قام الباحثون والمؤرخون العراقيون ومعهم الأرشيف الإعلامي والتوثيقي، ( في الحد الأولي المتوفر كقاعدة معلومات) على تعقب الحقب والوقائع السياسية عبر التسجيل والتصوير والوصف وحتى الرسوم الكاريكاتيرية وأعمدة كتّاب الصحف وحتى الحكايات الشعبية بما يجعل خامات البحث في تاريخ العراق الحديث وتفاصيله قابلة لتشكيل أو تشكل رؤية – رواية جامعة- على كل الصعد، تفيد بدراسة الوقائع وآثارها الاقتصادية والثقافية على المجتمع، وتساعد المجتمع على اكتشاف وفهم لاشعوره العام لكي يدشن تاريخه الحديث الفعلي بحيث لا عودة أو ارتكاس للمورثات القديمة، من أجل أن نسجل عدّنا الحسابي التراكمي حتى لو كان مشروعا أوليا بحيث لا نكون كما نحن ليولى علينا بل نكون لنتولى نحن.
ومن اللازم للباحث القارىء في تشكيل الرؤية أن يستند إلى قاعدة المعلومات العامة ـ مذ كانت هيمنة السقيفة أصل الروي حتى أفرزت راويين متعارضين بين مجتمع السلطة ومجتمع الهامش- إذ تشكل هذه القاعدة المعلوماتية الثابتة منطلقا لشكل من الرؤية ومجالا تداوليا في الاطار الثقافي والسياسي والإقتصادي غير أن من الصعب على الباحث القارىء إيجاد قاعدة متماسكة ولو على نحو معين، وغالبا ما يصطدم بهذين الراويين الأساسيين فضلا عن تداعيات أخرى على جانبهما.
راويان أضاعا روايتهما الحقيقية حتى بلغا شأوا بعيدا في تدمير المحيط الروائي والسردي الموازي لخبراتهما التاريخية والفنية والجمالية.
راويان ضد الرواية
إنهما رواية نقل الوقائع الحقيقية التي جرت في التاريخ العراقي العميق وأثرت في مجراه حتى انقسمت الوقائع ومجرياتها العامة إلى راويين متحكمين لا يخرج التاريخ كله عن انساق روايتيهما والمشكلة الكبيرة إن هذين الراويين ظلا يبثان ويستعيدان روايتيهما منذ قرون عديدة حتى هذه اللحظة، ويحيان الانقسام والتعارض المستمر في المجتمع العربي العراقي بالرغم من أن العالم قد دشن عصرا جديدا، هو العصر الحديث وظاهرة الدولة في المجتمع المعاصر، ومن غير المعقول لهذين الراويين أن يظلا بعيدا عن إحداث تحول في سياق روايتيهما على أساس الحقائق التاريخية الثابتة بين المجتمع والدولة، ومنها نظرية نشوء السلطة والدولة إذ أكدت الوقائع التاريخية بما لا يقبل اللبس بأن السلطة والمُلك نتاج انصهار السيرورة الدنيوية والأرضية (عصبيات قبلية – حركة اقتصاد – وقائع في اللغة والثقافة) وتقع خارج نشوء الأديان السماوية واقترانها بروح وخيال الإنسان حتى غدت السلطة متخيلا لإدارة الجماعات والدين فضاء لإدارة الأفراد.
على هذا الأساس من جملة الحقائق، دخل العالم الحديث حقبة معرفية جديدة للتمييز بين الدين والدولة في الوقت الذي ظل فيه الراويان العراقيان ينسجان روايتيهما خارج الوعي المعاصر بالحاضر، وينتظمان في الانقسام والتعارض في دراما تاريخية دينية، تنتمي إلى العقل الملحمي القديم أكثر من أن تكون واقعية في سياق الفهم الحديث. من غير المعقول بقاء الراويين خارج الرواية الجامعة.
رواية الراوي الأول تدور في مدار السلطات المتعاقبة على مديات الزمن الماضي مذ بدأ التاريخ العربي انطلاقته الأولى في نشوء وارتقاء السلطة، وتحديدا عند واقعة السقيفة المشهورة، هناك إذ عرف العرب أول نواة لتشكيل السلطة بالتعاون مع البدايات السياسية شبه الناضجة للمجتمع المدني النصراني في الجزيرة فيما دارت رواية الراوي الثاني في المدار المعارض لهذا التشكل الجديد آنذاك (علويون وأنصار خارج قبيلة قريش، مهمشون). ومن هناك بدأ مارثون طويل لهذين الراويين،الاول، ارتقى في الصعود إلى السلطة والملك العضوض حتى بلغ مدى امبراطوريا واسعا كان الدين شكلا إداريا في سياقه الرسمي، والثاني كمّن في بث خبراته المتراكمة في الأوساط الشعبية والمدرسية لحواضرالمدن حتى أظهر حقبا وأجيالا ومدارس لا تنفصم عن المتخيل الجمعي للقوى السياسية المقهورة الذات وموجوعة اللاشعور الجمعي التي تطالب بحقوقها بواسطة التمسك بالثقافة والمدرسة الدينية.
لم يبرح الراويان روايتيهما حين دخل العراق مرحلة جديدة عقب نهاية الامبراطورية العباسية، واستمرا يؤثران في المجتمع عبر اندماجهما تارة مع هذا الغازي أو ذاك والعكس صحيح. أو يحسبان ذلك، في الوقت الذي أديم الصراع على هذا النحو جاعلا الروايتين مستمرتين بالرغم من التدهور الكبير على المستوى السياسي، إذ تغير مسار الروي قليلا فصار شيئا ما على الشاكلة الإيلخانية والبويهية، ونوعا ما على الطريقة السلجوقية والعثمانية حتى دخلنا العصر الحديث ومازال هذان الراويان يتحكمان في بث الروي القديم كما يشاءان.
اذن. مهمتنا الجديدة في ضوء العصرالحديث كيف نتقن دراسة هاتين الروايتين ونفصل بين انقسامهما وتعارضهما على أساس السلطة/الدين وبالعكس مثلما نسعى إلى توازنهما في الإطار التاريخي خارج السلطة أو الإطار الديني داخل السلطة بمعنى إعادة الروي على النحو الذي يجعل الدين خلاصا للأفراد والدولة ملاذا للجماعات.
ما الذي حدث في هذه البلاد ؟
كيف نستطيع أن نجمع الراويان على قاعدة روائية متماسكة واحدة من دون أن نتدخل في روايتيهما، ما العمل لتحييدهما داخل مدرسة ابتدائية فقط ؟
كل شيء متاح منذ مئة عام ولكنه لم يقو على توضيح ملامح صورة حديثة، تدل على هوية ذاتية، مهلهلة منذ مئات. كل شيء من الشفوي والمدوّن، التوثيقي التسجيلي والمخيال السردي لذاكرة مفتوحة، الرسمي والشعبي، الواقعي والغرائبي بل كانت الذاكرة التاريخية المتماهية مع الحاضر تعيد إلى الأذهان رعب الشبح العراقي في الراوي الأول وتوقظه في الذات المقهورة منذ أزمان سحيقة في الوقت الذي يغالب الراوي الثاني ضياع ملكه العضوض حتى تشكل الوجود العراقي السياسي المعاصر من خلال حالة الاستقطاب بين الراويين فأصبح وجودهما هو تغذية ارتجاعية لبعضهما بشكل أكثر عنفا ودموية.
لقد نسف الراويان مشروع روايتنا الجديدة.
٭ كاتب عراقي
محمد خضير سلطان