رواية شاكر الأنباري «أنا ونامق سبنسر»: خزّان العنف بين بغداد وكوبنهاغن

حجم الخط
0

 

يستعيد الروائي والقاص العراقي شاكر الأنباري أزمنة العنف في العراق الذي عاد اليه بعد سقوط النظام السابق، ليكون الشاهد الدقيق والمدون المبدع للخراب الذي حصل في العراق على يد الحكام الجدد الذين لا يختلفون في شيء عن سابقيهم، هؤلاء الذين جاء بهم الاحتلال الى بلد يعد مهداً للحضارات والمشرع الأول لقوانين البشرية، ليعيثوا فيه فساداً ودماراً وخراباً ويشيعوا المسلك الطائفي الذي حطم أركاناً أساسية في البلد أبرزها البنية الاجتماعية
والتكافل الأخوي ومنظومة العيش المشترك الذي كان شائعاً في الأوقات البغدادية في العهود القديمة.
تتقاسم بغداد وكوبنهاغن الزمان والمكان في تضاعيف الرواية التي ربت على المئتين وستين صفحة والصادرة عن «منشورات الجمل» هذا العام، وهي تحتوي في متونها على اثنين وعشرين فصلاً.
الزمن في الرواية يظهر متحركاً وخاضعاً لمشيئة الراوي الذي ينقل خطى بطله بين أمكنة عدة تساعد الرواية على ترميم الزمن داخل الأمكنة التي يتحرك فيها الراوي البطل، المتحدث بصيغة المتكلم، وهو ما مكن الراوي في مسرده الحكائي هذا من أن يستعين بجماليات السيرة الذاتية للراوي وهو يتنقل الى أمكنة مختلفة تنضاف الى كوبنهاغن العاصمة الدنماركية التي يأتيها لاجئاً من دمشق، والتي دخلها عبر ايران بعد رحلة مضنية حفلت بالمخاطر وشظف الحياة ومرارة التجربة، رحلة ستنضاف اليها أيضا محطات ثانية في عبوره المغامر والمحفوف بالمجازفات، مثل انضمامه الى المقاتلين الأكراد في جبال كردستان ومن ثم زواجه من امرأة برازيلية والرحيل الى ذلك العالم المترع بالغرائب والسحر والدهشة.
إذاً انها لعبة الزمن مع الأمكنة وتداخل شخصياتها في كل موقع ومدينة ومحطة مرّ بها الراوي، فهو ينتقل بسلاسة من مكان الى آخر صحبة نفسه، وصحبة أبطاله الذين يظهرون بين حين وآخر حسب المسار البنيوي للرواية، كنامق سبنسر ونادر راديو اللذين صاحباه في رحلاته الطويلة كرفاق درب لمسيرة مشتركة .
بطل الرواية، قلق، مشرد، بوهيمي، لا يستطيع الاستقرار في مكان معين، فهو إذا كان في الدنمارك طلب بغداد، والعكس يصح أيضا، وإذا كان في دمشق حنّ الى بغداد أو الى البرازيل، في متوالية من الحيرة والقلق وانعدام الطمأنينة والرضا التي لازمت الراوي طوال فصول الرواية.
في العراق تكشف الرواية طبقات الرماد التي تغطي المدن العراقية، وحجم المأساة والظلم والفقر الذي مسّ الإنسان العراقي، في بلد ينام ويستيقظ على دوي الانفجارت والسيارات المفخخة، ناهيك عن عمليات القتل بالكاتم ومحاربة الفكر الليبرالي واليساري من أجل ذيوع ثقافة ظلامية تبشر بالماضي والمندثر والغابر، ثقافة لا تني في اقصاء الأديب والفنان والصحافي والمفكر الذي يخالف فكرتها، إنها ثقافة قتل وتشريد ونهب ممنهج لخزينة الدولة وأموال النفط، قتل على الهوية عبر مليشيات لا وازع لديها ولا ضمير، توغل في سفك الدم، مليشيات طائفية من كل الطوائف تهتك الأعراض وتسرق علانية وتأخذ الدية من التجار وتستبيح المدينة ليلاً نهاراً.
في الرواية ثمة شخصيات أخرى تظهر تائهة وغامضة، مثل سرى، تلك الصحافية التي تقوم بأعمال مبهمة، وسامر الصحافي الذي يعمل في إحدى الصحف البغدادية، وسنان الشاعر الذي يحمل عطباً في يده اليمنى، جاءه من إصابة تعرض لها ابّان الحرب العراقية الإيرانية، ويعمل باليد الثانية مصحح بروفات في الصحيفة التي يشتغل فيها سامر، وهو يسكن في غرفة متداعية في منطقة القصر الأبيض قرب ساحة الطيران التي ضربها انفجار كبير ومدمر خلف ضحايا عديدين من أبرياء عابرين وعمال مياومين، مثلما استهدف انفجار آخر كنيسة الأرمن في المكان ذاته، مخلفاً كالأول مئات الشهداء الذين سقطوا على يد الإجرام المتواتر على مدار الاعوام العشرة الماضية.
كانت عودة الراوي الى بغداد مرة أخرى قد جاءت بعد تلقيه عرضاً للعمل من صحيفة «الخبر» العربية التي تصدر في الدنمارك والتي يديرها صحافي عربي هو مراد قامشلو، حيث يكلف الراوي بمهمة صحافية الى بغداد من أجل توثيق العنف وأرشفته في كتاب عبر مقالات يكتبها للجريدة العربية الدنماركية.
في هذه العودة المليئة بالخوف والتوجس والحذر، يكتشف البطل الراوي أحشاء العاصمة بغداد من جديد، حيث جيش الاحتلال من جهة، والمليشيات المتطرفة من جهة أخرى، والأجهزة الحكومية التي تضيف للعنف عنفاً إضافياً.
وسط هذه الحقول الخطرة من رائحة الدم والبارود والموت المنتشرة في كل مكان، تطفو العلاقات الاجتماعية المنخورة والتي أصابها التغيير في جوهرها، فتآكلت تحت ضغط وضربات القوى السياسية الفاعلة على الأرض في العراق، لتبرز حينها الأجواء المعطوبة في مصائر وتصرفات ومباذل الكائن البشري، فسرى على سبيل المثال الغامضة التي تعمل في الصحافة وتتعامل مع جهات أمنية عدة، تخون زوجها مع عشيقها الذي تعمل معه في وظيفة مسائية، ثم تخون عشيقها مع الراوي الذي بات يعمل لدى عشيقها في مكتبه الصحافي. الراوي يبدو في الرواية موزعاً في سياقات عدة، فهو على الصعيد النفسي والحياتي ضائع وكائن أعزل لا يملك سوى قلمه الذي يبدو أنه لا قيمة له في عصر المليشيات التي تتغذى على الدم وتراقب حركة الإنسان في جوف المدينة الشائك والمظلم، وعلى صعيد النفوذ فهو شخص وحيد ليس له سوى صديقين لا أكثر، وهما مثله معطوبان ومشوشان. وعلى الصعيد الاجتماعي فهو شخص تفترسه الهموم والذكريات والحنين الى أمكنة أخرى. صديقه سنان الشاعر ترك عمله في الصحيفة التي استغنت عنه تماماً ليتفرغ الى عزلته التامة والكحول الذي غدا يأكله شيئاً فشيئاً، أما على صعيد الحب، فالفتاة التي أحبها وخان صديقه الذي شغله تخلت عنه تحت ضغط سامر القوي والذئب الذي لا يؤخذ بسهولة. يطرد من عمله ويصبح عالة على الفراغ والرعب والخوف السائد في المدينة، من ناحية أخرى بالنسبة لصديقيه في الدنمارك، فنامق سبنسر ذو الوجه المستدير الذي يشبه الممثل الكوميدي بود سبنسر حين كان يطلق لحيته في مخيم كرج الإيراني يموت حزناً على ابنته التي سبقته بمرض السرطان.
نامق راديو يذبل من تلقاء نفسه بسبب الوحدة والإغتراب، بينما ابنته الوحيدة تنحرف متشبهة بشباب الدنمارك الذي يتعاطى التدخين والممنوعات، وقد سمي أيضا من قبل صديقيه في مخيم كرج بنادر راديو، كونه كان يحمل راديو ترانزستر صغيراً يضعه على أذنه وهو يقطع مساحة المخيم، ذاهباً جائيا، مستمعاً الى أخبار الحرب العراقية ـ الإيرانية على الجبهات، حتى مراد قامشلو ينقطع عن ارسال مرتبه الشهري اليه بسبب غلق الصحيفة في الدنمارك لأسباب مالية، هذا فضلا عن سكنه الجديد الذي تبرع به أحد أصدقائه له في منطقة الدورة التي أضحت منطقة خطرة، الى أن تنتهي حياته مثلما يصفها «الظلمة تحيط بحياتي، من جوانبها كافة، ما عاد لي سوى ذكريات بعيدة عن مدن وأشخاص ونساء، استرجعها كلما نمت على سطح هذا البيت، أو في الحديقة، متقلباً من الحرارة، محدقا في النجوم ومسافراً إليها، باحثاً عن معنى لهذه التجربة الزائلة «.

٭ شاكر الأنباري: «أنا ونامق سبنسر». منشورات الجمل، 2014. 271 ص

هاشم شفيق

كلمات مفتاحية

إشترك في قائمتنا البريدية