كثيرة هي الرسائل المتخيلة، التي طالما أعادها سعاة البريد لعدم العثور على عنوان المرسل إليه، لأنه ليس إنسانا محدد الهوية والاسم، هكذا كانت رسائل الكاتب الروسي ديستويفسكي التي حملت عنوان «رسائل من أعماق الأرض»، وكذلك رسائل كتبها البير كامو أثناء احتلال فرنسا من النازية التي حملت اسم «رسائل إلى صديق ألماني»، لكن أغرب الرسائل هي تلك التي كانت تكتبها أرملة باسم زوجها رافضة التصديق بأنه لم يعد حيا وفي هذا العالم.
وربما لهذا السبب تساءل شاعر فرنسي قائلا: لماذا تبني العصافير أعشاشها في صناديق البريد المهجورة؟ فالتطور التكنولوجي حرمنا من مهن رومانسية عديدة، منها مهنة ساعي البريد الذي كان الناس ينتظرونه بشغف وهو الذي يحمل لهم الأفراح والأتراح أيضا، وقبل عقود صدر كتاب لواحد من أبرز علماء النفس في عصرنا هو ويلهالم رايش بعنوان «رسائل إلى إنسان صغير أو إنسان ترانزيستور»، والأغرب من عنوان الكتاب الصورة التي حملها الغلاف وهي لقزم مربوط بحبل وعاجز عن الحركة.
والإنسان الصغير بالنسبة لهذا العالم هو الذي صدّق أن العلم وحده يكفي، وأن كل ما أنجزته الحضارات من فنون ومنظومة قيم أصبح حمولة فائضة في عصر الإنترنت، وعلّق على الكتاب ذات يوم صحافي عربي قائلا، إن سقوف البيوت كانت في الماضي عالية وكذلك الأبواب، وكان الإنسان يتثاءب بدون أن ترتطم ذراعاه بالجدار، لأن صورة الإنسان التي رسمها لنفسه كانت مختلفة، ويرى نفسه مديد القامة ويحتاج إلى مساحة وفضاء يليقان بآدميته وأشواقه إلى الحرية، لكن الإنسان الصغير تأقلم مع المساحات الضيقة والسقوف الواطئة، والأبواب التي قد تفرض عليه الانحناء عندما يدخل إليها أو يخرج منها.
ومن المعروف أن رايش تعرض لعقاب مزدوج من الرأسمالية المتوحشة ذات الأنياب التي تقطر دما ومن نظم شمولية كالتي عبّر عنها جورج أورويل حين جعل في روايته «1984» من الأخ الأكبر الطاغية المتلصص على الناس حتى في غرف النوم والحمامات، أو ما كتبه برتولد بريخت عن ثقافة الوشاية حين يصبح الابن جاسوسا على والديه، وقد يكون ساعي البريد لا الناشر قد أعاد رسائل رايش إليه لأن الإنسان الصغير أو الإنسان الترانزستور بلا عنوان، وبلا اسم أيضا فهو مجرد رقم في تعداد ديمغرافي أو في ثكنة عسكرية، أو في مصح المعطوبين نفسيا.
إن رسائل ديستويفسكي من أعماق الأرض لها بُعد ميتافيزيقي يتعلق بالوجود وسؤاله المزمن، لهذا فهي مرسلة إلى الإنسان في كل زمان ومكان، وبعكس رسائل كامو إلى صديق فرنسي المتعلقة بالسياسة والحرب وفترة الاحتلال النازي لفرنسا، أما رسائل رايش فهي إلى إنسان عصرنا بالتحديد الذي تضاءلت آدميته، وتشيّأ بفضل ثقافة داجنة، تغلب الضرورة على الحرية وتنتهي إلى أن يعيش الإنسان بالخبز وحده.
وهناك رسائل كتبها شعراء وفلاسفة إلى القارئ المتخيّل من طراز رسائل ريلكة، لكن تلك الرسائل أعيدت أيضا إلى المرسل، لأن القارئ في مثل هذه الحالة من اختراع الكاتب وهو نسخة منه، وقد نجد رسائل كتبت إلى البحر أو السماء لكنها رمزية تستهدف الإنسان أولا، وعلى طريقة إياك أعني واسمعي يا جارة، فالرسالة بوح، وتعبير عن فائض الحنين إلى شيء ما، وغالبا ما لا ينتظر مرسلها الرّد، تماما كتلك الرسائل التي كانت تكتبها الأرملة إلى نفسها مُتخيلة أن زوجها الميت هو الذي يرسلها، فالموتى أيضا بلا عناوين وما من سعاة بريد يطرقون أبوابهم.
وإذا كان العصر الصناعي قد حذف من حياتنا بعض المهن ذات البعد الرومانسي، التي انتهت إلى المتاحف فإن تكنولوجيا التواصل حذفت أيضا الرسائل بمعناها الكلاسيكي، وأحلت مكانها كلاما عابرا وخاليا من أي شحنة عاطفية، وأصبح بمقدور الإنسان أن يرسل الرسالة ذاتها إلى آلاف الأشخاص، وكأنهم مجرد أسماء مستعارة لشخص واحد.
لكن أليست الكتابة كلها على اختلاف مجالاتها رسائل إلى الآخرين، فالمتلقي هو المرسل إليه، لهذا فإن القارئ الحصيف شريك للمؤلف بشكل أو بآخر وليس مجرد إسفنجة تحترف الامتصاص، والكتب التي كرسها مؤلفوها لتجارب في القراءة هي في الحقيقة تحرير للمتلقي من الاستهلاك السلبي، وربما لهذا السبب أصبح العمل الإبداعي متعددا لأنه قابل لتأويلات لا آخر لها.
وحين قال جورج شتاينر في تأملاته عن القراءة أن الكتب تحررنا من أجسادنا وتغيرنا، ذهب إلى ما هو أبعد من الدلالات المباشرة لهذه العبارة، فالاستغراق سواء كان في قراءة كتاب، أو مشاهدة فيلم، أو الاستماع إلى الموسيقى يحررنا من الإحساس بالجسد بالمعنى العضوي، لأن الجسد زنزانة بالنسبة لمن يهجعون داخله، ويعيشون أسرى لتلبية غرائزه.
٭ كاتب أردني
خيري منصور
عندما كنا مراهقين كنا ننتظر بفارغ الصبر رسالة من الحبيبة يودعها ساعي البريد في علبة البريد، تلك الرسائل التي نرى فيها خط العاشقة ونشم رائحة الورق المعطر، ونلمس الورق بحس عاطفي، حتى أن العاشقات ايضا كن ينتظرن رسائل العشاق ويتلصصن من النوافذ بانتظار “البوسطجي” حتى انها باتت اغنية ” طل طل طل البوسطجي” أما اليوم فرسالة الكترونية ليس لها لون ولارائحة ولا نرى فيها خط المرسل بل حروفا طباعية تتشابه لا فرق بينها وان ارسلت من قبل ملايين المرسلين. انه عصر الحب بالديجيتال
من مقالك اقتبس “فالرسالة بوح، وتعبير عن فائض الحنين إلى شيء ما” ومع بعض التحوير اقول لك .. التعليق هنا بوح وتعبير عن فائض الاحترام لشخصك الكريم لرصانة قلمك وسعة ثقافتك فأنت تشكل لي قامة شماء في عالم الصحافة وتثير في نفسي الغيرة الايجابية لمزيد من القراءة . شكرا استاذنا خيري
في واحدة من اجمل قصصه ، يضعنا الكاتب الروسي أنطوان تشيخوف امام حيرة المكان . لا اذكر عنوان القصة فقد قرأتها قبل 45 عاما في بغداد ومنذاك تغير المكان وقصصه . في هذه القصة يحتار ساعي البريد في رسالة كتبها طفل الى جده في قرية من قرى الإمبراطورية الروسية . لم يكتب الطفل عنوانا بأستثناء ” الى جدي في القرية ” . أي قرية في روسيا العظيمة ؟ أي جد في امبراطورية سكانها بعشرات الملايين ؟ الرسالة تحكي عن رغبات الطفل ومشاعر الحب لجده ، عن الفراق ، عن الذكريات ،عن الوجد البرئ في الطفولة الإنسانية .
لعل مفردة ” رسالة ” هي من اهم المفردات في اللغة بجانب مفردتي الحب والموت . كثيرا ما يقال ان الفن رسالة وان الأدب رسالة والفكر والفلسفة …. الخ مما يصنع الحياة الأنسانية في روعتها . نكتب دائما من اجل جد في القرية او حبيبة في المدينة او صديق معفر بغبار السفر . كل مانكتبه هو رسالة تختصر بصفحات قليلة او كثيرة حيرتنا واندهاشنا بالوجود العابر في رسائل عابرة للحدود والأعراق والأديان والأفكار . اغلب الكتاب نجد العميق الأعمق من أفكارهم في رسائلهم اكثر مما نجدها ، أحيانا / في نتاجهم الأدبي الصرف .عمق إنسانية كارل ماركس في رسائله الى حبيبته وليس في رأس المال ذا الحال بالنسبة لتولستوي والأمبراطور الروماني ادريان في رواية ماركريت يورسنار . ثم اليست ” مائة عام من العزلة ” للكولمبي ماركيز الا رسالة اعتراف بالجميل لجده الذي رباه والهمه عالم الخيال الفنتازي ومحنة الأنتظار مثل جودو في مسرحية بيكيت ؟