«راض عن رواياتي ولم يكن بالإمكان أبدع مما كان» إبراهيم عوض الله الفقيه: أكتب لأقنع نفسي بالوجود على حافة الكون

عمان ـ «القدس العربي»: إبراهيم عوض الله الفقيه قاصٌ وروائي أردني، التصق في كتابته بالواقع ومزج الأدب بالتاريخ، مشغولٌ بالقضيّة الفلسطينية. يكتب بوعيٍ نظري، وبتوظيفٍ ذكي للمقروء الأدبي، وبحافز قوي نحو خلق أسلوب أدبي خاص به.
تميّزت كتابة الفقيه بقدرته المدهشة على إقامة التوازن الدقيق بين الحلم والواقع. كاتب موهوب يمتاز بالجرأة على مستوى الموقف السياسي والاجتماعي، وتنبض كتاباته بشاعرية مرهفة جديرة بالتأمل، فهي كتابة سلسة وهادئة، تهتم بالإنسان في جوهره وحقيقته، لكنها في الوقت ذاته عميقة وملتزمة بالمعنى الجمالي والأدبي.
حول تجربته الإبداعية، ومرجعياته المتنوعة، ورؤيته لفنه وللحياة والعالم، كان لنا معه هذا الحوار.

■ الرواية والقصة تنتميان لعائلة سردية واحدة، فما الذي دفعك عام 1990 للانتقال من كتابة الرواية إلى كتابة القصة القصيرة؟
□ السرد القصصي يتكئ على التراث العربي، مُستعيناً بالحكاية الشعبية الغارقة في الخيال واللامعقول للوصول إلى المفهوم والواقع المعاش، أما الحوادث فهي التي تعمل في بنية السرد عمل الحوافز المُحرّكة، وتنشط الذاكرة في استعادة الماضي. في رحلة الانقطاع عن الكتابة تراكمت في سنوات عمري خيبات كثيرة، واكتسبت تلك الخيبات دلالات تفوق بكثير حدود معانيها المباشرة، وكلما عرفت محطات العمر خيبة، هرعت الذاكرة إلى الماضي، ومن ماتت ذاكرته وفقد ماضيه، فقد هويته.
بالنسبة لي لم يكن انتقالاً لكتابة القصة القصيرة، والقصة تختلف عن الرواية في زمنها وشكلها وتقنيتها، كنت أكتب قصصاً قصيرة في فترات متباعدة، بعضها تم نشره وبعضها لم ينشر، وحين استقر بي المقام في عمان، جمعتها في كتاب تحت عنوان «القربان».
■ من تجربتك الإبداعية التي امتدت لأكثر من أربعين عاماً، ماذا يقدم النقد للأدب؟ وما هو تقييمك للنقد الذي كُتب عن تجربتك؟
□ النقد كاميرا تظهر العمل الأدبي بصورة مُكبّرة لتوضيح مواطن الضعف والقوة فيه، والناقد هو الذي يعالج، عادة، معالجة منظمة آثار عصره فيكون الوسيط بين الكاتب والقارئ. لكن النقد الحقيقي يتطلّب منهجاً يحاول الناقد فيه أن يثبت صحته عبر مفهوم إجمالي للأدب، ومقارنة الآثار الأدبية، جاعلاً من مجموعة دروسه النقدية منهاجاً سليماً. عموماً يتجه النقد الحديث نحو اكتشاف واقع الأثر الأدبي في ما لا يظهر مباشرة، لذلك يجب على الناقد أن يكشف عن الاختبار الغامض، واللاوعي أحياناً الذي يحاول الأثر الأدبي التعبير عنه.
أما عن النقد في الأردن، فقد تأسّست مؤخراً «جمعية النقاد الأردنيين»، وتضّم نقاداً وأساتذة وأكاديميين متخصّصين بالنقد الأدبي، لكني لا أدري ما معنى أن يكتب نقاد عرب عن أدبٍّ أردني، بينما يغفل بعض نقاد بلدنا عنه، وكيف تنشر مجلات عربية لأدباء أردنيين ولا تنشر صحفنا الواسعة الانتشار إلا لعدد محدود ومتكرّر من الأدباء! وبعض النقّاد ممّن يلجأون إلى الاستشهاد بأسماء النقاد الأجانب، وكأنه ليس هناك نقاد عرب قادرون على مجاراة المدارس النقدية في الغرب، يلومون أنّ بعض الأدباء ينشرون إبداعاتهم على صفحات الإنترنت،
شخصيّاً، أشعر بأن أعمالي ورواياتي لم تأخذ حقها، إلاّ أنّ بعض النقاد والدارسين تناولوها بالتقويم والنقد البناء، واستفدت من كتاباتهم، وبعض المآخذ على كتاباتي هي اللغة العربية الفصيحة أثناء الحوار، إذ أنطقت جميع الشخصيات بلغة واحدة من دون مراعاة المستويات المتباينة بين شخوص الرواية، ومع أنني تداركت هذا الوضع في رواياتي الأخيرة، إلا أنني أشعر بأنّ لكل مبدع أسلوبه الخاص، يكتب ما يراه مناسباً للقواعد التي بنى عليها نفسه.
■ هل أنت راضٍ عن رواياتكِ، وأيُّ رواية هي الأكثر تعبيراً عنك؟
□ أنا راضٍ عن رواياتي زمن إخراجها، ولم يكن في الإمكان أن أبدع أكثر مما كان. أما اليوم فلو خُيرت لكتبتها بشكل آخر أفضل، علماً بأنّ أي كتاب يكتبه المبدع يُعتبر قطعة منه، يسهر الكاتب ويثقل كاهله قبل أن يرى كتابه النور، فلا فرق بين رواية وأخرى، كلها قطع من عقل الكاتب كما المولود قطعة من والدته.
■ ما هو دافعك للكتابة، وما هو مشروعك الروائي؟ فهل لديك مثلاً تصّورٌ عن العالم أو فلسفة تُدافع عنها؟ وما صلة ذلك بحياتك الشخصية؟
□ الكتابة موهبة قبل كل شيء، ومن لا يملك موهبة الكتابة لا يمكن أن يكون كاتباً مهما قرأ، والكاتب لديه ذاكرة تلتقط الأشياء الصغيرة التي يراها- دون سواه- ببصيرته لا ببصره، وهذا ما يفرض عليه الالتزام في ما يكتب.
الكتابة تحتاج سنوات حافلة بالقراءة وكتابة النصوص وصولاً إلى امتلاك الأداة التعبيرية الكفيلة بتجسيد المشاريع المختزنة في الذاكرة، فالعمل الأدبي كما يقول أسعد أحمد علي، هو: «الشكل الأخير أو البناء المُشيّد من كلمات، لا بد فيه من عمق أساس ومتانة التحام، وسلامة هندسة ليكون بناءً يُسكن، فالعواطف والأفكار واللغة والأسلوب مثل الأحياء، الأحياء يسكنون في المنازل الصحيحة البناء، أما المنازل الخربة فلا يسكنها غير البوم والغربان»، وكل عمل هو اختيار، استكشاف، الكاتب حين يكتب يقوم بصناعة الكتابة، ودائماً يرتاد أرضاً قفرا، فيخطئ ويصيب، ويبقى تلميذاً طوال حياته.
أنا أكتب لأقنع نفسي بأنني موجود فقط على حافة الكون، لمعرفتي الثابتة بأنّ الكتابة الإبداعيّة لا تغيّر من الواقع شيئاً، وإن كلّ كتابات المبدعين، سوى القليل منهم، تسقط أمام مُنظّري السياسة. أنا ملتزم بالكتابة عن القضية الفلسطينية وبالدفاع عنها، وكل ما كتبته يعتبر سلسلة مواكبة للهمّ الفلسطيني، حتى يعود الحق إلى نصابه.
وعليه حاولت عبر نصوصي تقريب أفكاري في شؤون الرواية والقصة إلى القارئ، صحيح أنني أدخل بعض الأشياء على الأصل كرتوش لا بد منها، لكنني لا أتخيل الحوادث ولا أختلقها، وإنما اقتبسها من المجتمع ومشاهداتي اليومية، وهي المواد الأوليّة لكل ما أكتبه.
■ تتميز التجربة الروائية الأردنية وتجربتك خاصّة بانفتاحها على التجريب، فكيف تفهم التجريب وتتعامل معه؟
□ شكّل التجريب عنصراً جوهرياً في تجارب كبار الروائيين عربياً وعالمياً، وساعد على تطور الرواية، سواء على مستوى الشكل أو السرد أو اللغة أو بنية الزمكان، فالتجريب يجعل الرواية أكثر مرونة وحيوية وقدرة على نقد نفسها، وعلى ذلك فتعريف التجريب أنه التزام بإبداع مفاهيم جديدة تتجاوز الأعراف التقليدية.
ولم تكن تجربة الروائيين الأردنيين وتجربتي بعيدة عن ذلك، إذ استفدنا من معطيات التراث العربي والإسلامي، خاصة حكايات «ألف ليلة وليلة» حيث المجال الخصب للتجريب وتطوير النص. وهكذا اكتست الرواية الجديدة بالحداثة والخيال وكسر أطر الزمن والحريّة في التعامل مع النصوص المكتوبة في الماضي، فالتجريب إعادة بناء الصيغ القديمة بعد تفكيكها وإحالتها إلى أسس وأنظمة سرديّة جديدة مُبتكرة.
رواية اليوم هي سليلة الملاحم الإنسانية، ورثت عنها وأخذت ترصد حيوات جيلٍ أو عدة أجيال، لتبقيه وثيقة مرئية بالخيال لمن سيأتي من الأجيال اللاحقة، وعلى الروائي أن لا يخيب أمل قرائه، وأن يُقدّم شيئا جديدا نابعا من معاناتهم، ومفردات حياتهم اليومية.
أمّا التجريب في كتاباتي فكان ضمن المراحل التي تناولتها في كل رواية، فـ»الأرض الحافية» مَزجتُ فيها الواقع بالمُتخيّل حتى ليصعب الفصل بينهما، كما حاولت تسجيل تراث وأحداث محلية عفا عليها الزمن، لكنها حقيقة. في «نوافذ الغضب» حاولت تجاوز الخبر والانتقال إلى الرؤية، وجعلت منها شهادة على الإنسان والعصر الذي يعيشه، غصت في أعماق الشخوص لأعيش الواقع والأعم والممكن والمحتمل، ودائماً تأتي الظروف الفلسطينية ومعاناة الشعب الفلسطيني بمثابة حاضنة لكل رواياتي.
■ أبطال قصصك ورواياتك، أيهم ما زال حاضراً في ذاكرتك ويعيش معك؟
□ زمن الكتابة هو مرحلة من المخاض الإبداعي، وهو ما نطلق عليه زمن المخاض السردي، حيث لا يكون السارد هو نفسه متمكناً من هذا المولود الخيالي الجديد، وإنما تراه يبحث عنه وهو يكتب أو يهم بالكتابة، والشخوص في بعض رواياتي منفصلون عن الزمن وعن التتابع، لكنهم قد يعملون في زمن وفي تتابع. هم يعيشون في أعماقي، وحين أكتب أشعر بأنني أحد أبطال رواياتي، أتقمص الشخصية، أسكنها وتسكنني طوال وقت الكتابة، ومعظم شخوصي ليسوا من الخيال، بل بشر يعيشون بيننا يعانون، ويطمحون لحياة أفضل.
■ صدر لكم حتى الآن عشر روايات ومجموعتين قصصيتين، بصراحة، حين تعيد قراءة ما كتبت، ماذا تكتشف؟
□ بعد أن تنطلق الرواية إلى النور، لا يعود للكاتب سلطان عليها، أشعر بأن همّاً أو كابوساً أزيح عن كاهلي، لا أرغب بقراءة ما كتبت ولا بمراجعته، وما يضطرني لقراءة ما كتبت بعض ملاحظات النقاد والقراء، وإنّ كان لكلٍ وجهة نظره، إلاّ أني أشعر بأن كل عمل مهما تكن واقعيته، فإنه ينطوي على مقدار من الانحراف عن الواقع، ومهما كان العمل مكتملاً إلا أنه يظل منقوصاً، والكتابة الروائية بعامة تتكفل بقول نصف ما يريد الكاتب قوله، وتترك النصف الآخر للمتلقي، ليكتمل العمل وتتشكل الجمالية بين الكاتب والقارئ.

نضال القاسم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية