إلهي العزيز.. أنا عبدك الضعيف أقف أمام أبواب رحمتك الوسيعة، ذليلاً أرفع أكف الضراعة والغفران. أنا اللص السابق الذي سرق أقلاماً ملونة كثيرة. وعددا لا يحصى من الجرائد والكتب من الأكشاك والمكتبات. وكان أجمل كتاب سرقته «أدباء منتحرون» راقني العنوان وسطوت عليه من أحد معارض الكتاب في طنجة.
سرقت صاحب الحمام البخيل طوال صيفٍ كامل، حين كنت مكلفاً باستخلاص التذاكر. كنت أضع النقود المسروقة في جيبي وأغادر كأيّ مواطن يتقاضى أجراً محترما. وحتى حين كبرت سرقت شركة القطارات السريعة «تي جي في» عندما عدت متسللاُ في القطار في رحلة سندبادية بين بوردو والجزيرة الخضراء. لصوصيتي الوضيعة كثيرة كثرة شعر القط.. وبحجم الزجاجات الحمقاء التي أفرغتها في جوفي حتى أني أتلفت وجهي مراراً. وجررت الليل إلى الهاوية العامرة بالدم والمهربين ونساء مسمومات.
بلطفك إلهي، نجوت من كوارث لا تحصى. تحايلتُ على الموت برفقٍ في حوادث سير كثيرة. وفزت بجميع الرهانات الصعبة. صعدت أدراج الحظ عميقا حتى صارت لديّ غرفة وسيعة بسريرٍ وثير ومخدات ناعمة، ودولاب ملابس تتدلى منه قمصان كثيرة مثل خرفان مذبوحة، بعد سنوات طويلة نمتُ فيها في مطبخ العائلة كأيّ قط سري. المطبخ يحاذي المرحاض وبدون بابٍ تقريباً. عانيتُ من كرابيج البرد ومن الروائح المزكومة. حصلت على البكالوريا في المطبخ، قرب الزيت والقوارير الحقيرة تحديداً، حيث كنت أسهر الليل تحت ملاءةٍ حمراء أقرأ وأصغي للمذياع .
كنت أملك حذاء واحدا، وسروال جينز واحد، أغسله يوم الأحد وأقضي الصباح بسببه تحت الملاءة أقضم حبّات الجزر، وأتفرج على أمي التي تدلك العجينة. أصياف متتالية قضيتها في أوراش البناء ومعامل الزليج العطنة رفقة بِؤساء الوطن. في تلك الفترة كتبت شواهد قبور كثيرة بالمسمار والصباغة الزرقاء. أتفنّن في كتابة عبارات الترحم وطلب المغفرة للمنسحبين من بساط الحياة الأخضر، لدرجة أفكر أنني أتيت إلى الكتابة من باب المقبرة الواسع، من بابها الشمالي تحديدا حيث حفظة القرآن ينشرون أعضاءهم اليابسة وينتظرون وصول موتى جدد محمولين على الأكتاف.
في تلك السنوات البعيدة التهمت مقبرة المدينة عدداً لا يحصى من البشر، مثلما التهم البحر المتوسط العديد من الشباب الباحثين عن مصير أفضل في القارة العجوز. والتهمت بدوري كتبا لا تحصى حتى صارت بسببها أفكاري منفوشة كأمعاء وسادة قديمة. الأفكار التي تنمو في الرأس مثل مزابل صغيرة. المزابل التي تنمو في غفلة شاحنات البلدية. الشاحنات المكتظة بمناديل الورق، وبقايا مساءات ماجنة.
الكتب مضحكة حقا. والكتّاب يكذبون أكثر من اللازم. الكِتاب الحقيقي هو أن تصعد هذا الجبل وتنزل آخر وتواصل عمليتي الصعود والهبوط بفردة حذاء واحدة. وتستعيض عن الخبز بالعدس والملعقة في ليالي الشتاء المطيرة. هذا في الوقت الذي يجب أن تشرح للتلاميذ أنّ الحياة جميلة خلف النافذة والعمر طويل مثل حقبة تاريخية.
الهي.. أنا عبدك الضعيف الثرثار الذي كلما أراد أن يقول شيئا قال أشياء أخرى. سامحني أن أقول كلّ شيء هذه المرة. أنا القادم من بلادٍ حزينة وقبيلة حزينة. سليل الجائعين في مرتفعات اتوبيا والنائمين في شوارع البرازيل. نديم التائهين في خرائط الله وخرائط الإنترنت المتجعدة. أنا الشاعر الصعلوك الذي لم يكتب لحدّ الآن سوى الزعيق. صديق عروة بن الورد وبقية مجانين الطريق. أنا الأمازيغي الواقف إلى حين أمام أبراج الضياع. والباحث دوما عن الحب في كريات الثلج والأرداف اليابسة.
إلهي، هذا أنا وتلك جرائمي السابقة. وهذه أعضائي الشريرة أنشرها اليوم تحت شموس رحمتك الوارفة، وهذه توبتي الأخيرة.
٭ كاتب مغربي
حسن بولهويشات