رد اعتبار الثورة

■ لا يكفي أن يقام احتفال رسمي بعيد ثورة 25 يناير 2011، ولا أن يتقرر اليوم كأجازة رسمية، ولا أن تصدر قوائم إخلاء سبيل لبعض شباب الثورة المســجونين ظلما وعدوانا.
هذه كلها خطوات مفيدة وإيجابية، إلى حد ما، لكنها رمزية المغزى غالبا، وتعبر عن رغبة في التنصل الرسمي من حملة الهجوم البشع على الثورة، ووصفها بأفظع النعوت، وتصويرها كمؤامرة على البلد، وهي الحملة التي نشطت بها أبواق وفضائيات مليارديرات جماعة مبارك، التي أرادت فصاما نكدا بين 25 يناير 2011 و30 يونيو 2013، وتخيلت أن الفرصة باتت مواتية للعودة إلى التحكم، وحصار الرئيس عبد الفتاح السيسي وتزوير صورته و»تفليل» الرجل، وتقديمه في وضع مبارك الأصغر سنا، الذي يبرئ ساحة مبارك المخلوع، ويخرج نجليه وجماعته من السجون، وينتقم لهم من الثورة وأهلها وشبابها، وكلها تطورات عادت بالضرر البالغ على الصورة السياسية للسيسي، الذي لم يقم نظامه بعد، ولا يزال كرئيس جديد يحكم برجال النظام القديم.
وقد بدت الخطوات الإيجابية الرمزية كهجوم معاكس من الرئيس السيسي، الذي تقدم إلى السلطة بعد 30 يونيو، لكنه يدرك أنه لولا 25 يناير ما كانت 30 يونيو، وأن خلط أوراقه مع أوراق رجال مبارك يهدم صورته، ويسيء إليه، ويشوش على وعود الأمل التي يحملها، ويزيد من ضراوة حرب الاستنزاف لشعبيته الظاهرة، وهو ما يفسر سعي السيسي لتشكيل صورة معاكسة، تدمج في كل عبارة ينطقها بين 25 يناير و30 يونيو، وترد الاعتبار لأولوية الثورة الأم في 25 يناير 2011، التي كانت 30 يونيو موجتها الأعظم، وهو ما درج عليه الرئيس في خطاباته المصرية والدولية، وفي أحاديثه المتصلة عن تمكين الشباب، وفي إشاراته المتواترة عن عقم الجهاز الإداري للدولة، وعن تضخمه وفساده وانعدام كفاءته، وعن البلد الذي سرق في ثلاثين سنة من حكم المخلوع، وعن الخراب الذي كان سببه «مبارك منه لله»، والذي كان عليه أن يرحل قبل خلعه بعشرين سنة، وكلها ـ وسواها ـ تعبيرات دأب عليها الرئيس السيسي، وأراد بها إقامة حاجز يفصله عن مبارك وجماعته، ورد الاعتبار للثورة التي ما كان ليصبح رئيسا بدونها، والتعهد بإنهاء التجاوزات التي تقيم العداوة بين الرئاسة وشباب الثورة.
ولا شك عندي في الذكاء الغريزى للرئيس السيسي، ولا في تجرده ونزاهته وكفاءته، ولا في رغبته ومقدرته على إدراك خطورة ما جرى ويجري، واقتناعه بتصحيح أخطاء وخطايا تراكمت على مدى أربع سنوات بعد الثورة، وشاركت بها كل السلطات التي خلفت المخلوع، من مجلس طنطاوي وعنان، إلى حكم الإخوان، ثم إلى حكومات ما بعد 30 يونيو، التي خلقت وضعا هجينا، تبدو فيه الثورة المضادة كأنها لاتزال تحكم، تدعي الاعتراف بواقعة الثورة من طرف لسانها، لكنها تتنكر لاستحقاقات الثورة في السلوك والسياسة، فلم يجر ما كان ينبغي من أول يوم بعد ذهاب مبارك، وهو ما نبهنا إليه في وقته وفي حينه، فالثورة ـ أي ثورة ـ هي الثورة، الثورة تعني القطيعة التامة مع ما كان قبلها، ليس بالخطابات الإنشائية، بل بالإجراءات الفورية الحازمة، بمصادرة الأموال والأصول المنهوبة، وبالعزل السياسي الشامل، وبالمحاكمات الفورية الجدية، ولم يجر شيء من ذلك، لا في أيام مجلس المشير طنطاوي، ولا في أيام حكم الإخوان، ولا إلى اللحظة التي نعيشها، وهو ما يفسر المفارقات العجيبة الصادمة التي تتوالى، من نوع تبرئة مبارك ونجليه التي تمت أخيرا، وقد توقعناها من أول يوم، تماما كما توقعنا تبرئة رجال مبارك كزكريا عزمي وصفوت الشريف وفتحي سرور، وقد تمت كلها أيام حكم الإخوان، فلم تكن محاكماتهم إلا عملا صوريا، تواطأ فيه كل من حكم، ولم يكن من شيء خاف، فالمحاكمات العادية بعد أي ثورة هي خيانة أكيدة للثورة، والسبب ظاهر بسيط، فالثورة ليست فعل عادة. الثورة عمل استثنائي، وخروج على القوانين العادية المعمول بها، والثورة ـ طبقا للقوانين العادية ـ جريمة قلب لنظام الحكم، وهو ما يفسر النهاية الطبيعية للمحاكمات العادية بعد الثورة، فقد انتهت ـ كما كان متوقعا بالبداهة ـ إلى تبرئة الظالمين النهابين، وإلى ما يشبه إدانة الثورة نفسها، وكأن الثورة قامت فقط لتبديل صور ووجوه الحاكمين، أو لإصلاح وترميم النظام القديم الذي شاخت واعتلت شخوصه، ولم يكن في ذلك غفلة من الذين انتهى إليهم الحكم والسلطان بعد الثورة، فقد كانوا يعرفون ما نعرف، وما حذرنا منه مبكرا جدا، وطالبنا بإقامة محاكمات جدية بطابع ثوري، أي محاكمات على أساس قانون خاص، يديرها قضاء طبيعي، وهو ما جرى رفضه من فقهاء الفلول وفقهاء الإخوان معا، بل جرى التواطؤ على منع العزل السياسي لفلول جماعة مبارك، بتعمد الصياغات الرديئة المثقوبة لنص العزل الجزئي في دستور الإخوان، وقبلها بالتعطيل الكلي لاستخدام قانون إفساد الحياة السياسية، الذي أصدره مجلس طنطاوي في نوفمبر 2011، تحت ضغط الثائرين في الميادين، وتقررت بموجبه عقوبات عزل وظيفي وسياسي لمدة خمس سنوات على الأقل، وقد كان القانون ولا يزال ساريا، تماما كأحكام القانون رقم 247 لسنة 1956، الذي يحمل عنوان «محاكمة رئيس الجمهورية بتهمة الخيانة العظمى»، الذي رفض برلمان الأكثرية الإخوانية تفعيله لمحاكمة مبارك بصورة جدية، وهكذا جرت إماتة القوانين ذات النفس الثوري، فيما انتهت المحاكمات بالقوانين العادية إلى نوع من تكريم الجناة، وقتل شهداء الثورة مرتين، الأولى يوم قتلهم، والثانية يوم تبرئة الجلادين، ثم جاءت الثالثة «تابتة» كما نقول في العامية المصرية، وهي التذرع بالتبرئة القضائية الصورية لقتل وإدانة الثورة نفسها، فلم تتم إدانة أحد من النظام القديم، ولم يسترد الشعب المصرى مليما واحدا من الأصول المنهوبة، ثم عاد الذين سرقونا إلى المنصات الأمامية، عادوا للتسابق على تمثيلنا في البرلمان المقبل، وبالنظام الفردي المهدر بطبيعته لأغلبية أصوات الناخبين، وكأن الثورة لم تقم من أصله.
هذه هي الصورة التي لا تجعل الخطوات الرمزية كافية، فقد تعبر الاحتفالات والإجازات عن النوايا الطيبة للرئيس، لكن النوايا الطيبة لا ترد وحدها الاعتبار للثورة اليتيمة، والمطلوب بالضبط: شفع الأقوال بالأفعال، المطلوب بالضبط : تحطيم تحالف مماليك البيروقراطية الفاسدة ومليارديرات النهب العام، فالبلد يحتاج إلى «كنسة»، والله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، ولا بد من تصفية مجتمع الواحد بالمئة، المجتمع الذي يملك فيه واحد بالمئة من السكان نصف الثروة الوطنية، فالثورة في كلمة تعني «العدالة»، والإسلام في كلمة يعنى «العدالة»، وقد نتفهم عسر تنفيذ عملية شاملة لإعادة توزيع الثروة في هذه اللحظة، فالدولة تعاني من جفاف الموارد والموازنة المنهكة، والبديل المتاح: توزيع الشعور بالعدالة، فقد تحمل الفقراء والطبقات الوسطى فواتيرهم كاملة، فيما يظل أغنياء النهب في الحفظ والصون، ويتردد الرئيس في اتخاذ قرار باستعادة ما سلبوه، ويجرب معهم أساليب استمالة فشلت في تجربة «صندوق تحيا مصر»، ثم انتقل إلى ما يشبه الإنذار على طريقة قوله الشهير «هتدفعوا يعنى هتدفعوا»، ثم لم يدفعوا، وبدون أن يحسم الرئيس قراره النهائي، وهو يقدر عليه، فلديه دعم شعبي واسع لا يزال ينتظر، ولديه دعم حاسم من قلب الدولة الصلب في الجيش وجهازه الخدمي والإنتاجي، ولديه تجربة ملهمة في التمويل الشعبي الأسطوري لمشروع قناة السويس، ولديه ملفات السرقات كلها، ويستطيع أن يضرب ضربته، وأن يتخذ قراره المؤجل، وأن يرد الاعتبار للثورة بصورة فعلية ناجزة، وليس على طريقة إقامة احتفالات أو تقرير إجازات أو إصدار قرارات عفو رئاسي عن محكومين بقوانين سيئة السمعة، وكلها أشياء لا بأس بها، لكنها لا تنتصر بالضرورة للثورة اليتيمة، ولا تحبط عمليات الاغتيال المعنوي للرئيس، وحروب استنزاف شعبيته، وتزوير صورته، وجعله بالتزييف في مقام مبارك الأكثر شبابا.

٭ كاتب مصري

عبد الحليم قنديل

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    قول لي بربك يا أستاذ قنديل
    ما الفرق بين مبارك والسيسي
    وان شاء الله أحصل على اجابه

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول د. اثير الشيخلي- العراق:

    لم نر أي نوع من الذكاء الغريزي للسيسي لحد اللحظة ، ربما تآمر غريزي … ربما حنث بالقسم (عماّل على بطاّل) غريزي … ربما بلادة غريزية !

    أما الذكاء و غريزي كمان ! هذا ما ما لم يبدو على الرجل لحد اللحظة !

    المسألة الأخرى ، بات عبد الحليم قنديل و للأسف الشديد ، لا يحترم ذكاء القراء.. و باتت كراهيته للأخوان مرضية بشكل يبدو ان لا علاج لها ، و أصبحت تتفوق حتى على كراهيته المرضية لمبارك !

    قد يكون للأخوان اخطائهم الكثيرة ، و غباء سياسي قاد الى ما قاد اليه ، اما ان يكونوا هم مسوؤلين عن تبرئة رموز نظام مبارك و سبباً فيه ، فهذا الذي يجعل المرء يستلقي على قفاه من الضحك و يشفق فعلاً على الرجل و ما آل اليه.

    اتعجب على سعة صدر صحيفة القدس ، كيف يتسع لمقال من هذا النوع و يقابله مقال على درجة 180 للأستاذ سليم عزوز قبل يومين !!

    أتمنى ان يتسع صدر القدس العربي لتعليقي هذا “كاملاً”

  3. يقول ابو الشمقمق:

    سؤال بريء :
    أين اختفى زعماء المظاهرات : محمد الرادعي – عمرو موسى – حمدين صباحي . لماذا لانسمع لهم صوتاً …؟

  4. يقول جهاد صالح من فلسطين:

    ولسه يا سيد قنديل تدافع عن السيسي ( ابو الذكاء الغريزي) !!!!!!

  5. يقول Canada:

    انه لشيء مؤسف ان يتلفظ رجل مثل السيد عبد الحليم قنديل أكن له الاحترام كرجل صاحب مواقف قومية وناصريه وانا هكذا اومن وافتخربتراث أمة عربيةلها تاريخها المشرق ان يدافع عن رجلاً انتهازي أراد الوصول للسلطه وليس له مشروع كما كان القائد الخالد جمال عبد الناصر أقول هذا ليس دفاعاً عن الاخوان المسلمين ولست من مريدوهم ولكن كلمة حق ليس هناك من اعتقالات تعسفية سوا كان للصحفيين او من يخالفه الرأي في عهد محمد مرسي

  6. يقول علي الاردن:

    للأسف ان يصبح القلم ألحر مقيد باصفاد العبودية

  7. يقول عبدالله ناصر:

    الرجل لم يتغير ولكن سقط قناعه

  8. يقول ابراهيم...نونس.:

    يا سيد قندبل لقد اكلت يوم اكل الثور الابيض.

  9. يقول عيسى العلي أمريكا:

    انت تقول السيسي لم يتمكن من الحكم اخبرنا هل السيد الرءيس مرسي تمكن من الحكم هل أعطي الفرصة في الحكم لقد أقاموا عليه الحرب السريه من دول اقليميه وجففوا الدعم حتى القرض من البنك الدولي لم يستطع الحصول عليه اما السيسي هبات خليجيه ودعم اسرائيلى وغربي وانت تقول انه لم يتمكن اذا من يحكم مصر ننتظر الإجابة ؟

  10. يقول عمران - الجزائر:

    مع ما تلى 30 يونيو من القمع والقتل العشوائيين والرشوة وتبرئة المجرمين وانكشاف الفضائح، واعتقال وتعذيب وقتل الأبرياء وتلفيق التهم، على مرأى ومسمع العالم، أي كما يقال بالعامية المصرية “عيني عينك” و وبمساندة الصهاينة والنظم الدكتاتورية وخصوصا مباركة ورضا –كل رضا –إسرائيل، مع كل ذلك، بل أكثر وأشنع، كيف يمكن لأي كان أن يكتب مثل هذا المقال؟ من جهة أخرى ومع كل هذا، هل مازال الكاتب مقتنعا بقوله “الحمد لله الذي خلقني مصريا” (مقال للكاتب نشر بالقدس العربي يوم 7/7/2013 غداة الإنقلاب).

1 2

إشترك في قائمتنا البريدية