رواية «بيمان، درب الليمون» لـ جهاد أبو حشيش… هوامش على متن الالتزام

حجم الخط
0

تستند مجمل الرواية الفلسطينية في خطابها على تقاليد يمكن أن ننعتها بالثالوث القائم على النكبة والمقاومة والمنفى، وبين ثنايا هذه المرتكزات الثلاثة، تتشكل المدونة الفلسطينية، التي تخرج أحياناً عن هذا القدر، إذ أن مبتغاها المحوري الاستجابة لمتطلبات الوعي الفلسطيني الجمعي الكامن في تكوين الشخصية الفلسطينية، التي تخشى مغادرة هذا المستوى الخطابي، بوصف أي ممارسة لا تستجيب لهذا النسق نوعاً من الردة أو الخيانة. مما لا شك فيه أن الوعي الفلسطيني قد تغذّى على هذه المدونة السردية، ومع ذلك فثمة دوماً وعي إنساني، جمالي كامن، يرتكز على حق الحياة، عبر الحب والطموح والإيقاع اليومي لحياة مألوفة بسيطة، لا تتكئ على مقولات كبرى، أو وعي ملحمي صاخب.
عن دار فضاءات للنشر والتوزيع صدرت رواية للكاتب، والشاعر الأردني الفلسطيني جهاد أبو حشيش بعنوان «بيمان، درب الليمون»، الرواية هي فعل كتابة ينهض على سياقات، باتت ترى في الرواية مجالاً تعبيرياً أكثر نجاعة وتأثيراً، وربما جاذبية للمتلقي الذي يتجه إلى السرد بوصفه نسقاً حاملاً للكثير من الأفكار والرؤى والتوجهات، وربما الأيديولوجيات، ولعل هذا يأتي استجابة لهيمنة الرواية التي بدأت تتصدر المشهد العربي الثقافي.
وإذا كان الروائي جهاد أبو حشيش معنياً بالإشكالية الفلسطينية شعرياً، عبر نصوص ذات طابع إنساني جمالي، ووطني، غير أنه في روايته هذه يقارب حالة جديدة تتصل بالموضوع الفلسطيني سردياً، فجهاد عبر روايته التي تتسم بنسق اختزالي، يستند إلى تقنية تعدد الرواة بالتوازي مع منظورات مختلفة، حيث تضطلع كل شخصية بفعل الحكي لتسرد ما تراه، وتعاينه، بل هي تنهض بفعل الحكاية، ولكن من خلال حساسيتها الخاصة، ولا سيما فيما يتعلق بسرد الأحداث، وموقعها في التسلسل الزمني، وهنا يواجه المتلقي فعلاً من عملية إعادة بناء الرواية في مسلك ينشأ من اختبار الشخصيات، ومواقفها تجاه الفعل السردي، وهذا مما يشكل نمطاً من التلقي، والتأويل، ولكن ثمة خيط ناظم للرواية يتصل بهذا التكوين المرجعي، والمعرفي للحكاية الفلسطينية، وتحديداً الارتكاز على حيثيات النكبة، كما الارتحال والهجرة، وهو ما يشكّل سردية فلسطينية بامتياز، ولكن هذا الجانب يحضر مع أنساق ذات طابع نوستالجي لمرحلة زمنية معينة، حيث كان النضال يرتبط بالقيم اليسارية، وهي مرحلة ينظر لها دوماً بعين الحنين، وهي هنا حالة تماثلية للكثير من الكتابات الفلسطينية: «رائحة الطين تشبه رائحة العشب المتيبس المخلوط بقشر الرمان، خاصة في الصيف، لكنني أحب تلك الرائحة التي تنبعث منه في الشتاء عندما تشعل أمي الكانون، ويتصاعد لهب الجفت الذي ترميه بين الخشب ليسرع اشتعال النار». وفي مجالات استعادة النكبة نقرأ: « أمي تجرنا غصبا عنا، إلى أين؟ لا نعرف، لكننا نركض، الناس كلهم، يركضون، لا أحد ينتبه لأحد، وأنا أركض ممسكاً بيد أمي من دون أن أفهم شيئاً، كلمات غير مفهومة تتطاير هنا، وهناك «اليهود، العرب، وصلوا، انهزموا».
بيد أن هذا يأتي في ظلال مدونة مضمرة، تنهض على تشكيل الخطاب الخاص بالنفي، والشتات الفلسطيني في المدونة الفلسطينية، غير أنه يتخذ في رواية «بيمان» منحى آخر، حيث يتصل النضال الفلسطيني بتجلياته، فالشتات الفلسطينية يتعالق بتجربة أخرى، تحاكي ما اختبرته الكيانات الفلسطينية الجمعية، وهذا يعود بنا إلى توصيف كل من روبين كوهين، ووليم سافران أحد أبرز دارسي الشتات، حيث أشارا إلى أن تجربة الشتات تتميز بملمح التعاطف، والتماثل، بين الذين يتعرضون لتجربة النفي والشتات، وهكذا تُبنى الرواية على هذا المعطى، ونعني عبر علاقة حب تجمع بين المناضل الفلسطيني جمال، الذي يمثل نتاج التجربة الفلسطينية، وبيمان الفتاة الكردية، التي تحمل اسماً ينطوي على قيمة جمالية، فضلاً عن كونه، ينطوي على مستوى دلالي، فالليمون، ورائحته تستدعي مخزوناً جمعياً، وثقافياً في المدونة الفلسطينية.
يلتقي جمال وبيمان في بيروت إبان الاجتياح الإسرائيلي حيث وجود القوى اليسارية، والثورية للدفاع عن بيروت، من منطلقات أممية، هناك تنشأ العلاقة، أو حالة الحب بين منفيين، أو قضيتين، وربما بعدين، جمالي وإنساني، ولكن ثمة دوماً موقف ما، ذلك الالتزام الذي يتحول إلى قاسم مشترك بين بيمان وجمال، وهنا نلمس ذلك الوعي الكامن بعدم تجاوز مركزية القضية، وما تنطوي عليه من أولوية، غير أن تلك العلاقة الإنسانية بين بيمان وجمال، لا تفارق مصيرهما الكوني، لتذهب العلاقة إلى مدارات الشتات والنفي، ولكن تبقى نسرين ابنة جهاد وبيمان نتاج مرحلة النضال، والإنسان أيضاً، أو ذلك المصير المشترك الذي يجمع بين مناضل فلسطيني، ومناضلة كردية، نسرين هي ولادة جديدة، لنسق مقاوم، يجمع بين قضيتين، وهو فعل استمرارية، ونفي الفناء بشكله المطلق: «يوم ولدت نسرين، ضممتها إليّ قبل أن يقطعوا حبلها السري، كنت أريد أن أرى هل هي كردية أم فلسطينية، أتعرف؟ وجدتها نسرين فقط، يولد الأطفال أطفالا يا حبيبي، ونحن نحملهم تركاتنا». في المقابل ثمة دوماً النسق الأممي لعلاقة إنسانية، ولكنها تبنى في سياقات أيديولوجية:
«أصرت بيمان ورفاقها الأكراد المتدربون على مشاركتنا في العملية الاستكشافية، لكن القائد هز رأسه بعدم الموافقة.
-أنتم أكراد، ويجب أن تعودوا بما تدربتم عليه إلى كردستان.
– هل هذا يعني أن فلسطين قضيتكم وحدكم؟
قالت بيمان بصوت حاد، فضحك القائد أبو غسان قائلاً:
ـ لو كانت كردستان قضيتكم وحدكم، لكانت فلسطين قضيتنا وحدنا. إذا سنذهب».
ومع ذلك، فإن هذا الموقف الأممي لا يفتقر للشرط الأسمى، أي القيمة الإنسانية، والجمالية لثيمة الحب، والولاء كما أسلفنا، وهذا يتبدى بشكل جلي في حالة من التمازج، حيث يتبرع جمال بدمه لبيمان التي تتعرض لإصابة في نهاية الرواية حين يلتقي كلاهما بعد سنوات من الانقطاع، وفقدان كل منهما للآخر.
إن رحلة جمال من فلسطين طفلاً، فمراهقاً في مخيمات اللجوء، وصولاً إلى الجامعة، ومن ثم النضال في بيروت، هي رحلة الفلسطيني كنسق وجودي، لذلك لا بد من تبلور موقف، لمقاومة هذه العبثية التي لا مجال لفهمها، أو محاولة تنسيق تداعياتها، ولهذا كان لا بد من تشكل الحوافز، وهن نتلمس سياقات سارترية في منظورها الإيجابي، على خلفية إشكاليات الوجود الفلسطيني في دول الجوار، وتلك الحساسية التي تنشأ عبر اختبارات الفلسطيني، وتلك الخيارات، وما يتصل بمعنى الالتزام والولاء والخيانة ومقاومة كل المحاولات لثني الفلسطيني عن مصيره، وهكذا نجد أن مركزية المقاومة ما زالت حاضرة في المدونة، وهي تحاذي، وتجاور تلك التراكمات التي تبنى على تجسيد المأساة الفلسطينية، وعمق النكبة، والنفي وثقافة المخيم، ولكن لا بد من فعل مقاومة لدحر الفناء، ومع ذلك فإن رحلة الفلسطيني على المستوى الإنساني، لا تقل أهمية، ولهذا تبقى بيمان وطناً آخر، حياة أخرى، وحالة من الاكتمال، ولعلها محاولة في البحث عن الذات.
على المستوى السردي الدلالي، تنهض الرواية على قيم سردية، تتغذى بالإيقاع السردي الذي يبدو في بعض المواقع متسارعاً، ولعل هذا يعود إلى ذلك التبويب السردي الذي فضله أبو حشيش لروايته، وهنا نضطر إلى تلمس مواقع البوح لكل شخصية، وخصوصية اللغة الفلسطينية، وخلف ذلك تكمن الصور الكلية، للتهجير الفلسطيني، ومواقع التوتر بين الذات، مع محيطها، كالزمن والاحتلال وسلطة الأب، وتلك العلاقة المتعالية مع الأم، إنها رحلة نرى فيها ذواتنا الفلسطينية، وهذا ملمح يكاد ينتشر في معظم الروايات الفلسطينية التي تبدو في نسق متماثل، ولا سيما في الاتكاء على مركزية العائلة الفلسطينية التي تخضع لتجربة واحدة، وهي مرحلة ما قبل النكبة والتهجير والنفي، ومحاولة بناء كيانات بديلة، وطارئة في مواطن الآخرين، وما يكتنف ذلك من متخيل مستعاد، حيث جاء في الرواية: «الوطن شيء، وهذه المستنقعات شيء آخر، ولا تحدثني عن هذا الكذب الذي نسمعه، ويسمونه الثورة، فهنا نحن وحدنا من يعاني، هنا يصبح كل شيء مثل لا شيء، ولا أحد يهتم، لسنا أكثر من صورة ينقلها تلفزيون ليزايد بها سياسي عتيد، ويجعل منا مادة قابلة للشحاذة، والمزايدة، من دون أن يرى كيف يتعفن الإنسان حياً في إسطبلات كهذه». وهنا نقرأ خيار الذات المثقفة، أو الفلسطيني المتعلم، هي محاولة لخلق نسق مضاد، لكل ما يمكن له أن يطمس الفلسطيني، وعيه الثقافي ووجوده.
وفي سعي الفلسطيني لتشكيل ذاته المهزومة والمهددة بالتلاشي، تخضع الشخصية الفلسطينية في المنفى لتحولات، ومع أن هذه التحولات مبررة على صعيد القراءة الأنثروبولوجية، ولكنها تبدو موجهة ضمن ما بات يعرف بأهمية الولاء للكل الفلسطيني، وعلى هوامش، وأطراف الحكايات يمارس الفلسطيني حياته باستحياء، فالحب والمغامرة وكافة الأنساق التي يمكن أن تشكل خروجاً عن الوعي بالنضال الفلسطيني، إذ تبقى في الظل، أو أنها تحضر على هامش الحدث، أو على هامش الحياة، وهذا مما يعني أن القيمة الفلسطينية مشغولة دوماً بمركزية القضية، وأي محاولة للخروج عنه تعدّ فعل خيانة، للذات أولاً، وللمصير والتاريخ ثانياً.
إن أنساق الإدانة للخروج عن جادة الصواب الثوري، التي تنهض على المقاومة ما زالت تمارس ضغطها العنيف والشرس على المدونة الفلسطينية التي تبقى مشغولة، بذاتها، وبصون ذاكرتها كما تحدثنا في مقالة سابقة، ولهذا نجد أن رواية «بيمان، درب الليمون» تأتي في هذا السياق، وتكتفي بالعبور على هامش الحياة، أو على جزء من الحياة، فجمال كما معظم الفلسطينيين نتاج تجربة، ولذلك فإن الشخصية لا تنفك أن تكتمل عبر قضيتها، وهذا ما نستشعره عبر الشخصية الموازية لفكرة النضال، ولكن في مقابل آخر، ونعني بيمان المرأة الكردية، والتي تصرّ على هذا الوعي بمعنى أهمية الولاء للقضية، وعدم تقديم أي خيار آخر، إنه مشكل وجودي، ومبدئي، لعله شديد الأثر، والإرهاق على كل ما يتصل بفعل الكتابة الفلسطينية.

كاتب فلسطيني ـ الأردن

رامي أبو شهاب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية