«بحر غزة فيه ما يكفيه، بحيث لم يعد بحاجة إلى أيِّ دموع». بهذه الجملة التي أتت في تباشير نهاية رواية «أعراس آمنة»، اختصر الروائي إبراهيم نصر الله مضمون سرده والحوار من البداية وحتى النهاية. هناك، في غزة، المدينة التي غزاها الظلام، وانتحرت معها الأحلام الضائعة، حيث يرصد الموت كلَّ ما هو حي، وما هو ميت حتى، تسلّل الكاتب بقلمه متجوّلاً بين الأرواح، واضعاً نصب عينيه فوهة البندقية التي تترصّد له في كلّ شخصية من شخصياته، وكلّ عبارة من عباراته.
آمنة تحضّر لعرس ابنها «صالح»، الذي تخاله حيّاً وتنسى أنه استشهد من زمن بعيد. يضعنا الكاتب في مخيّلتها وهي تحاوره وتطبخ له ولزوجها الشهيد وابنتها الشهيدة، وكأنّهم جميعاً أحياء يرزقون.. ونكاد ننسى أنّهم رحلوا، ونشكّك في النشيج الصادر من كلامها، حتى تتجلّى الحقيقة في الصفحات المقبلة، ترنّ في شحوب الصمت أصداء حزينة، الكلّ يتجاوب مع خيال آمنة، يتعامل معها وكأنّ عائلتها ما زالت موجودة، هو التضامن الصامت الذي يخشى أن يفضحه نطق الحرف حتى لا يشتّت الحزن ما تبقّى من الأمل.. والويلُ إذا ما كُسر حاجز هذا الصمت.
و«رندة» أو توأمها «لميس» الفتاتان، ابنتا جارة آمنة التي تقطن بجوار منزلها مع الجدة، هي التي تسرد الرواية ضائعة تائهة في أن تكون هي نفسها رندة أو شقيقتها التوأم لميس، التي استشهدت ببندقية قنّاص رصدتها وهي تطل من سطح منزلها ترقب الأفق البعيد المشتّت بين أسوار فلسطين الحزينة، المخضّب بدماء لم تجف من شهداء كثيرين أصبح عددهم أكثر من عدد الأحياء بكثير.
رندة التي تحيق بأوجاع آمنة، وتحاول أن تشاركها أفراحها «المزعومة» من وحي خيالها المجنون بفقدان أحبائها، تصغي إليها بصمت، عندما تعرض عليها أن تزوّج ولدها الشهيد بأختها لميس، وتنفض عن عينيها سحباً لدموع مكبوتة لم يفرج عنهم الصمت إلا قليلاً.. حتى لا تتجلّى الحقيقة ساطعة كالشمس، فتقضي على الأخضر واليابس.. حقيقة أنَّ كلّهم قد رحلوا ولم يتركوا إلا الذكريات.. إلا الصمت.
أمّ التوأم رندة ولميس، سخرت من واقع مجنون حانق..عندما ثارت على انتماء الشباب الفلسطينيين إلى حركة «حماس» أو «فتح» فالعدو واحد يرصد كلّ من يتجذّر من تلك الأرض المحتلة..ولا يأبه لانتمائه السياسي..
أراد الكاتب أن يفهمنا بأنّه لم يعد في القلب وجعٌ يئن أو عينٌ تدمع، الأحزان باتت مكدّسة مكوّمة كالملابس الممزّقة القذرة التي تنتظر من يغسلها ويصلحها. الموت بات أقوى من الحياة، ومن بقي حيّاً فهو ينتظر الموت في أيّ لحظة ويحفر قبره قبل الأوان. التراجيديا الحاضرة في الرواية تسبغ السرد السلس الجميل بصبغةٍ اكتئابيّة تطغى على قلب القارئ، فيجتثّ هذا الحزن ويمضي قدماً في القراءة. يغلب السرد على هذا التجويف عندما يزخرف الرواية بعنصر التشويق، ويتخلّله الحوار الجميل الذي يعكس في مرآة حروفه كلّ الوجع الفلسطيني المرير.
تبقى آمنة وحدها تتجوّل في الأسواق وبين البيوت وفي السماء والأرض، تعبّر عن أرضها المغتصبة ودمها الشهيد. تحاول أن تحيل الأحزان لأعراس تتحدّى كل ما يبتر قلبها من الأوجاع، لكنّها تدرك أنّها تحتال على نفسها، وأنّ هذا لا يعدو أن يكون محض مناورات منها حتى لا تشمِّت العدو الإسرائيلي بها. وفي عينيها مغزى لا يموت عن العروبة المفقودة التي ماتت عندما حملت فلسطين وحدها القضية، بيعت بأرخص الأثمان، وحرمت أن تتجرّأ برفع رأسها، فنهضت ممزقة مثقوبة من كل جانب بأطفال الحجارة وسيول الدماء التي تدفقّت من أجساد الشهداء.
أعراس آمنة نشيجٌ لملحمة العروبة الضائعة بين المحتل ومن ساعده، بين من خذلها وحاربها وباعها.. والصــــمتُ ما زال قائماً لا يبرى من شتاء الويل ورياح الغدر.. الصمتُ يطمسُ الحزن لأيام، لشهور وربما لبضع سنين فقط.. ولكنّه يستحيل لأرضٍ تُخرج أثقالها إن تكلم في يومٍ من الأيام.
٭ كاتبة لبنانية
نسرين بلوط
متميزة دائما