زاكورة ـ «القدس العربي»: ككل المدن لا تمنح مدينة زاكورة التي تقع جنوب المغرب روحها لغير العاشقين، أما العابرون فلهم الفنادق ومسابحها ولهم النخيل وتمره ولهم قوافل الجمال وكثبان الصحراء ولهم ما للعابر: متعة العين والنظر. وحدهم عشاق الصحاري وصمتها المنصتون لنداء الأرض والبشر والباحثون عن صفاء نفسي كبير والمصيخون السمع لصمت الصحراء ورحابتها يمكنهم الاستمتاع بمدينة ساحرة كزاكورة، ولحسن الحظ هم كثر. وإن كان الأجانب من مختلف بقاع العالم، وبعض السياح المغاربة يجدون في هذه المدينة الساحرة كل الأسباب لزيارتها، فإن هناك غيابا شبه كامل للسياح العرب مفوتين فرصة للاطلاع على جمال مدينة تتعايش فيها الأعراق الأمازيغية والعربية والسمراء بشكل ساحر وجميل، وتحتفظ بتراثها وثقافتها وكبريائها بكل نبل رغم شحة الموارد وقساوة الحياة التي لم تستطع أن تزيح الفرح والقناعة عن الوجوه السمراء المنحوتة بلطف، وجوه تقدم خدماتها للسياح بكل أنفة وكبرياء، حيث العمل قيمة وعبادة وطريقة للحياة، وحيث حلاوة الاستقبال التي ستأسر قلبك على الدوام. حين تزور زاكورة بالتحديد تدرك من أين تأتي تلك الطيبة التي يتميز بها المغاربة بشكل فطري وطبيعي قبل أن تختطف المدن الاسفلتية القلب والعقل معا وتحول الإنسان لمجرد آلة حاسبة.
يعود أصل التسمية حسب الباحث محمد ايت ياسين إلى جبل تزاكورت وهي كلمة بالأمازيغية، فأزاكور تعني الكنز باللهجة الأمازيغية. وينفي الباحث أي علاقة لزاكورة باسم امرأة أو مدينة أجنبية مؤكدا أن المنطقة لم يستطع أي مستعمر أجنبي الوصول إليها بمن فيهم الرومان والبرتغاليون.
ومهما كانت أصول الاسم فإنه يكفينا منه ما يعنيه على أرض الواقع: لطف لا متناه يحيطك به أهل المكان، من أكدز حتى محاميد الغزلان، وبين زيارة وأخرى، ستجد المدينة وكأنها امرأة يتجدد شبابها كل خمس سنوات، مطار صغير لكنه نقطة ضوء قوية بالنسبة للمدينة يفي بالغرض الأساسي منه ويضمن وصولا مباشرا للسياح للقدوم لزاكورة دون المرور بمنعرجات الطريق الشهيرة تيزن تيشكة، قنطرة جديدة على وادي درعة لفك العزلة عن الواحات المجاورة لزاكورة، الطرق التي تركتها وعرة داخل الإقليم برمته تجدها في زيارتك الجديدة معبدة، فنادق بخصائص محلية هادئة وبمواصفات عصرية توفر للسياح بنية استقبال جيدة، منتوجات محلية معروضة على طول الطريق، بنايات بأبراج عالية ولمسة محلية وزخارف ضاربة في القدم محلية الصنع قديمة مثل الأرض. هنا لا يتم استيراد الحضارة، اننا في معقل من معاقل التراث العالمي بامتياز، انها زاكورة التي تولد من جديد، لكن وان تعددت التغييرات فان ما يجمعها في قالب واحد هو الحفاظ على هوية المكان، الحفاظ على التراث المحلي الذي يعتبر رأس مال المنطقة الحقيقي والكفيل لوحده بفك العزلة عن المدينة بل والإقليم بأكمله، رهان يبدو أن المدبرين الشباب لشأنها الإقليمي واعون بها.
قصر أمزرو: آسراك ومعبد يهودي
ترفع النساء أصواتهن محذرات من التقاط صور لهن، يختفين داخل الأزقة وكأنهن أشباح، أؤكد لهن بأنني لن أصور دون إذنهن، بدوره مرافقي السي محمد أسباني، «وكيل أراضي الجموع قبيلة أمزرو فخدة درعاوة»، يطمئنهن بصوته العالي والواثق، وسرعان ما يخرجن من خلف الأبواب وعتمة الأزقة ليدخل معهن في دردشة قصيرة يجبن بجدية متشحات بسواد ثيابهن التقليدية البسيطة المزينة حواشيها بألوان دافئة جميلة قبل أن يغادرن المكان، فلا وقت لديهن للحديث مع العابرين، فالمكان يعج بالسياح على طول السنة. اننا في قصر أمزرو واحد من أشهر وأهم الأماكن السياحية في إقليم زاكورة، والقصر هنا، وينطق بالكاف غالبا أي «الكصر» بمعنى التجمع السكاني الذي تحيط ببناياته الأسوار، ورغم تساقط عدد من المباني القديمة داخله، فإن الكثير من المنازل ما تزال مأهولة بشكل أو بآخر، ورغم مغادرة أصحابها المكان نحو منازل عصرية جديدة، فقد احتفظوا بحاجياتهم بعين المكان، كما أن القصبة بهندستها القديمة التراثية تعد كنزا أثريا حيا، لعل الكثير من سكانه يجهلون أنه جزء من تراث عالمي حتى ولو لم يتم تسجيله إلى حدود الساعة.
صادفت زيارتنا لقصر أمزرو إجراء إصلاحات على مستوى بناية «المسجد الكبير» الذي يتوسط القصبة، الجامع الذي تم اغلاقه خلال فترة معينة خوفا على الساكنة من احتمالية سقوطه، يتم تجديد المسجد دون المس بهندسته الأصلية باستخدام المقاول لعمال محليين ويحتفظ سقف المسجد بمواده نفسها: سعف النخل الذي صمد في وجه المناخ منذ آلاف السنين تميزه صومعته بهندستها المحلية التي تتميز بها مدن الجنوب المغربية دون غيرها. إنه قلب المكان، هنا يجتمع الرجال، تؤدى الصلاة ويوجد الماء حيث يتم نقله نحو المنازل كما يمكن تسخينه في عين المكان بغرفة خاصة من أجل الوضوء والاستحمام. كما يتوفر على سطح يمنح إطلالة بانورامية على جميع القصبة، ويضم الجامع حسب مرافقنا سي محمد زاويتين هما زاوية سيدنا الشيخ وزاوية مولاي عبد الله الشريف، حيث يجتمع المريدون لأداء طقوسهم الدينية، إضافة إلى كتاب للقرآن يطلق عليه «المحضرة».
تخلق الهندسة الداخلية للقصر، أزقة واسعة تدعى آساراك، هي ببساطة ممر طويل، تبنى على جوانبه كراسي حجرية بسيطة، أو دكة مستطيلة الشكل، تمنح للسكان خلال فصل الصيف خاصة فرصة الخروج واللعب، ولأن الجماعة هي الروح المسيرة لهذا التجمع، فإن «آسراك» يصبح ذو أهمية قصوى في الحياة اليومية، ومقابل الساحة العمومية لدى الغربيين، فإن «آسراك» يلعب دورا هاما في التجمعات سواء تعلق الأمر بالفرح أو الحزن. ولعل ضيق المنازل وسخونتها صيفا، جعلت من آسراك جزءا من تمظهرات الحياة داخل القصر. يقول مرافقنا سي محمد أسباني: «حتى اواخر الثمانينات كانت تقام الأعراس هنا بشكل مشترك، وقد طلبوا منا في إطار مشروع ترميم القصر أن نركز على الأماكن التي يوجد فيها هذا النوع من الفضاءات، أي آســـراك، لخلق نموذج للتعايش بين السكان في إطار الترميم وحتى يتمكن السكان من ترويج منتجاتهم لاستقطاب السياح».
داخل القصر مكان ما زال يطلق عليه قصبة اليهود، تضم مساكنهم التي غادروها نهاية الستينيات بصفة نهائية، تاركين خلفهم محلاتهم ومنازلهم التي باعوها لجيرانهم من عرب وأمازيغ ودرعاوة. ولا يمكن للزائر تمييزها عن سواها حيث تتشابه الدور التقليدية التي بنيت بالطين والتبن وفق بناء محلي متقن، وحده المعبد اليهودي المغلق الواقع في زقاق لا تميزه أي علامة، يتم فتحه أمام أنظار السياح، يكفي أن تطلب المفتاح من سكان البيت المجاور، لكي تقوم بإطلالة على المكان.
عهد مضى وعهد يبدأ
ورهان على اقتصاد التراث
بدأ الاهتمام بسياحة الجنوب الشرقي المغربي اواخر الثمانينيات، لتستفيد زاكورة بدورها من هذا الاهتمام الذي بلغ أوجه بها خلال سنوات 2000 و2001، كيف بدأت الحكاية؟ يقول أحمد شهيد، رئيس المجلس الاقليمي للسياحة: «كان المثقفون والسينمائيون سابقون للأمر خاصة بالراشيدية وورزازات، لكن بعد ذلك جاءت أزمة الحرب الخليجية وأحداث 16 أيار/مايو، وما حدث في أوروبا مؤخرا خاصة فرنسا، كل ذلك أثر على السياحة في المنطقة. من ثم كان ينبغي علينا التفكير في مشاريع سياحية مستدامة ومندمجة لا تمس المنظومة الايكولوجية الهشة للمنطقة مثل «الراليات» نحن بصدد البحث عن أنشطة سياحية مندمجة. ما نطرحه اليوم كاستراتيجية هو الوعي التام بكون التراث هو اللبنة الأساسية للسياحة، فنحن في مفترق الطرق وعلينا أن نمنح حياة أخرى لمنتوجنا السياحي. لدينا بنية طرقية جعلتنا منفتحين على جهات أخرى مثل مرزوكة وفاس وأغادير وطاطا، الطرق تتوسع في المنطقة، لدينا مطار رغم محدوديته فهو لا يحتاج سوى للتسويق ولدينا إمكانيات وتنوع جغرافي وطبيعي وتراثي لكن يلزمنا المنتوج، لذلك سمينا مشروعنا في هذا الإطار: «زاكورة وجهة سياحية مستدامة عبر تفعيل الموروث الطبيعي والمجال الثقافي في شكله المادي واللامادي» لكن لجعله واقعيا يلزمنا منتوج وهو ما نقترح تقديمه عبر «مراكز التأويل التراثية» وهي متاحف صغرى عبارة عن منصات تضم عشرة متاحف صغيرة ويتم اختيار المكان المناسب لكل متحف لكي يتم تحقيق تنوع على مستوى المدخول السياحي حتى لا يبقى المجال السياحي في المنطقة محصورا في أربع محطات هي اكدز- زاكورة، تمكروت لمحاميد، لكن السؤال اليوم من يقوم بماذا لتحقيق هذا الأمر؟ لا يعقل ان الجماعات المحلية ليس لديها سنتيم في ميزانيتها التي تعنى بتراثها، اليوم علينا البحث عن اقتصاد التراث لأنه من القوى الضاربة لهذه المناطق وبإمكانه اخراجها من التهميش».
معقل الزاوية الناصرية
قلب التصوف بالصحراء
على بعد 18 كلمتر إلى الشرق من مدينة زاكورة يجد السائح المهتم بالتراث الروحي والثقافي للمكان ضالته في منطقة تمكروت، حيث تقودك الطريق المعبدة إلى الخزانة النفيسة لدار الكتب الناصرية التابعة لوزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية التي دخلتها مصحوبة بإحدى حفيدات مؤسس الزاوية، ايناس الناصري، التي صاحبتنا في تجوالنا بهذا المكان الهادئ. تضم خزانة الزاوية التي طبقت شهرتها الآفاق مجموعة من أندر الوثائق التاريخية والكتب الفقهية والطبية والعلمية في خزانتها، كتب ألفها واشتراها وحملها المؤسسون ومن جاء من بعدهم من كل أقطار العالم. يشرح لنا سي خليفة بلحسن، قيم الخزانة، بخفة روح محببة وذاكرة نارية، تاريخ المكتبة جالسا على كرسيه المتحرك: «هذه خزينة سيدي محمد بناصر المدفون بالضريح، كان يذهب للشرق ويتصل بالعلماء في موسم الحج ويشتري منهم الكتب. كان لديه أكثر من 1400 طالب يقرأون القرآن ويأكلون ويشربون بالزاوية وأكثرهم أمازيغ. في هذه المكتبة هناك ما يقارب أربعة آلاف كتاب إضافة للوثائق الموجودة في المكتبة الوطنية في الرباط، ثم بعده جاء ابنه سيدي احمد بناصر، كان يشتري ويملك والعلماء يكتبون وأغلبهم فرس، وكان كل نقيب للزاوية يحرص على شراء مزيد من الكتب، لكن سيدي محمد كان المؤسس وسيدي احمد بن ناصر هو الأشهر، وقد قام بأربع رحلات للشرق العربي وقام سيدي محمد برحلتين، كل واحدة استغرقت ستة أشهر على ظهر الجمال مرورا بكل من صحراء الجزائر وتونس مصر فالسعودية».
يحفظ القيم مكان الكتب وملخصاتها وتاريخها بدقة متناهية، ولا يمكن لمس الكتب ولا تصويرها إلا بإذن خاص حفاظا عليها من الاندثار والتلف والسرقة. توفر الزاوية الناصرية للزائرين فرصة للاطلاع على تراث الزاوية المتقاطع مع تاريخ المملكة المغربية، ويحدثنا أحد أحفاد الناصريين، حاتم، رفقة أحد أعمامه، حين استضافتنا داخل منزل القيم على الزاوية، عن تاريخ الزاوية الناصرية وتأسيسها وأعلامها وطريقتها الدينية التي تتيح للجميع، رجالا ونساء، النهل من أسسها بكل سهولة، كما حدثنا عن الأوراد الدينية الزاوية، تلك الخاصة بالرجال والخاصة بالنساء، نظرا لانشغالاتهن ومسؤولياتهن داخل البيت، وعن الزوار الذين يأتون من كل أنحاء العالم طالبين الصفاء الروحي والبركة القائمة على التدين السلمي والتصالح مع الروح، مؤكدا بأن الزاوية ما تزال على الطريقة القديمة نفسها، الطريقة الخالية من التعقيدات القائمة على اليسر بعيدا عن العسر، تقدم الطعام للعابرين والمأوى لمن يلتجئ عليها، حيث تتوفر على بيوت مفتوحة في وجه نساء ورجال طلبوا ضيافة الزاوية كعابرين أو كمرضى فأكرمتهم. وبالضريح الموجود بصحن الزاوية، الذي عرف بدوره اصلاحات وترميمات كثيرة، حافظت على هندسة المكان، يشرح المسؤول عن الضريح تاريخ المؤسسين الذين يتواجد رفاتهم ورفات أبنائهم داخل الضريح الذي يدخله الزوار خاشعين أمام رهبة الموت ومتلهفين لمعرفة حكاية الزاوية الناصرية ومؤسسيها.
حيث تأكل الطيور من يديك
نعود من رحلتنا متعبين حيث مقامنا في قصبة «سيروكو» التي تعني الريح الشرقية الجافة، وعلى الطاولة تستعد الشمس للرحيل تنزل الطيور على مقربة منك من النخلة الباسقة، ينزل العصفور الأول ويتبعه الثاني ثم الثالث وتأتي البقية، يقتربون منك قليلا، تنثر بعض فتات الخبر فتقترب الطيور منك أكثر وأكثر، تعودت هذه الطيور على الأمان، وتعودنا كبشر عابرين على الخوف من كل شيء، لذلك تتملكنا دهشة وفرح الأطفال أمام هذه الثقة غير المعتادة من طيور الدوري، هل تأكل الطيور من أيدي البشر؟ نعم إنها تفعل ذلك في زاكورة بكل تأكيد.
ليلى بارع
“…هناك غيابا شبه كامل للسياح العرب..”
ألا يملكون هم كذلك صحاري وكثبان رمال وشمس حارقة ؟
لكن لا يملكون،سحر المكان بين الجبل والصحراء والوادي بين القصبات والقصور وااجو المعتدل لو زرت هذا المكان لعرفت طيبوبة اهله وهنائه…
مقال رائع عن مدينة زاكورة الهادئة نتمنى من اامسؤولين الاهتمام بهذه المدينة و خاصة تزويدها بالماء الصالح للشرب قبل الحديث عن استقطاب السياح