سنجعل من ابن باجة يكتب رسالة الوداع إلى السيد الرئيس، فأي مدينة هذه التي يريد تدبيرها المتوحد؟ هل بإمكانه تشييد مدينة خاصة به؟ وكيف سيكون دستورها؟ ومن سيملأ الفراغ الذي سيحدثه انسحاب طبقات الزراع، والصناع الباعة؟ وهل سيكون فيها الطب والقضاء؟
لم نجد واحدا من الفلاسفة يدعو إلى تأسيس دولة مدنية بسياسة مثلى، لفرد واحد؛ وهو الفيلسوف، إلا ابن باجة الذي فضل الهروب على السكن في تلك المدن الأربع؛ مدينة الكرامة، والمدينة الأمامية، والمدينة الجماعية ثم مدينة الثعلب: «وهذه كلها قد تكون للمتوحد دون المدينة الكاملة.. إذ لا يمكن أن يكون حافظها ولا فاعلها، وهو متوحد». فما الذي يبحث عنه هذا الفيلسوف الذي اختار من حياة حي بن يقظان نموذجا في مشروعه السياسي؟ هل يقصد في مدينة توجد بالفعل؟ أم أنه اختار التيه في زمن محبة الحكمة؟
لا يتردد ابن الصائغ في الإجابة عن هذه الأسئلة بثقة عالية في النفس، لكونه كان متعجرفا مثل هيراقليط، ولعل هذه العجرفة هي التي دفعته إلى إبداع سياسة تدبير المتوحد، وربما كانت أيضا هي السبب في موته مسموما على يد أعدائه، ومع ذلك ظلت دعوته إلى الهروب من المدينة الجاهلة تلاحق الفلسفة العربية كاللعنة.
وبما أن كل المدن التي جرب فيها السكن، قد وضعت تحت رحمة من يعيشون بأجسادهم، بعد أن ماتت أرواحهم، فإنه يختار السكن في مدينة العلماء والفلاسفة والشعراء، على الرغم من أنها مدينة توجد بالافتراض لا في الواقع، معتمدا على أمنية سقراط التي تجعل الحكيم في جزر السعداء: «وأما الذي يعنى بهذه الجزر فيخلصه في صناعة تدبير المدن». ولذلك فإن فيلسوفنا يعلن عن سياسة المتوحد قائلا: «والمتوحد الظاهر من أمره أنه يجب عليه أن لا يصحب الجسماني ولا من غايته الروحانية المشوبة بجسمية، إنما يجب عليه أن يصحب أهل العلوم. ولكن أهل العلوم يقلون في بعض السير ويكثرون في بعض، حتى يبلغ في بعضها أن يعدموا. ولذلك يكون المتوحد واجبا عليه في بعض السير أن يعتزل الناس جملة ما أمكنه، فلا يلابسهم إلا في الأمور الضرورية، أو بقدر الضرورة، أو يهاجر إلى المدن التي فيها العلوم، إن كانت موجودة». فهل يتعلق الأمر بفشل الفيلسوف في الدفاع عن سياسة متنورة بالعقل والحكمة، أمام سياسة السوقة الذين يفكرون بأجسامهم؟ أم أنه يدعو إلى التمرد على الفلسفة السياسية الأرسطية التي تقول بأن الإنسان مدني بطبيعته، وحيوان سياسي؟، أم لأنه كان متدمرا من عصره، نظرا لانعدام العلماء فيه، والذين كان من المفروض أن يدبروا مدنهم ودولتهم سياسيا، بدلا من العوام؟
قد يكون هذا التيه اللذيذ في العوالم السياسية لهذا الفيلسوف المتمرد على سياسة السوقة التي تفتقد للأخلاق والعلم والفضيلة، ولذلك فاتها أن تشيد مدنا جاهلة بسياسة فاسدة، لا يجد تفسيرا له سوى في تلك المعاناة التي عاشها فيلسوفنا في مدينة فاس، ولعل ابن أبي أصيبعة كان رائعا في وصفه لهذه المعاناة، حيث يقول: «وكان في ثقابة الذهن ولطف الغوص على تلك المعاني الشريفة الدقيقة أعجوبة دهره، ونادرة الفلك في زمانه. ولكن العوام كانوا يطاردونه باستمرار، بل قصدوا هلاكه مرات وسلمه الله منهم»، إلى أن مات مسموما على يد أعدائه من الأطباء، كما يحكي القفطي في «أخبار الحكماء». فهل كانت هذه الحياة المضطربة وراء اختيار الفيلسوف لسياسة المتوحد، بعدما أتعبته سياسة العامة ووجداني التسلط؟ أم أن احتقاره للأطباء والقضاة، ورجال الدولة كان سببا مباشرا في اغتياله؟ من الحكمة أن نترك الإجابة لابن رشد الذي كان قريبا من ابن باجة، إلى درجة أن هناك من يقول بأن ابن رشد تتلمذ عليه، ولكن لا نجد من الشواهد ما يثبت ذلك.
ومهما يكون من أمر، فإن فيلسوف تدبير المتوحد، قد أثر بشكل عميق في المسار الرشدي. وكم هو ممتع أن ننصت لنداء هذه الشهادة كحجة على محبة الفيلسوف للفيلسوف: «وإذا اتفق ونشأ في هذه المدن فيلسوف حقيقي كان بمنزلة إنسان وقع بين وحوش ضارية، فلا هو قادر على أن يشاركها فسادها، ولا هو يأمن على نفسه منها. ولذلك فإنه يفضل التوحد ويعيش عيشة المنعزل. فيذهب عنه الكمال الأسمى الذي يحصل له في المدينة».
هنا يتخلى ابن باجة عن الحق في المدينة السعيدة، من أجل الحق في مدينة المتوحد؛ الكل مقابل سعادة المنفرد، ذلك أن فشل الفيلسوف في الوصول إلى ممارسة السلطة في مدينة الوحوش الضارية، يقابله نجاحة في تدبير مدينته، التي يحملها معه أينما ارتحل، لا تعرف الشقاء، بل يعمرها الفرح والسرور، وسعادتها منصهرة في الفضيلة، لأن سكانها علماء.
والحق أن ابن باجة كان على علم بجدية الممارسة الفكرية التي لا يقدم عليها عملا كما قال، كما كان على وعي عميق بما يقدمه من جديد وبصعوبة الشروط المحيطة به، التي تعرضه للخطر، ولكن مع ذلك امتلك شجاعة الفيلسوف، ولم يتراجع عن مشروعه الذي لا نرى بينه وبين مشروع الفارابي والرشدي تعارضا، بل اختلافا في وحدة الغاية، ولذلك فإن الرغبة في الإصلاح السياسي أدت به إلى الهدم الثقافي والفكري لبراديغم عصره، الذي كان براديغميا فقهيا محافظا، ينظر إلى الفلسفة كمشروع للإلحاد، ويسعى إلى أن يقع بها في هوة العدم، ومن أجل ذلك تتم محاكمة الفيلسوف في الصمت أو العلن، ثم يموت وتظل أفكاره معلقة بين السماء والأرض، بين الحقيقة والافتراض.. هكذا يمر الزمان وتظل السياسة في العالم العربي هي نفسها، وسطوية إلى حدود التطرف. تنبذ الهدم، على الرغم من أنه لحظة أساسية في كل بناء جديد، وتحتفظ بهويتها، ويبقى الإنسان وسعادته هما الغائبان في هذه السياسة، لكن إلى متى هذا الضلال والتضليل؟، ولماذا فرض نفسه من جديد على الفضاء العربي المنحط؟ ألا يكون سبب هذا الوعي المغلوط يعود إلى التربية والتعليم؟ أم إلى ابتعاد الطبقة الوسطى عن الاشتغال بالسياسة وانحصارها في تلك العلوم المعيشية؟
لا يريد ابن باجة أن يكون خادما لغيره، لأنه كان فيلسوفا بالحقيقة، يسعى إلى خدمة نفسه بنفسه، ويتمتع بهذه الغاية التي جعلت منه متوحدا، ورئيسا لأفعاله: «فإن الغاية الإنسانية واحدة، وهي الرئيسة، وكل غاية سواها فهي خادمة. فالإنسان الرئيس بالطبع من كان معدا نحو هذه الغاية. ومن لم يكن معدا فهو مرؤوس بالطبع. فلذلك يكون ناس مرؤوسين بالطبع وناس لهم الرئاسة بالطبع، وقوم يرأسون قوما ويرأسهم آخرون». لعل هذا الموقف الشجاع، هو ما يشكل ماهية الفيلسوف الذي يعتز بعجرفته، على الرغم من أنها قد تكون مصدرا لاغترابه، ونسيان طبيعته المدنية. ولم يكن فيلسوفنا يجهل هذا الوجه الآخر للاغتراب، ولذلك نجده يدافع عن فلسفة المتوحد قائلا: «وليس هذا مناقضا لما قيل في العلم المدني ولما تبين في العلم الطبيعي، فإنه تبين هناك أن الإنسان مدني بالطبع. وتبين في العلم المدني أن الاعتزال شر كله. لكن هذا إنما هو بالذات. وأما بالعرض فخير. كما يعرض ذلك في أكثر مما في الطبع»، ولماذا أن هذا المنقب الجيد عن الحقيقة يتخلى عن الوجود بالذات من أجل الوجود بالعرض؟ ألا يحدث ابن باجة انشطارا في شخصية الفيلسوف عندما تكون غايته في الفلسفة تختلف عن غايته في العلم المدني؟
كاتب مغربي
عزيز الحدادي