريخها الروائي الكبير.

ذاكرة الرواية العربية

واسيني الأعرج

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    تحياتي للكاتب…مقترحك بشأن ايجاد موسوعة للرّواية العربية ؛ لهي موجودة ؛ وقد أصدرتها كتارا (2016) تحت عنوان : الرّواية العربية في القرن العشرين : التأسيس والتطويروالظهوروالأنماط ؛ بنحو500 صفحة متوسطة الحجم وبطباعة أنيقة…وأرى أنّ التقسيمات التي أشرت لها والتقسيمات الأخرى ( ذات التصنيف المكتبي ) غيرمجدية بالنسبة للرّواية العربية الغداة ؛ وهي تدلف راكضة إلى المائة الثانية من عمرها الجاري.والسبب أنّ الرّواية : رؤية إبداعية فنية لواقع غيرفنيّ.والعلّة تكمن في الطابع الذي عاشه ويعيشه الوطن العربيّ في مشرقه خاصة ؛ منذ سقوط الخلافة العثمانية حتى اليوم…نتيجة تشكّـل أقطاره بفعل ( الاستعمار) وما قد صاحبه تدريجياً نشوء الكيان الصهيوني ؛ وما ترّتب على مجمل ذاك الحال وما يزال من صراع ومعاناة وحروب…إذن الرّواية العربية اليوم ما تزال تعيش في ظلّ وتحت نتائج عالم ما بعد ( سايكس بيكو).وقد انعكس ذلك على منظوروذاكرة الرّوائيين : نفسياً وثقافياً وفكرياً وسياسياً.. لعلّ الرّواية الجديدة وهي تدلف إلى المائة الثانية سراعاً ستعيش الحريّة الحقيقية تباعاً لتكون عماد شخصيتنا في الفنّ والأدب كما كان ( الشعر) عماده طوال قرون من تاريخ العرب.

  2. يقول شاكر الناصري:

    غريب أمركم يا كتاب العرب ونقادهم، كيف سمحت لنفسك بتجاوز منجز روائي كبير، الرواية العراقية، وشطبه من تقييمك المنحاز والبعيد عن الانصاف والقراءة الجدية؟؟ كيف تسنى لك أن تشطب روايات وكتاب رواية من العراق، لهم أثرهم وتأثيرهم، واقتنعت بكاتب واحد، عبد الرحمن مجيد الربيعي، ربما، لانه يميل لنزعة قومية تعتمل في صدور النقاد العرب؟؟ فؤاد التكرلي، غائب طعمة فرمان، سنان أنطون، حميد العقابي، دنى غالي، لطفية الدليمي، عالية ممدوح، انعام كجه جي، احمد سعداوي….وأسماء كثيرة وكبيرة في ابداعها ومكانتها، لايمكن أن تشطب بجرة قلم منك، أو من أي ناقد، أو كاتب آخر..

إشترك في قائمتنا البريدية