يتوزّع كتاب روجر ألن، أستاذ الأدب العربي والأدب المقارن بجامعة بنسيلفانيا، «مقدّمة للأدب العربي» (ت. رمضان بسطاويسي ومجدي أحمد توفيق وفاطمة قنديل، المجلس الأعلى للثقافة 2003)، على سبعة فصول متفاوتة طولا وقصرا، تنقلنا من عصر إلى عصر؛ دون أن يعبأ صاحبها بما انسدل بين هذه العصور الأدبيّة من كثيفِ حُجُب الزمان والمكان؛ كما أوضّح لاحقا. والفصول هي: مقال عن الأسس والمبادئ وسياقات التراث الأدبي والقرآن الكريم: النصّ المقدّس والمعيار الثقافي، والشعر والنثر الفنّي والدراما والتراث النقدي. والكتاب كما يقول صاحبه، ثمرة مناقشات مع زملائه وطلبته الذين ساعدوه في رسم الخطوط العامّة التي ساعدته على كتابة تاريخ الأدب العربي كتابة جديدة، وتصويب ما ينبغي تصويبه. أمّا سؤالنا، ومنه تتولّد أسئلة أخرى في تأصّل وتفرّع؛ فهو إلى أيّ حدّ وُفّق روجر ألن في هذه المقاربة «الجديدة»؟ وما الذي يمكن أن تضيفه إلى سابقاتها التي ما انفكّت كلّ منها تجاذب قرينتها، بوجه حقّ حينا، وبغير وجه حقّ أحيانا؟ بل هل يمكن اعتبار هذا العمل عملا تأسيسيّا؟ والتأسيس الذي نقصده هو ذاك الذي «ترسّخ» مفهوما لحظة الحداثة الفلسفيّة التي استوعبت قران النقد والتأسيس، وعقَدت مهمّة هذا وذاك على العقلانيّة دون سواها.
إذا صرفنا النظر عن المسرد التاريخي، وهو مخصوص بـ«الناس والأحداث الأدبيّة» و«الناس والأحداث التاريخيّة»، ويضمّ خليطا من الشعراء والكتّاب والفلاسفة والفقهاء، ويبدأ بشاعر هو المهلهل (ت. 500م)، وينتهي بناثر روائي هو إميل حبيبي (ت. 1996)، وانتقلنا إلى الفصل الأوّل؛ استوقفتنا أهمّ الأسس والمبادئ التي استأنس بها الكاتب، وأدار عليها بقيّة الفصول. ولعلّها هي التي تسوّغ العنوان الذي تخيّره لكتابه «مقدّمة للأدب العربي»، والمنهج الذي توخّاه في هذه «المقدّمة»، وتبيّن أنّ المقصود بها طائفة من القرّاء الأجانب الناطقين بالإنكليزيّة في مطلع القرن الحادي والعشرين، وليس الناطقين بالعربيّة؛ وأنّها تتنزّل في حيّز الأدب العالمي المقارن. وعلى رأس هذه الأسس النعت «عربي»، فهو يفصح ـ كما يقول ـ عن اللغة التي صيغت بها المادّة الأدبيّة.
والأدب إنّما يُنسب إلى اللغة وليس إلى الجغرافيا. ولكنّ هذا النعت أو المصطلح يحوي دلالة مزدوجة إذ يشير إلى الناس أي العرب، من جهة وإلى العلاقة بين العالمين: العربي الإسلامي والغرب، من جهة أخرى. وهي في معظم هذه المرحلة المتخيّرة من القرن السادس للميلاد (وليس قبل الميلاد كما جاء سهوا في الترجمة) إلى الحاضر، علاقة مواجهة مستمرّة غالبا؛ ينزع فيها كلّ طرف إلى نوع من التعتيم على «بعض الحقائق المؤسفة للطرفين كليهما». ومثال ذلك أنّنا إذا نظرنا إلى الصليبيّين وغزو اسبانيا مجدّدا، فسقوط غرناطة عام 1492 (وليس عام1402 كما جاء سهوا أو خطأ في الترجمة)؛ نجد أنّ الحدثين عدّا من المراحل المجيدة في تاريخ أوروبا الغربيّة. ولكنّهما خارج هذا السياق، يكتسبان معنى مختلفا تماما، إذ هما اللذان يمهّدان السبيل للفصل الثاني حيث يطرح الباحث جملة القضايا الأدبيّة المستجدّة في سياقها البيئي واللغوي والتاريخي، وأهمّها قضيّة الأجناس الأدبيّة في اللغة العربيّة.
وأمّا النعت أو المصطلح «أدبي»، وهو ليس بالوضوح الذي يتصوّره بعضنا؛ فليس يساورنا شكّ في أنّ الكاتب أفاد من مبحث هملتون جيب «دراسات في الأدب العربي»، ولكن دون أن يشير إليه في قائمة المصادر والمراجع الذي شفع بها كتابه، وإنّما في إشارة خاطفة (ص.28). يقول ألن ـ وأنا أعيد الصياغة بما يناسب التركيب العربي ـ : «بداية تشير التعريفات القاموسيّة لـ«الأدبي» (المرتبطة بحقل «الأدب»)، إلى أيّ إنتاج لغويّ مكتوب محوره موضوع خاصّ. وهذا تعريف فضفاض لا يفي بالمرام، وأفضل منه تعريف أكثر دقّة؛ تتمثله المادة «أدب» في «قاموس أكسفورد الأنكليزي»، فـ»الأدب» هو «مجمل الكتابات التي تستمدّ قيمتها من جمال الشكل، أو التأثير العاطفي». ويضيف ألن: «وهذا البعد الاستيطيقي أمسّ رحما بالمصطلح الفرنسي» علم الأدب» أو»فنّ الأدب» (وليس»الفنون الجميلة» كما جاء خطأ في الترجمة، والمصطلح Belles-lettres ، يفيد ما ذكرناه ويشمل هذا العلم القواعد والبلاغة والعروض والأدب. وقد أداره العرب القدماء في مصنّفاتهم، وكان ابن خلدون قد بسط فيه القول في مقدّمته)، وهو المفهوم المستخدم غالبا في الكتابات الانجليزيّة المخصوصة بالأدب».
ويقول هملتون جيب في السياق نفسه: «الأدب كما هو معروف مصطلح يدلّ على إنتاج إنشائي، من طراز خاصّ باللغة العربيّة؛ غير أنّ الكتابات التي تندرج تحت هذه الكلمة، تتنوّع تنوّعا كبيرا في موضوعاتها وأساليبها وأغراضها، بحيث يتعذّر أن نظفر بعبارة تشملها جميعا». ويضيف: «ويترجم الكتّاب الأوروبيّون عادة كلمة «أدب»، أو الأدب الجميل أو الكتابة الرفيعة (وهذه أيضا ترجمة غير دقيقة في تقديرنا، للمصطلح الفرنسي المذكور أعلاه). وهي عبارة تكاد تكون في صعوبة اللفظ العربي تحديدا. والأيسر لنا أن نعرّف الأدب تعريفا بالسلب؛ فنحدّد ما لا يدخل تحته، بأن نميّزه من الكتابات التي في فقه اللغة والفلسفة والتاريخ والجغرافيا، وما إلى ذلك… إنّ كتابا في الأدب هو كتاب يكتبه صاحبه وهو يقصد غرضا أدبيّا أو إنشائيّا… ويدخل في موضوعه أيّا كان ذلك الموضوع، عنصر الخيال أو الابتكار بما يكسوه حسنا وجمالا».
فهذا مستعرب سبق ألن، بعقود وتنبّه إلى دلالة المصطلح ـ وإن لم تكن بالوضوح الكافي في الترجمة العربيّة ـ وترسّمها في أصولها العربيّة الأقدم حيث كانت كلمة «أدب» مقصورة على ما يتلقّاه المرء أو يكتسبه من آداب وأخلاق بعينها؛ على نحو ما نجد عند أعشى ميمون: «جرَوا على أدب منّي بلا نزق» أو في الحديث النبوي: «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي» أو في كلام عمر بن الخطّاب معرّضا بـ»تحرّر» نساء الأنصار: «طفق نساؤنا [المهاجرات] يأخذن من أدب نساء الأنصار»؛ وصولا إلى المصطلح في دلالته الأدقّ مع ابن المقفّع خاصّة الذي يعتبره جيب «أوّل مؤلّف للإنشاء الأدبي في اللغة العربيّة». وهو ما ينمّ عنه أيضا، بحث كبريلّي الذي صوّب كثيرا من الأخطاء القديمة عن ابن المقفّع، وبيّن أنّ «كليلة ودمنة» لم يكن قطّ ترجمة حرفيّة لـ»بنتشا تنترا» الهندي؛ ولا هو أخذ بالأسلوب الفارسي؛ فقد صيغ في أسلوب خاصّ مناسب لذوق المجتمع العربي الإسلامي. وعليه، لا يغرّنا قول ألن، ونبرته العالية الواثقة: «تلتقي الكلمة العربيّة «أدب» جـوهــريّا مع مفهوم «فنّ الأدب» الفرنـســي، وقد توصّــلت إلـــى هذا المعنى، عبر طريق مشوقة تبدأ بما ترسّخ من انتساب الكلمة إلى البيئة والأخلاق، وصولا إلى مختلف الأنشطة الأدبيّة».
بيْد أنّنا نشاطر الباحث في اجتنابه مصطلح «تاريخ الأدب « في العنوان الذي وسم به كتابه ـ وإن كانت الموضوعات المطروحة تشي بغير ذلك ـ وهو موضع جدل منذ عقود؛ إذ يعالج هذا «التاريخ» الآثار الأدبيّة وكأنّها جزء من حركة أو تيّار، ويبحث في ما هو مشترك أو مؤتلف في الموضوعات والأساليب؛ وقلّما بحث في السمات الفرديّة الخاصّة بكلّ كاتب أو شاعر. والباحث فضّل كما يقول أن يقدّم البعد الأدبي على البعد التاريخي وما نجم عنه من تقسيم زماني بين عصر إسلاميّ وعصر قبل إسلاميّ «عصر الجاهليّة». وقد حمل خطأ كلمة «جاهلي» على معنى الجهل، وهي مشتقّة من مصدر صناعيّ لا يقصد به الأميّة؛ وإنّما ما كان عليه العرب قبل الإسلام من صفات يراها المسلم جهالة وضّلالة وسرعة غضب، واحتكاما للعصبيّة والأهواء وكلّ ما يعارض العقل والعلم. على أنّه ينبّه إلى ما يشوب تقسيم الأدب العربي إلى مراحل، ليس بينها خيط ناظم؛ كما هو الشأن في مصطلح «إسلامي» فالمقصود به النشاط الأدبي في حياة النبي والخلفاء الأربعة الأوائل. وقسْ على ذلك مصطلح «أمويّ» أو «عبّاسي»(بلاحقته اليونانيّة) كما وضعه الأكاديميّون الغربيّون: Umayyad/ Abbasid.
فهذا مفهوم يغفل مناطق الحكم الإسلامي الأخرى التي انقسمت إلى دول أصغر، كما هي حال الأندلس، وما يصطلح عليه بـ»عصر الانحطاط» و»التحديث» في القرن التاسع عشر، أو «العصر الحديث» أو «الإحياء».» وهذه ثروة أدبيّة طائلة يجدها الكاتب لم تتكامل غالبا في رؤية جامعة موحّدة للتراث الأدبي العربي. وربّما كانت علامة على مشكلات مستعصية تثيرها المناهج والمقاربات التي تعوّل على عيار غير أدبيّ، مثل الجغرافيا وتاريخ العروش. ولا يفوت الباحث أن ينوّه بما بذله مستشرقون آخرون أمثال جولد زيهر، ونيكلسون، وجب، وبلاشير، وبروكلمان، ونلينو… فالقرّاء الغربيّون يدينون لهؤلاء الذين وجّهوا الاهتمام إلى النصوص الأدبيّة العربيّة المهمّة. ومع ذلك فنحن لا نزال نحتاج إلى إعادة ترتيب العلاقة بتراث العرب الأدبي؛ خاصّة أنّ نسبة من المخطوطات العربيّة لاتزال غير منشورة، وربّما هي مفقودة، الأمر الذي يجعل الصورة غامضة مهتزّة.
منصف الوهايبي
شكرا أستاذنا لكن أين يمكن أن نجد هذا الكتاب.