روسيا والعالم الإسلامي

حجم الخط
6

تعود روسيا إلى الساحة الدولية من بوابة العالم الإسلامي، مثلما خرجت منها قبل ربع قرن ونيّف من نافذة أوروبا الشرقية. تسلك روسيا سبيلا غير ذلك التي سلكته الولايات المتحدة التي دشنت هيمنتها على العالم عقب سقوط حائط برلين، باستعداء العالم الإسلامي، بشكل مبطن حينا، وسافر أحيانا في الخطاب، أو من خلال السعي لقولبته، أو نحت مصطلحات من قبيل ما قدّمه الدبلوماسي الأمريكي إدوارد جيرجيان في يونيو 1992 في ما عرف بخطاب «مرديان هاوس» بما سماه (the next ism ) أو ما سُمي بعدها بالمُركب الفاشي الإسلامي، أو موالاة الولايات المتحدة لأنظمة رجعية من العالم الإسلامي، أو الشطط الذي صاحب ما تمت تسميته بالحرب على الإرهاب، ومنها سابقة سجن أبي غريب، ومعتقل غوانتنامو، أو في خطاب الرئيس الأمريكي الحالي المتسم بالمعاداة للإسلام، أو الإسلاموفوبيا.
إحباط الانقلاب العسكري على تركيا في يوليو 2016 تحوُّل في العلاقات الدولية، ونقطة انفصال ما بين روسيا وأمريكا، فضلا عن بؤر أخرى، يُعبر عن رهان روسيا على العالم الإسلامي، أو على الأصح رهانها على تركيا للوشائج العميقة التي تربطها بجمهوريات آسيا الوسطى. ينبغي أن نضع في الحسبان أن الإسلام عامل بنيوي في البنية السوسيولوجية لروسيا، حيث يعيش فيها أكثر من 20 مليون مواطنا مسلما، فضلا عن أن تعداد ساكنة الجمهوريات الإسلامية لآسيا الوسطى يفوق عدد سكان روسيا، أي أن نسبة عدد المسلمين مما كان سابقا الاتحاد السوفييتي يفوق الخمسين في المئة.
هذا المعطى هو الذي جعل روسيا تنضم إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، كملاحظ منذ 2013 وترعى لقاء دوريا حول رؤية استراتيجية لعلاقات روسيا والعالم الإسلامي كان أرساها المستعرب والمستشرق، ومن شغل منصب وزير خارجية روسيا لفترة ووزيرا أولا، يفغيني بريماكوف.. وقد انعقدت الدورة الأخيرة في بشكيك عاصمة كيغستان، على مستوى المفكرين والمثقفين، وكان محورها الكاتب من أصل كيغزي، جنكيز أيتماتوف، بتاريخ 18 أغسطس من هذه السنة شارك فيه كاتب هذه السطور.
يستوقف اللقاء في فترة تموج فيه العلاقات الدولية، وتحبل بتحولات استراتيجية تغلق القوس الذي انفتح مع سقوط حائط برلين، وتُشرَع على معطيات جديدة وسياق جديد، لن تقبل فيه روسيا بدور الكومبارس.. اختيار جمهورية كيغستان لم يكن اعتباطيا لاحتضان الدورة الثالثة عشرة للقاء. نعم ليست كيغستان من الجمهوريات الإسلامية الكبرى لآسيا الوسطي، لا من حيث الديمغرافية ولا المساحة ولا الموارد، ولكن موقعها في مفترق الطرق ما بين روسيا والصين، ومحاذية لأفغانستان، وصلة وصل بين روافد ثقافية مهمة، الصينية والروسية والتركية والفارسية، يجعل منها حلقة أساسية.
عرف البلد قلاقل، وسعيا لتوغل الولايات المتحدة، في التخوم الشرقية لروسيا، كما فعلت في الحدود الغربية من أوكرانيا. ولذلك يعتبر اللقاء ردا على أمريكا، وصدا لأي دور قد تتشوف له في تلك الأرجاء. وكان لافتا رسالة وزير الخارجية سيرغي لافروف للمشاركين، وحضور نائبه ميخائيل بورغانوف ولفيف من الخبراء الروس من المستعربين، وعلى رأسهم عراب الرؤية الاستراتيجية بنيامين بابوف، فضلا عن ممثلين وازنين للجمهوريات الإسلامية لآسيا الوسطى بخطاب سياسي لافت. كان محور اللقاء شخصية أدبية هي الكاتب جنكيز إيتمانوف الذي كان مرشحا قيد حياته لجائزة نوبل. لا يقدح اختيار الكاتب القرغيزي، محور اللقاء، في مواهبه الأدبية، ولا عمقه الفكري، ولكن اختياره يرجع بالأساس لما يحيل إليه سياسيا، باعتباره أول من استعمل مصطلح بريسترويكا، أو إعادة البناء التي جعلها غورباتشوف محور سياسته، وتحولت تفككا للاتحاد، وثانيا لأنه كان يعتبر نفسه كاتبا سوفييتيا، إي أنه مزج بين الانتماءين، انتمائه المحلي من خلال تشبعه بثقافته المحلية التي جعلها مدار كتاباته، وتشوفه الكوني في ركاب الاتحاد السوفييتي واستعماله اللغة الروسية.
اللامنطوق في اللقاء أو غير المعبر عنه، هو أولا، بعث فكرة البريسترويكا أو إعادة البناء التي أسيء استعمالها، والتي يُراد لها في السياق الحالي، المطابقة بين الانتماء المحلي والارتباط بما كان سابقا الاتحاد السوفييتي وقطب رحاه روسيا. بمعنى آخر ترمم روسيا إمبراطورتيها السوفييتية في شكل جديد وإطار جديد.
نحن إذن أمام ما كان يسميه الكاتب البريطاني روديار كيبلنغ باللعبة الكبرى، وهو تحول سوف يؤثر على مجرى العلاقات الدولية، ومن ثمة بالتبعية على العالم العربي، فالحرب الباردة تعود من جديد، في شكل جديد. لا تقوم على دعامة أيديولوجية، ولا على سباق التسلح، ولا على صراع، ولكن على تنافس وسباق على مناطق النفوذ، واسترجاع ما كان ضمن سيطرة الاتحاد السوفييتي سابقا.
أما الأمر الثاني في التوجه الجديد لروسيا فهو أنها حين تتحدث عن الإسلام، فهي لا تتحدث عن الإسلام الثوري أو المؤدلج على شاكلة إيران، ولا الإسلام المحافظ الرجعي الذي ترعاه السعودية، ولكن الإسلام الحضاري والثقافي، قد يجد تعبيره في تركيا، ولكنه واضح المعالم في الجمهوريات الإسلامية لآسيا الوسطى التي تبدو جماهيرها مرتبطة بتقاليدها ومنها تعلقها بالإسلام، وتجد مسوغ تقريرها لمصيرها كرد فعل لمحو تقاليدها وفصلها عن عمقها الوجداني، ولكنها في الوقت ذاته متسامحة في علاقتها بالآخر، سواء أكان من عقيدة أخرى، أو في وضع المرأة المتحرر تحت تأثير الفترة البلشفية، وفي ارتباط نخبها بمفهوم حضاري للإسلام أكثر منه توظيفا أيديولوجيا أو طقوسيا. هل ستنجح روسيا في ما أخفقت فيه الولايات المتحدة لإرساء علاقات هادئة ومطمئنة مع العالم الإسلامي؟ كانت تلك رغبة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، في خطابه في القاهرة في 4 يونيو 2009، حين اعتبر الإسلام جزءا من الملحمة الأمريكية، ولم تعْدُ تلك الرغبة أن أضحت خطاب نوايا. روسيا في محك حقيقي، ونجاحها في سياستها الإسلامية، لن يؤثر فقط على وضعها في الجمهوريات الإسلامية لآسيا الوسطى، بل في تصور جديد للإسلام. نعم لروسيا مكتسبات وأصول، ذلك أن كثيرا من المشاركين من الجمهوريات الإسلامية لم يقطعوا الصلة مع الماضي السوفييتي، وطالبوا بتمحيص الأخطاء عوض إلقاء الطفل بماء الحمام، وحرصوا جميعهم على الحديث باللغة الروسية. ولكن ذلك لا يعفى من تصور جديد للعالم. فلا يمكن للعالم أن يُختزل في فضاء جغرافي بلا وجدان، ولا يمكن للعلاقات أن تنبني على المال والربح وحدهما، مثلما لا يسوغ بعث تلك الفكرة الميكانيكية للمجتمع والمادية للإنسان، التي طبعت المرحلة السوفييتية. على روسيا أن ترتبط بدستويفسكي أكثر منه بلينين. ذلك أن طموحا دبلوماسيا لا يمكن أن يصمد من دون رؤية وتصور للعالم.
كاتب مغربي

روسيا والعالم الإسلامي

حسن أوريد

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود:

    ” وقد انعقدت الدورة الأخيرة في بشكيك عاصمة كيغستان، ” إهـ
    ماذا تقصد يا أستاذ حسن أوريد بجمهورية ( كيغستان ) ؟
    هل تقصد طاجكستان أم أوزباكستان أم تركمنستان ؟
    الذي أعرفه أن عاصمة قيرغيزستان هي بشكيك
    وهي بالمناسبة لا تقع على حدود أفغانستان
    الروس أشد كرهاً للإسلام من الأمريكان
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول hakim:

    ليس لروسيا بوتين رؤية استراتىجىة او فكرية لما يجب ان تكون عليها روسيا المستقبل ناهيك على ان تكون لها استرتىجيه نحو العالم الاسلامى. والزعماء ألحقيقون ليس من يقيم جسراٌ هنا او مصنعاً هناك، بل من يقيم دولة القانون وتبادل السلطة وقيم العدل والمساوة فى الحقوق وفرص تولى المناصب للاصلح، وهذا هو الطريق الوحيد لتقدم واستقرار الشعوب، واكرر لمن فى اذنه وقر او قلبه طمع آلطريق الوحيد. وانه من الصعب بل المستحيل ان نسوق لرؤية روسية للعالم الاسلامي تصب في مصلحة الطرفين او حتى في مصلحة روسيا وحدها. فبنظرةً سريعة، نجدها تتحالف مع نظام ديني بحت لا يقبل به منطق الطفل الذي لم يبلغ الحلم بعد وهو نظام العمائم الايراني، ومن ناحية اخري تحارب براّ وبحراّ وجواً تحت شعار الحيلولة دون اقامة دولة دينية اخري في سوريا. فيا للعجب، ولما العجب، فدكتاتور روسيا لا يهمه سوى المحافظة على الكرسى واشغال الشعب الروسى بحرب هنا و استعادت امجاد لن تعود حتى يلج الجمل من سم الخياط هناك

  3. يقول سلام عادل (المانيا):

    المشكلة بالاساس تتعلق بما نسميه العالم الاسلامي فدوله بالاساس مختلفة الاتجاهات والؤى السياسية والاقتصادية والاجتماعية فليس من الممكن اقامة علاقات متشابه على سبيل المثال بين الروس والسعودية او بين الروس والجزائر او اندونيسيا او الباكستان

  4. يقول خليل ابورزق:

    روسيا او الاتحاد الروسي هو رجل اوروبا المريض اقتصاديا و علميا و تكنولوجيا. ويزيد الطين بلة سيطرة المافيات و الفساد السياسي و الفردية. و المشكلة التي تؤرق العالم الغربي هي ما الذي سيحدث عند انهيار و تفكك هذا العملاق المريض و تسرب الاسلحة النووية الى دول صغيرة او منظمات اسلامية متشددة. فليس من مصلحة الغرب سقوط روسيا المدوي و لكن مصلحته في تطويعها و السيطرة عليها.
    الغرب يستعمل الروس ضد الاسلام السياسي كخصم مشترك. و الروس يخوضون المعركة دفاعا عن النفس، و شراء للوقت. وفي نفس الوقت يحاولون الحصول على مكانة محترمة في عالم الغد بدون سيطرة غربية و لكن هيهات
    انظر الى الارقام الاقتصادية لروسيا و انظر الى تمكن روسيا من التكنولوجيات الحياتية و انظر الى عدد الجامعات الروسية ضمن افضل 500 جامعة في العالم او حتى 1000 جامعة مقارنة بالغرب او الصين او اليابان او كوريا..روسيا في وضع سقوط.
    في تقديري المتزاضع انه اذا كانت حرب السوفيات في افغانستان قد ادت الى انكشاف و انهيار الاتحاد السوفياتي فان حرب الاتحاد الروسي في سوريا ستؤدي الى انهيار الاتحاد الروسي لاسباب اقتصادية و اجتماعية ودينية اسلامية

  5. يقول .الحرحشي _المفرق -الاردن:

    الزعامات العربيه جعلت حيطنا واطي ولذلك هناك من يتسابق لبسط نفوذة علينا. الحقيقية التي لا يمكن نكرانها ان الروس اعلنوا الحرب مع الشعوب العربيه والاسلام من خلال حربهم التدميرية الدموية الهمجية المعهودين بها في سوريا ودعم الطاغية هناك. الايام دول..

  6. يقول .الحرحشي _المفرق -الاردن:

    نسيت ان اشكرك على هذه المقالة او الموضوعة ونطلب المزيد.

إشترك في قائمتنا البريدية