قبل أيام، على مدخل قاعة المسرح البلدي في عكا، وقفت سيدة أنيقة، تنبعث منها رائحة عطر قوية ملفتة،
حتى أن الواقفين صاروا ينظرون إلى بعضهم البعض بتلك النظرات المتسائلة بصمت.
همست لزميلي: هذه السيدة لم تترك عطراً إلا وسكبته على نفسها». فرمقتني بنظرة لم أفهم كنهها، هل هي عتاب أم لامبالاة.
كانت رائحتها منتشرة على مسافة أمتار حولها في القاعة، الجميع شعر بذلك. في الاستراحة، تقدمت مني وقالت: أنا أعرفك جيداً، وأريد أن أتحدث إليك قليلًا.
– تفضلي!
-أعرف أن هناك ما هو أهم بكثير من حياتنا الشخصية، هناك حروب وضحايا ومشردون وسجناء واحتلال واستبداد، ورغم ذلك نحن لا نستطيع التحرر من ذواتنا، أنت لا تعرف أنني معاقة ولا أحد هنا يعرف، ولن تستطيع أن تعرف ما هي إعاقتي إذا لم أخبرك بها!
نظرت إليها مليا فقالت: لا تحاول فإعاقتي غير ظاهرة، أنا لا أعرف ماذا يعني رائحة ذكية أو كريهة، لأنني لا أشم أصلاً، كل الروائح عندي سيّان، هكذا ولدت، الأطباء أكدوا أن المشكلة منذ كنت في رحم أمي ولا يمكن إصلاحها، وفي مثل حالتي هذه يوجد فقط واحد من مليون في العالم، والمؤسسات الرسمية لا تعترف بأنها إعاقة.
– بعد إبداء دهشتي واصلت الحديث:
بدأت أشعر بهذا الخلل في سن الخامسة، المعلمة أحضرت حبّات فاكهة وخضار ومواد أخرى وطلبت منا إغماض أعيننا والتعرف عليها من روائحها، عندما شممت البصل قلت هذا برتقال، وضحك الجميع، في البداية ظننت أن الرائحة والذوق هما حاسة واحدة، ولكن عندما تكررت على مسامعي كلمات عن روائح الليمون، والبطاطا المقلية، والكاز، والجوافة، والأزهار، وكعك العيد، والبصل في الفرن وغيرها، صرت أشك بأنني أفتقد شيئاً ما!
صحيح أن هذه الإعاقة بسيطة مقارنة بفقدان البصر أو الشلل، ولكن فيها معاناة أيضاً.
الأنثى يجب أن تكون رائحتها طيبة دائماً، هكذا يقولون، وقد حدث أكثر من مرة وسببت لي رائحة منبعثة مني حرجاً شديداً، ولهذا أنا قلقة دائماً بشأن رائحتي، فأستحم بصابون معطر أكثر من مرتين في اليوم، وأتعطر.
في يوم ما هُرع الجيران إلى بيتي ليقولوا لي إن رائحة غاز الطبخ تملأ الحي وهي منبعثة من بيتي. كان يكفي زر كبريت أو شرارة من قداحة ليطير البيت بما فيه، ولهذا السبب أتفقد الغاز كثيراً وبقلق دائم، وأحياناً أصحو في الليل لأتفقد المفاتيح خشية تسرب غاز.
في إحدى المرات سمعت شقيقي الأصغر يصيح « رائحة شيء يحترق»! وركض إلي مذهولًا ليبعد المدفأة التي أحرقت الكنبة وأنا مستلقية عليها أمام جهاز التلفزيون.
«رائحة شيء يحترق» بالنسبة لي مقولة مرعبة!
قرأت أن القطط تشم أقوى من الإنسان بعشرين مرة، والكلاب ضِـــــعف القطط، وأن للإنسان عشـــرة ملايين مستقبِل شمّي، ولكنها تصل عند الكلاب إلى ملياري مستقبِل شمي.
يبدو أن ضعف حاسة الشم أدى لضعف في حاسة الذوق أيضاً، وحدث غير مرة أن تناولت طعاماً تالفاً أمرضني.
لهذا اتخذت قطاً صديقاً لي، ما يأكله القط آكله، وما يمتنع عنه لا آكله، القط يرفض تناول بعض المعلبات من اللحوم، يشمها ويبتعد عنها، أفعل مثله فأنا أثق به، فيما بعد فهمت أن القط يمتنع عن الطعام الذي يحوي نسبة عالية من المواد الكيماوية الحافظة، الغريب أن البشر يأكلونه بشراهة ولا يشعرون بالسموم.
مع القط أنام مطمئنة بأنه إذا شم رائحة حريق أو غاز أو أي شيء غريب سوف يموء حتى يوقظني.
أفرك أسناني مرات عدة في اليوم، ولا تنقطع العلكة بطعم النعناع من حقيبتي، يقولون إن رائحتها طيبة، ولكن قاطعت الثوم والبصل احتياطاً ومنعاً للإحراج.
في لقاء لي مع الرجل الذي أحببته وصار زوجي أخذ نفساً عميقاً وقال: ياااه ما أجمل عطرك، وراح يحدثني عن أصناف العطر.
أنا مثّلتُ الدور بأنني مستمتعة بعطره وقلت له: ياه ما أذكى رائحتك.
كانت النشوة على وجهه، وهو يعب الرائحة المتناثرة مني، إلى أن سألته: أيّهما أذكى برأيك، رائحة العطر أم رائحة مسخن البصل بالفرن! ضحك يومها كثيرًا، واحمر وجهي، لم أقصد أن أحكي نكتة، هو لم يفهم لماذا احمر وجهي، ضحك كثيراً من تساؤلي الذي بدا سخيفاً، حينئذ أخبرته بأن سؤالي حقيقي وليس مزاحاً، وكشفت له سري بأني كذبت عليه ولم أشم عطره، ولكنني شممت حنانه وطيبته».
في اللقاء التالي أهداني رواية العطر للألماني زوسكيند، قرأتها أكثر من عشرين مرة، ولم أملّ منها، كانت هذه الرواية بالنسبة لي أهم ما قرأته على الإطلاق، بنى الكاتب في خيالي تصورًا لمختلف الروائح وخصوصاً الياسمين.
عندما أنجبت ابني الأول احتضنته وصرت أتنشق رائحته مثل الوالدات الأخريات، دون أن أشم شيئاً، وهي حسرة في قلبي أنني لا أستطيع شم رائحة ابني أو رجلي الذي يغمرني بحنانه، ولا رائحة والدتي قبل رحيلها.
اليوم يا عزيزي هو الثالث من كانون الأول/ديسمبر، يوم المعاق العالمي، رششت شيئاً من العطر وخرجت في طريقي إلى هنا، وقبل أن أصل مر بجانبي أحدهم وتفّ بغضب وتحدث عن رائحتي بكلمات حقيرة، فما كان مني إلا أن عدت إلى البيت وسكبت قارورة العطر كلها على جسدي وثيابي وأتيت إلى هنا لأقول إن هناك إعاقات لا ترى بالعين المجردة، أصحابها يعشيون بينكم، وهناك معاقون في أجسادهم أو حواسهم، وهناك معاقون في عقولهم وأرواحهم مثل هذا الذي شتمني بسبب عطري، وهناك من يخفون حزناً كبيراً تحت ابتساماتهم، فإذا كنتم تشمّون روائح أحبائكم وطعامكم وأزهاركم ورائحة غاز الطبخ والحرائق والعطر، فاحمدوا الله كثيراً، لأن هناك من هو محروم من هذه النعم الكثيرة التي تعيشونها دون أن تنتبهوا إليها.
سهيل كيوان
صباح الخير استاذ كيوان … احببت بشدة بشدة ما كتبت يداك .. لامست قلبي وحركت كل خلية في عقلي وضميري وانت تكتب بقلمك الذهبي موقفا يخاله القاريء عاديا .. النعم كثييييييرة علينا ونحن عباد عصاة ءابقون لا تدمع لنا عين لكانها انهار جففها حريق ذنوبنا ولا تنتفض اجسادنا ليلا لتقف بين يدي خالقها معتذرة في انكسار المسكونين بحرارة التعويض عن كل لحظة غفلة عن شكر عن كل لحظة سخط على نقص عن كل لحظة تلبس باثم واندفاع وراء غريزة غبية .. يا رب لا زلنا نذكرك رغم كل سوء ادبنا مع نعمك اجعلنا من خيرة من انعمت عليه فشكرك اللهم رضنا من العيش بما قسمت لنا واتمم علينا اعلى النعم بل قمة النعيم اتدري يا مولاي ان القلب ليحار ماذا يريد من دنيا تذوي اغصانها ونمر فيها كاننا برق يذهب بالابصار نريد معيتك ان كنت معنا كملنا ولم نر شيءا من انفسنا فكل منع منك عطاء وكل عطاء منك قد يكون منعا اللهم اجعلنا ممن عافيتهم في ابدانهم واهليهم واموالهم وعقولهم ودينهم وقلوبهم واجعلنا ممن استدام نعمك فكثرت عليه بشكر تلهمنا اياه ولا فضل لنا انما نحن محل لتفضلك وجودك مولاي رب العالمين هنا عباد يحنون رؤوسهم خجلا من ذنوب قارفوها بما انعمت عليهم وعصوك بما انعمت به عليهم بدل ان يطيعوك فيه اللهم انشلنا من ظلام ذنوبنا وقسوة قلوبنا واستعمل كل ما انعمت به علينا فيك ولك واتم علينا نعمتك فيه حتى نغدو من المحسنين اللهم لا تقطعنا من وصلك ولا تحرمنا من جودك واعطف علينا بمجدك واحفظنا من شر انفسنا فانها اعدى اعداءنا وشر جميع خلقك من انس وجن واحجزنا عن معاصيك وعن سقطات الهوى ولحظات القلوب الى غير قربك وحل بيننا وبين كل طريق لا تفضي الى رضوانك وادخلنا برحمتك في عبادك الشاكرين اللهم تجاوز عنا تجاوز محسن كريم اللهم انا نقف اذلاء فقراء ببابك لا حجة لنا بين يديك وقد تلبستنا الذنوب وصرعنا الهوى فاكرمنا بجميل عفوك وقربنا بدوام تجاوزك يا عفو يا غفور والهمنا التقوى ووفقنا للتي هي ازكى واكفنا ما اهمنا من حاجاتنا في ديننا ودنيانا وتحمل عنا كل ما يشق علينا واجعل ما حرمتنا منه عطاء جميلا منك ولا تجعل ما اعطيتنا حرمانا وحجابا عنك اللهم كل عقوبة تهون الا ان تحجبنا عن قربك وان تحول بيننا وبين شكرك اللهم اعترفنا بذنوبنا فتقبل انكسارنا بين يديك واجعلنا ممن لاحظ دقيق نعمتك بجميل تفكر تلهمه اياه فيخر ساجدا لك قلبه ما احييته ولا يقوم من سجوده الا في جنتك
شرعاً لا يجوز خروج المرأة من بيتها وهي متعطرة أو متبرجة
والسؤال هو : لماذا لا تتعطر المرأة لزوجها أو محارمها داخل بيتها ؟
الكروي داود يتعطر دائماً ببيته خاصة قبل الصلوات – لماذا أتعطر للآخرين ؟
ولا حول ولا قوة الا بالله
مقال تعتبيه قمم انسانيه واصوات يرددها صداه .. بأننا (مختلفون لكننا متشابهون ) .
لربما معظمنا انعم الله عليه بصحة الجسد ولربما ايضا اعاقة الجسد نعمة تفوق نعمة العقل اذا شل فيه التفكير السليم ..واذا ما احكم بحاسة بالذوق لأن قمة الاخلاق هي عطر النفس ونفحاتها ويتجلى في كيفية التعامل مع الغير فإذا فقد الشخص الذوق شل الاتزان الخلقي الذي يشل العاهات الانسانيه ..
اللهم كما احسنت خٓٓلقي أحسِنْ خُلُقي ..
رائع جدا, ويستحق القراءة
ما اجمل هذه القصه لقد ابدعت يا استاذ ما اصعب ان يحرم المرء من شم رائحة من يحب سواء بسبب الاعاقة او البعد والقدر !
سبحان الله ، لكل موقف سبب يفسره، الفرق فقط في ظهوره من عدمه.
في السابق كنت كثيرا ما أتساءل و قد أشمئز من أمور تبدو غير طبيعية، مع الوقت صرت ألتمس الأعذار أحيانا أكثر مما يتطلبه الموقف.
موضوع يبدو للوهلة الأولى بسيط و عادي و إذا به حساس و معقد.
زيادة على المتعة عند قراءة ما تكتبه أستاذ كيوان تحمل إلينا معلومات قيمة، شكرا.
أرى في القصة قصتين, قصة السيدة وغياب حاسة الشم لديها , سردتها ياأستاذنا الفاضل بطريقة سلسلة جميلة بدون شك مست مشاعر كل قارئ لها. لكن القصة الثانية والتي بسببها تحدثت السيدة , ” همست لزميلي: هذه السيدة لم تترك عطراً إلا وسكبته على نفسها». السيدة سمعت همسك, بدون شك وإلا ماتحدثت, موقف حرج شيئا, رد فعلك بعد سماع قصتها ؟ , خصوصا هو الذي دفعها للحديث, أرى غياب خاتمة الخاتمة.
وشكرا .
الكاتب سهيل كيوان لقد خاطبت في مقالتك هذه أرواحا كثيرة من الذين يعيشون بيننا وهم يعانون دون أن نشعر بهم من إعاقات خلقية منذ الولادة، وقد لامست بي شخصيا شيئا عميقا في هذا المقال، هناك من يتدخل في شؤون الاخرين ويجرحهم دون ان يشعر ، وللأسف هذا منتشر في مجتمعنا، ولعل التفاتك في يوم المعاق العالمي يوقظ بعض هؤلاء الذين لا ينتبهون لمعاناة الآخرين، الحمد لله على نعمة الصحة دائما واما من له اعاقة فلا مفر من التغلب عليها وعدن الاستسلام ولعل هذا السيدة في قصتك قد اعلنت التحدي على ذاتها وعلى مجتمعها من خلال سكبها قارورة عطر على نفسها لينبعث طيبها على كل ما يحيط بها شكرا على طريقتك في توصيل الفكرة
كتابة جميلة عودنا عليها الاستاذ سهيل وحدثنا عن رواية العطر للكاتب زوسكيند والتي تجري أحداثها في فرنسا إبان الثورة الفرنسية والتي على عكس السيدة التي فقدت حاسة الشم فإن بطل الرواية لديه حاسة شم مفرطة في الحساسية وبالتالي بات من أعظم مازجي العطور في فرنسا ولكن في نفس الوقت كانت خلطات عطره تأتي من روائح جلود العذارى اللاتي يقتلهن هذه الرواية الفريدة من نوعها تجرنا إلى رواية رائعة من جزأين أنصح شخصيا بقراءتها للكاتب التونسي المبدع حسين الواد وعنوانها روائح المدينة التي يتحدث فيها عبر الروائح عن كل العادات الاجتماعية ومشكلات المدن العربية وبالطبع فيها نكهة مقارعة الاستعمار والأنظمة الديكتاتورية ومنها نظام بن علي الهارب
اذا كانت السيدة في النص اعلاه تعاني مما اسمته بالاعاقة الخفية جراء عدم
–
تمييزها للروائح فأنا ايضا اعاني من اعاقة صامتة لم اكتشفها الا في السنوات القليلة الماضية رغم قدمها
–
الا وهي عدم تمييزي لبعض الالوان بالخصوص في الليل وكراهيتي للاضواء الكاشفة فكثيرا ما تلقيت تصحيحات
–
لاشاراتي لالوان وكنت لا اعير ذلك اي اهتمام الى ان جاء اليوم الذي تأكدت فيه من خلل رؤيتي لبعض الالوان
–
حينما كان صاحب مغسلة الحي يحرر لي وصلا دبج فيه نوعية البذلة المزمع غسلها والثمن المتبقي
–
وكانت دهشتي عندما وصف لون السروال الذي كنت اعتقد انه اسود بالازرق وهذه كانت بداية تعرفي على علتي
–
وتحياتي