رهبنة القتلة من تاجر المخدرات إلى القائد السياسي

لا تستطيع وأنت تشاهد فيلم «إسكوبار: الفردوس الضائع» عن حياة إمبراطور المخدرات الكولومبي الشهير بابلو إسكوبار، إلا أن تستحضر صورة هذا الزعيم العربي، أو ذاك، ممن فقدوا فراديسهم الضائعة، أو ممن ما زلوا يتمتّعون بها، ويتمتعون بالتلذّذ بالتهام لحمنا وأحلامنا.
لقد خرج إسكوبار من هذه الدنيا مخلّفا ثروة تقدَّر بثلاثين مليار دولار،عبر تصديره طنين من المخدرات يوميا، بعد أن أفسد الشرطة والقضاء والسياسيين، وقتل الآلاف، سواء مباشرة، في إطار عمليات تصفيات الخصوم، أو الخونة من رجاله، أو عمليات التصفيات التي لم ينج منها مرشح للرئاسة الكولومبية، بعد أن تجرّأ هذا المرشح ووضع على رأس أولوياته القضاء على تجارة المخدرات وعصاباتها. كما تصاعدت عمليات عنفه في المرحلة النهائية من حياته، إلى بثّ الرعب من خلال سلسلة تفجيرات عشوائية حصدت الكثير من أرواح الأبرياء، كان أشهرها ذلك التفجير الذي حدث أمام مكتبة في «عيد الكتاب» حيث كان الناس يحتفون بشراء إبداعات كُتَّابهم الأقرب للقلب، ويحتفل الآباء والأمهات ومعهم أطفالهم بموسم العودة إلى المدارس.
ولا يكتفي إسكوبار بذلك، وهو ينعم في فردوسه، وهو فردوس فعلا، فيه حديقة حيوانات ومطار وعالم من البهجة لا مثيل له، بل يذهب إسكوبار في ردّه على مطاردة الحكومة له، بوضع مكافأة مقدارها ألف دولار لكل من يقتل شرطيّا، فتبدأ مذبحة لا عنوان لها تغرق الشوارع بالدم.
سفاح حقيقي، ويتمتّع بشعبية أيضا، وبخاصة بين الفقراء، هو الذي لا يتوانى عن تقديم الدعم لهم، وفي هذه يبدو إسكوبار متفوقا على كثير من الزعماء العرب الذين يتفننون في جعل الفقراء أكثر فقرا.
يبني إسكوبار ملاعب كرة القدم، والمدارس أيضا، في زمن يتم التعامل فيه مع رجل العصابات كبطل، ولا يكتفي بتجارته الأكثر ربحا في العالم، بل في تدخله في الانتخابات، حيث يرسل الناس إلى صناديق الاقتراع لانتخاب من يريد، قائلا لهم: المال ليس مشكلة، باستطاعتكم أن تأخذوا ما تريدون مقابل أصواتكم.
وإسكوبار زعيم، ولا يختلف عن زعمائنا الذين يجدون أنفسهم في مسرحيات العبث العربي سجناء بين حين وحين، فعندما يقرر تسليم نفسه ليسجن من أربع إلى ثماني سنوات، يختار أن يُسجن في بيته في أعالي مدينة مدايين الجميلة، ولا يقبل بغير رجاله الأوفياء حرّاسا له، ويشترط أن يكون المبنى – السجن، خارج سيطرة الدولة وصلاحيات الشرطة!
وإسكوبار زعيم أيضا، حين يدير تجارته من سجنه، ويوسّعها، ويواصل تأثيره على القضاة والسياسيين ورجال الشرطة، بل يمارس القتل، قتل أي واحد من رجاله إذا انتابه إحساس بأن السجن قد أضعف الإمبراطور، فقرر أن يسرق شيئا من ماله. وهو مسلح أيضا، ويستطيع الهرب من السجن حين يحاصره أربعمئة رجل من القوات الخاصة للانقضاض عليه.
وإسكوبار زعيم، يتمتع بالشعبية، التي تذكّرنا بشعبية بطل فيلم «قتلة بالفطرة» حيث يرفع الناس يافطات طالبة من بطل الفيلم المجرم قتلَهم، وهي صورة لا تختلف عما نراه في كثير من شوارع مدننا العربية أيضا، حين يبكي الناس قتلتَهم أكثر مما يبكون أمهاتهم!
كل هذه وسواها من دراما الدم، لا يقدّمها لنا فيلم المخرج أندريا دي ستيفانو الذي قام ببطولته الممثل اللامع بينيسيو ديل تورو، لأن فيلمه يبدو في الحقيقة مثل أي تقرير عن أي زعيم في التلفزيون الرسمي، يملكه الزعيم كما يملك البلد. ولو كان إسكوبار حيّا، ولم يفارق دنيانا وهو في الرابعة والأربعين من عمره، قبل اثني عشر عاما تقريبا، لقلنا إن إسكوبار ساهم في كتابة هذا السيناريو الرقيق، لأنه هو من موّل الفيلم في الخفاء!
إن شخصية إسكوبار هنا، هي شخصية رب الأسرة المُحبّ لأطفال أسرتيه: الصغيرة الخاصة، والكبيرة، شعبه! وهو المُحبّ للغناء والحريص على ابنة أخته، المتابع لكل تفاصيل قلبها الذي تعلق براكب أمواج كندي، وحين يأمر بقتل من يضايقون زوج المستقبل لا نرى عملية القتل، بل نرى من بعيد جثثا معلقة على الأشجار، كي لا يجعلنا صانع الفيلم نكره الزعيم!
إن صورة إسكوبار في فردوسه، صورة الرجل الجميل، الرومانسي، الحساس، لكن صناعته الوحيدة داخل هذا الفردوس هي تحويل العالم كله إلى جحيم. وهذا ما لا يقوله لنا هذا الفيلم الدعائي.
إن مشاهدة فيلم آخر، وثائقي، عن حياة الزعيم، أنتجته «ناشيونال جيوغرافيك» عنوانه: «مطاردة بابلو إسكوبار» سيفتح لنا أبواب الأسئلة على مصراعيه، ففي وقت يبدو فيه الفيلم الثاني شجاعا وجوهريا ومتتبعا لكل تفاصيل حياة تاجر الموت هذا، يبدو فيلم ستيفانو، مثل الأموال التي يتم غسلها في عمليات تجارية مشبوهة، فهو فيلم مغسول جيدا، ولا توجد فيه أي بقعة دم على ياقة أو صدر الزعيم! وللمفارقة أيضا، فإن الفيلم الوثائقي يبدو أكثر درامية، لأن فيلم ستيفانو الدّرامي، قتل الدراما لفرط ما عمل على رهبنة القاتل.
تداعيات كثيرة لا تكفّ عن التدفّق بعد مشاهدة الفيلمين، في الأول لا يملك المُشاهد المخدوع إلا أن يترحَّم على الزعيم القائد، الراحل، أو الذي لم يزل حيا! وفي الثاني يُطلُّ على الحقيقة، حقيقة القاتل عاريا، القاتل الذي لا تستطيع ثلاثون مليار دولار أن تستر عورته.
وبعد «حلم الجنرال»:
أيها العسكريّ
حلمتُ بدبابةٍ تتمرَّغُ كالكلب قربي
فَرَقَّ لها،
وهو دوماً يرقُّ
ويخْضَرُّ قلبي
ولما تصاعدَ ضوءُ النهارِ.. تذكَّرتُ ربي!
فأطعمتُها فَرِحاً نصفَ شعبي.!

إبراهيم نصر الله

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    مقالة جميلة ولكن عن وحش بشري ليس بقلبه رحمه

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول منى -*الجزائر*.:

    مقال رااااااائع بكل ماتحمله الكلمة من معنى, شكرا استاذ إبراهيم نصرالله, دمت كريما تغدقنا بجماليات وحقائق هي لنا كالزاد في عالمنا العربي الجربح.

  3. يقول سامر:

    اطلاله جميله كالعاده، هناك ايضا مسلسل تعرضه شركة نتفلكس اسمه اسكوبار، شكرا أستاذ ابراهيم. أتمنى ان تزيدنا من قراءاتك الأدبية العالمية و روائع السينما بثقافاتها المختلفه و رؤيتك النقديه لها كمشاهد و أديب و روائي.

إشترك في قائمتنا البريدية