■ انتشرت الرسالة مثل النهار في الهشيم، وطارت عبر مواقع التواصل الاجتماعي لتصل الأغلبية الساحقة في عالمنا العربي. رسالة نسبت لعدد من الأشخاص، بدون أن نعرف هل هي مجرّد أسماء وهمية أم حقيقية؟ وهل للرسالة مرجع فعلا؟ أم أنّها مثل «الحشو واللغو» الإلكتروني العربي الذي يملأ الشبكة، ويلهي الناس عن التفكير في أمور أخرى غير الموت والبقاء لفترة أطول في فخاخ اللاشيء.
وصلتني الرسالة أولا موقعة بإسم الفنانة الكويتية نادية الجار الله، ثم بعد يومين وصلتني باسم الكاتب عبد الله الجار الله، ثم ببحثي عن معلومات عن كليهما، عثرت على نص الرسالة منسوبا إلى الشيخ محمد الطريفي، ثم إلى الشيخ محمد النابلسي، وأكثر المواقع نسبتها لميتة نكرة، ومطلعها «عند موتي لن أقلق، ولن أهتم بجسدي البالي، فالمسلمون سيقومون باللازم، أولا يجردونني من ملابسي، يغسلونني، يكفنونني، يخرجونني من بيتي، ويذهبون بي لبيتي الجديد».
يلي المطلع تفاصيل محزنة كأن من كتبها فعلا كان يحتضر، أما خاتمة الرسالة فمن ذلك النوع الذي يطلب منك أن ترسل الرسالة لعشرين صديقا لتنال ثوابا ومغفرة وتكسب الجنة. المحزن ليس هنا، بل في صاحبة أو صاحب الرسالة اللذين لا وجود لهما، وهي رسالة تشبه تلك الرسالة التي نسبت لغابريال غارسيا ماركيز على أنها رسالة وداع كتبها قبل أن يموت، وتناقلها المتصلون عبر شبكة الإنترنت بشكل مجنون، وقلة جدا عرفوا أن الرسالة قصيدة لشاعر مكسيكي يدعى جوني ولش كتبها لدميته (معلومة وردت في مقال لكنعان أبو راشد متوفر).
رسالة نادية الجار الله أو عبد الله الجار الله إذن وهمية، كتبتها جهة نجهلها لأسباب نجهلها أيضا، مع أننا ندرك في قرارة أنفسنا أنها من ذلك النّوع الذي يبحث عن قارئ بسيط سهلٌ تسميمه وتثبيته مثل حدوة الحصان في أسفل قدمه.
وإن كانت الرسالة المنسوبة لماركيز ذات محتوى إنساني ثقيل، وكاتبها شاعر، وانتشارها ليس فيه ضرر، ولا ضحك على الذقون، سوى أنها جرّدت كاتبها الحقيقي من شرف التعريف به، إلا أن رسالة «المتوفية الكويتية» تصب في الخطاب الديني المشوه الذي يسعى لتدجين مزيد من البشر، لكن السؤال لماذا نسبت الرسالة لكاتبة وشاعر هذه المرة؟ هل بدأت موضة الدعاة تنتهي؟ وهل أصبح الكاتب أكثر صدقية منهم بعد أن استهلكوا مادتهم في ظرف ربع قرن من الثرثرة؟ لا مجال لتفسير هذا المنعرج الآن، إذ ربّما يكون هذا التفسير وهم آخر يضاف إلى أوهامنا. لكن منذ الأزل وقعُ رسائل الوداع على الناس كوقع الصاعقة في ليل عاصف.
وهم يهتمون بها أكثر من اهتمامهم بأصحابها في حياتهم، إذ يعتقدون ربما أن سرا من أسرار الموت موجود فيها، وهي تهزهم لأنها تعنيهم مباشرة وتذكرهم بأن الموت قريب جدا منهم.
الكاتب النمساوي شتيفان تسفايغ الذي أرعبته الحرب، وتقدمه في السن، ومرض الربو الذي عانى منه لا يزال نموذجا فريدا من نوعه في كتابة رسائل الوداع لأحبته وأصدقائه وأقاربه وللعالم بأسره، قبل أن ينتحر هو وزوجته في الليلة نفسها متعانقين، وقد كان محبطا ومكتئبا، ولكنه في كامل وعيه لهذا أقدم على قتل كلبه بطريقة ناعمة حين أطعمه كمية كبيرة من الحبوب المنومة، لينام بسلام نومته الأبدية ولا يتعذب بعده.
192 رسالة كتبها للاعتذار، أو لشرح لحظة خلاصه تلك التي بمجرّد اتخاذها شعر بأن جحيمه الداخلي انتهى، في كتاب لا أدري إن كان متوفرا اليوم نشرت منه بعض الرسائل على مواقع عدة، ضُمّت كل مراسلاته لأصدقائه، ومنهم الطبيب النفسي سيغموند فرويد، والطبيب والكاتب آرثر شنتزلر والمؤلف الموسيقي ريتشارد شتراوس وآخرون ويحمل الكتاب عنوان «الحب القلق».
آثار القلق الواضحة في رسائل شتيفان تسفايغ، هي نفسها في رسالة شارل بودلير لأمه مثلا، القلق بشأن الحاضر والمستقبل، وبشأن الاستقرار المفقود وغياب الشعور بالأمان. وسواء في الخمسين أو في الأربعين، عاش كلاهما بروح طفل خائف، إذ أنّ آثار الرعشة البريئة للطفل الخائف توضحّت في كل كلمة تركها الاثنان. لكن في دراسة سيكولوجية نشرتها إحدى الموسوعات المختصة في الموت الإرادي واللاإرادي، فإن 20٪ من المنتحرين والشاعرين بالموت يتركون رسائل لأحبتهم أو أقاربهم أو معارفهم أو للشرطة أو القضاء، لكن المتميز دوما هو رسائل أهل الأدب والشعر، إذ لا تخلو من هدف تخليد الذات في محاولة أخيرة للبقاء بشكل مغاير بعد أن هزمتهم الحياة.. ويطلق على تلك الرسائل اسم «البناء السردي للأنا أو الذات» narrative construction of self وهو إبقاء على «ذات دائمة» كما يريدها صاحبها. والعمل على أن تكون صورة جميلة تكاد تقترب من المثالية، فيها اعتذارات، واعترافات، ورسم نهائي يختصر تلك الذات.
الغريب الذي لم ينتبه له كاتب رسالة «نادية الجار الله» هو أن رسائل ما قبل الموت تحمل شيفرات خطيرة تخبر عن كتابها، وأخطر شيفرة حملتها هذه الرسالة هي عدم أهمية الجسد، فمتى ما انتهى الجسد ينتهي القلق والخوف بشأنه، وهذا يعني أن الجسد لم يكن فقط المحور الرئيسي لحياة كاتبها أو كاتبتها، بل كان البلاء الأعظم له. الجسد الذي كان يغطّى ويخبأ سيجرد من أثوابه بمجرد موته و«المسلمون» هم من سيقومون بذلك.
في لحظة ما بدا لي أن من كتب الرسالة ليس مسلما، لأن ذكر «المسلمين» جاء من باب امتلاك ذلك الجسد قبل الموت وبعده، وما كاتب الرسالة إلاّ مجرّد جسد لا خيار له في تغيير قدره، وما يزيد من تأكيد ما ذهبت إليه هو آخر الرسالة حين أطلق دعوة التصدق والتخلص من متاع الدنيا بالعطاء، لم تكن هناك رسالة شخصية كالرسائل التي قدمت نماذج عنها، غابت تماما تلك النقاط الإنسانية المشتركة التي تهب مرة واحدة في لحظات الوداع من صور الماضي والحاضر. ثم إن الرّاحل يعرف بالضبط أحبته، وهو في تلك اللحظات العزيزة يغتنم آخر فرصة له ليقول لهم وداعا، بأبهى ما يملكه من كلام، سواء كان ممتنا أو معاتبا، لهذا تبدو تلك «الخطبة» المباشرة خدعة أخرى من الخدع التي يتغذى عليها جمهور كبير من مجتمعنا، وقرص قوي لتخديره لبعض الوقت وتعطيل وعيه، وكوني اليوم توقفت عند هذه الرسالة فمن باب أن الخدعة انطلت عليّ لبعض الوقت، فأهدرت وقتي في قراءتها، ثم في البحث عن حقيقة نادية الجار الله، ثم حزنت حين اكتشفت أنها مجرد خدعة، وحزنت أكثر لأن هناك «لوبي» يسيطر على شبكات التواصل الاجتماعي عندنا، ويحرص حرصا كبيرا ليبقينا في متاهةِ وهمٍ كبير، ندور فيها منذ مئات السنين، وكلما وجدنا ما يشبه الباب فيها، اكتشفنا أنه باب ضمن المتاهة نفسها. حتى في الزمن الإلكتروني وانهيار الجدران الفاصلة بيننا وبين العلوم كلها لا نزال ضحايا تقنية «البرودكست» الملغوم، الذي على ما يبدو أصبح المخدر رقم واحد الذي نتعاطاه.
شاعرة وإعلامية من البحرين
بروين حبيب
أحييك يا ابن الوليد لقد وجدت في كلامك ما يثلج صدري
أرسلت رسالتك عبر واتس آب لأصدقائي
عافاك يا عبد الحميد، شيى جيد جدا، فقد قمت بعمل نبيل، و انت الآن معنا في كوكبة
من اهل المعروف، قد حجزنا تذاكر درجة اولى الى النعيم. فقد قال زحل ابن زحل مخاطبا
اهل البصرة و هم صيام، ان سارعوا الى عمل الخير ان كان سهلا المنال، و لا تسالوا عن شيئ
آخر عسى ان تعصوا الرحمان في اولياء امركم، و تخسروا دار الآخرة … صدق سلفنا الصالح.
أحسنت
لا يوجد علاقه بين نهاية المقال و الحقيقة الابديه
قد يكون بداية المقال صحيحًا ، حيث اني بالبحث ام اجد المقال كما ذكر
لكن هذا لا يعني ان المحتوي ليس هو المستقبل القريب لكل انسان
فعند الموت هذه الحقائق كامله لا خلاف عليها ، هل الصدقه مهمه، الدلائل الشرعية انها ذات اهمية كبيرة ، اللهم أحسن آخرتنا