رثاء متأخّر قليلا لموسى وهبة

حجم الخط
1

لم يكن موسى وهبة يأتي إلا بما يفاجئ. من ذلك مثلا سؤاله لذلك الشاب الذي كان قد حفظ درسه الحزبي: هل تعرف حقا لماذا تكره الإمبريالية؟ وقد صدف أن الشاب حمل ما سمعه على محمل الجد، وراح فعلا يفتش عما يجعله هكذا، داعيا إلى كره ما لا يعرفه؟ كان ذلك دأب موسى على الدوام، أن يأتي من خارج ما هو متفق عليه. أن يقول لمخاطبه، أو لسامعه، أنت في أحيان تعتنق ما لم تفكر فيه ولم تعرفه. وغالبا ما كان يبدو مستفزّا في ذلك. ربما لأنه لا يريد أن يستميل، أو أن يجلب إلى صفِّه، أو أن يُكثر عدد مَن يمكن أن يصيروا مؤيّديه.
أي أنه لم يكن ينتظر، ولم يكن يريد، أن يوصل ما يقوله إلى آخرين كثيرين. فقط مخاطبه، ذلك الذي سمعه وحده. أعرف ذلك من انفراد كل من أصدقائه بالقليل الذي يعرفه من حياته وفكره. أهذا حقا كان قاله موسى؟ يسأل واحدهم الآخر بعد أن يسمع عنه ما يفاجئه. وفي أحيان كان ما يقوله من القوّة بحيث أن سامعه لم يستطع نسيان تلك الجملة أو الفكرة التي حفظها عنه. سنة بعد سنة رحت أردّد ما كان قاله غداة انسحابه من العمل الحزبي.
قال في حوار أجريته معه: «أنا لن أقبل أن يقودني رجل هو أكثر جهلا مني وأقل مروءة». كنت أعرف مَن يقصد، لكن لم يكن ذلك كافيا لتحويل الجملة إلى حكمة لولا أنّ آخِذها، الذي هو أنا، راح يختبر بها ما ينبغي وما لا ينبغي، وإلى أي جانب يجب أن ينحاز إن كان لا بد من الانحياز، وأي الأشياء ذو قيمة وأيها بلا قيمة…إلخ.
كما أذكر ذلك النقاش الطويل الذي أجراه، بل قاده، في الاجتماع الحزبي. بدا لي كما لو أنه يتقدّم بأطروحة عمل عليها طويلا، وبحرص من هو ملزم نفسه على تحمل نتائجها. لي على الأقل، لم يكن معهودا ذلك النوع من النقاش، إذ كانت فوضى الأفكار وارتجاليتها قد جعلت الاقتناع أقرب إلى غضّ النظر، وأشبه بالموافقة السريعة، تفاديا لوجع الرأس. كان موسى آتيا من مدرسة سياسية أخرى، مارسها هناك حيث كان في باريس. وربما استمرّ التزامه بما كانه بعد عودته إلى لبنان، لكن ليس لوقت طويل. بين ما رحنا نتذاكر به، في الأيام التي تلت رحيله، قول رشيد الضعيف، وهو صديقه من أيام ما كانا معا في فرنسا، أن الحرب أحبطته حتى جعلت منه رجلا آخر. في ما خصّني، كنت قد سمعت مرارا أن موسى الذي كان هناك ليس هو نفسه الذي هنا. ومن تفصيل ذلك أنني، حين أسمع شيئا عما كان يظهر به هناك، أجد صعوبة في ردّ ما سمعته إلى موسى الذي عرفته.
لكنه نوع آخر من التخلّي. كأن موسى خلط بين أمزجة كثيرة متناقضة: مبادر إلى السخرية، والهزء بالعلاقات الاجتماعية، لكن لم يبارحه ذلك الميل إلى تصويب الأفكار. ذلك يمكن تبينه في لغته العربية التي كنت، أيضا، أجد معرفته بها ذهابا إلى فرع آخر من المعرفة غير ذلك الذي تأهل له، في السياسة، ثم في الفلسفة الغربية التي نقل منها كتبا إلى العربية. كان علامة لغويا، إلى حد أنني في أحيان رحت أفكّر أنه بذل جهدا فائقا في إتقان ما لا يحتاجه أو، على الأقل، ما لا يحتاجه كلّه، على غرار ما يكتفى به من المعرفة باللغة الآن. كان عليّ أن أبطئ في أثناء قراءتي للنصوص – المقالات التي كان ينشرها في ملحق الصحيفة، للفهم وللاستمتاع. كما لأعايش في الوقت نفسه الاستمتاع الذي كان يجنيه موسى فيما هو يوقّع كلماته على الصفحة أمامه.
في ذلك كان محتفظا، من بين ما يتألف منه وعيه، بمثقف قديم في رأسه. هذا جانب من جوانب ثقافته المتعدّدة. جانب آخر، أو جوانب أخرى يمكن إيجادها حتى في المقالات التي، على مدار سنة أو سنتين، كان يرسلها إلى الصحيفة حيث كنت أعمل. فيها كان يدير الرأس عما هو مترسّخ في وعينا تجاه ما يلزمنا وما نحتاجه. ففيما كانت ما تزال مستمرة المطالبة بإنشاء مزيد مما يسمى الكليات التطبيقية، كتب في الصحيفة داعيا إلى خلاف ذلك بالتمام. قال إن ما نحتاجه فعلا هو الاهتمام بالعلوم الإنسانية، فما ينقصنا هو الأخلاق أولا.
كنت دائم الظن بأن ما أعرفه من موسى قليل. ذاك أن معرفتي به، أو رفقتي له، كانت دائما تقف عند الحد الذي وقفت عنده في جولة الرفقة السابقة. لكن هناك وقت، بقيت أقول. حتى حين كان عليّ أن أعلم أن الوقت يضيق ظللنا، أنا وهو، نقوم بحركة اليد تلك، التي تعني لاحقا.. أننا سنتّصل ونلتقي لاحقا. وكان آخر ذلك يوم كنا بين كثيرين آخرين، حيث أرسلنا التحيات عن بعد ولم أجرؤ على سؤاله عما كنت أعرفه عن مرضه.

٭ روائي لبناني

رثاء متأخّر قليلا لموسى وهبة

حسن داوود

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الدكتورجمال البدري:

    مقال مليء بالوفاء.والوفاء عملة نادرة في كلّ زمان.شكرًا حسن داوود.

إشترك في قائمتنا البريدية