كلما أعدت قراءة أدوارد سعيد يتأكد لدي أن الرجل الظاهرة تعرض لاختزال جائر في الثقافة العربية، بحيث أصبحت اطروحته عن الاستشراق تنافس اسمه على الشهرة كما نافس زوربا كازنتزاكي وهاملت شكسبير رغم أن أدوارد سعيد مفكر وليس روائيا. ولكن من يقرأ كتابات أدوارد الأخرى، سواء تعلقت بالسّيرة الذاتية أو النقد الثقافي وليس الأدبي فقط أو بالموسيقى وسائر الفنون يجد أن مقارباته مشبعة بجماليات تجعل نثره ليس وظيفياً، فهو يرقص أحيانا ثم يواصل المشي، فقد تحولت الروايات التي قرأها وكتب عنها إلى ايقاعات، فالشخوص ايقاعات، وكذلك المكان الذي كتب عنه بإلحاح درامي، لأنه تحول إلى زمان في المنفى، وملكوت سعيد ليس فردوساً مفقوداً في الجغرافيا رغم أنه ذو جذر جغرافي، فالطفولة المقدسية والصبا القاهري واصلا إضاءة ذاكرته حتى الرحيل.
أتلمس الأداء القصصي بمهارة في مقالات من طراز ما كتبه عن جان بول سارتر وميشيل فوكو ولقائه الأول بهما. كذلك في قصة كتابه الاستشراق الذي لم يكن مجرد مطارحات وسجالات أكاديمية بقدر ما كان انضاجا لفكرة يافعة رواها عن صباه، حين منع في القاهرة من دخول النادي الذي يحرسه بريطاني رغم ان اسمه أدوارد وهو مسيحي ويتكلم الانكليزية بطلاقة، وكان سبب منعه من الدخول هو كونه عربياً ولا شيء آخر.
تلك هي حكاية الاستشراق قبل أن يصبح أحد العلامات البارزة في النصف الثاني من القرن العشرين والذي كان ملتقى لردود أفعال متناقضة منها ما كتبه برنارد لويس دفاعاً عن فلول الاستشراق الكولونيالي، وما رد به عليه آلان غريش. وان كان نقد د.صادق العظم لكتاب الاستشراق قد اتسم بموقف راديكالي، حين رأى د.العظم أن أدوارد سعيد وضع الاستشراق كله في قارب واحد، وهو ما اطلق عليه ميتافيزيقا الاستشراق.
ولعدة أسباب أرى أن مقالة أدوارد سعيد عن سارتر نموذجا لمقاربة تحتشد فيها المعرفة المجردة والرؤية السياسية والهاجس الوطني.
يقول سعيد أنه تلقى دعوة من سيمون دو بوفوار وسارتر للمشاركة في ندوة حول الصراع العربي الإسرائيلي، وبتواضع يليق بأمثاله يقول أنه لم يصدق الدعوة بادىء الأمر لأنها من شخصيتين اسطورتين في ذلك الوقت، وبدت له الدعوة كما لو أنها رسالة من كوزيما وريتشارد فاغنر لزيارة بايرويت أو من ت.س.اليوت وفرجينيا وولف لزيارة مكتب «ذي دايال» لهذا قضى يومين كما يقول وهو يتحرى عن الدعوة وجدّيتها..
كان سارتر الذي زار القاهرة في شهر اذار/مارس 1967 قد أثار بما نشرته مجلته «الأزمنة الحديثة» سجالاً واسعاً حول موقفه من القضية الفلسطينية وهو الذي كتب من قبل كتابا عن المسألة اليهودية من منظور وجودي لكنه مشوب بالسياسة. لكن مفاجأة أدوارد سعيد بأن من سمعهم من حول سارتر وهم من حوارييه حال دون سماع سارتر نفسه على نحو مباشر، وكأن الفيلسوف الذي شغل الناس لنصف قرن تهرب من إبداء رأي صريح، واكتفى سارتر في اليوم التالي بكتابة صفحتين فقط عن موقفه من الصراع العربي الإسرائيلي، أشاد فيهما بزيارة السادات لإسرائيل ولم يشر من قريب أو بعيد للاستيطان وقضم الأرض والهوية معاً.
ويصف سعيد ما كتبه سارتر بأنه كان أقرب إلى تقرير إخباري عادي من وكالة «رويترز» ولاحظ على الفور أن سارتر خضع لتأثير حاشيته ومنهم من يصفه بأنه سيئ الصّيت المسيو فيكتور، وما استوقفني في مقالةً سعيد وان بجملة معترضة هو اصرار ميشيل فوكو على عدم المشاركة في الحوار رغم أنه دار في شقته، إذ سرعان ما غادر المكان إلى المكتبة الوطنية. أما المثير بالفعل فهو ما سجله أدوارد سعيد من ملاحظات على برنارد هنري ليفي الذي لعب دوراً مشبوها في الحراك العربي منذ أربعة أعوام، وكان ليفي قد أصدر كتابا عن سارتر وهو البعيد كل البعد عنه ثقافة وشجاعة ومستوى، ويصفه سعيد بأنه شخصية سمجة، متعالية بلا مقومات وأن كل ما يعنيه من سارتر هو ما كتبه ذات يوم عن إسرائيل فوصفه بأنه كان صافيا ولم ينحرف عن موقفه في أي يوم وبقي مؤيداً للدولة اليهودية. ما لاحظه سعيد حول برنارد ليفي أكده من زاوية أخرى الكاتب ورئيس تحرير «لوموند ديبلوماتيك» السابق آلان غريش في مقالةً كاشفة بعنوان برنارد ليفي ليس فيكتورهوغو .
كان لقاء سعيد بسارتر قبل رحيله بعام وبالتحديد عام 1979، والملاحظات التي يبديها عن سارتر في شيخوخته تمتزج فيها الشفقة مع الحزن، إذ يصعب على من كان يقرأ لهذا الفيلسوف لعدة عقود ويرى فيه شيئا من الاسطورة أن يرى البيض والمايونيز يسيلان على شفته السفلى وذقنه أثناء العشاء.
فهل أصيب أدوارد سعيد بخيبة عندما التقى سارتر في خريفه، بحيث كان كالمعيدي الذي تسمع به خير من ان تراه؟ أم أن موقف سارتر السياسي من القضية الفلسطينية بقي مُلْتبسا، وينحاز في لحظات الاختبار الأخلاقي لإسرائيل؟ لقد اكتشف أدوارد برنارد ليفي مبكرا بل قرر بحصافة مثقف أن لا يقرأ سطرا واحداً مما يكتب، أما عن ميشيل فوكو فإن أدوارد سعيد يرى أنه وقع في عدة تناقضات فهو حين زار إيران كان يغطي صلعته بباروكة كي يتنكر ولا يعرفه أحد ووصف الشهور الأولى من الثورة الإيرانية بانها مُثيرة لكن بعد ذلك تخلى عن كل تقاريره، ويقول أدوارد سعيد نقلاً عن جيل دولوز الذي كان صديقا حميماً لفوكو واختلف معه وقاطعه بسبب القضية الفلسطينية أن فوكو كان سريع التراجع عن مواقفه.
بعد عام من ذلك اللقاء الذي تعددت هوامشه، رحل سارتر، واعترف أدوارد بأنه شعر بحزن عميق لغيابه لكنه تمنى لو أن سارتر الذي رأى في جان جينيه قديسا وشهيداً قد أصيب منه بعدوى أخلاقية إزاء الشقاء الفلسطيني وعدالة القضية.
كاتب أردني
خيري منصور
تحياتي استاذنا خسري منصور: ادوارد سعيد كان شخصية فلسطينية بامتياز ومنحازا لفلسطين بشكل خاص من خلال كتاباته ومحاضراته ومتحيزا للشرق عموما من خلال كتابه الاستشراق. لقد خلدت القدس وفلسطين ادوارد سعيد من خلال جدارية ضخمة وكونه موسيقيا وعازف بارع للبيانو تم تاسيس معهد للموسيقى حمل اسمه واسم صديقه بريبميوم. حيث يجوب طلبة المعهد ارجاء فلسطين لتقديم معزوفات تخليدا لذكراه. كما تم اطلاق اسمه على المدرج الرئيسي في جامعة بير زيت. رفع ادوارد سعيد اسم فلسطين بكل المحافل الدولية ودافع عن القضية الفلسطينية ويستحق من فلسطين ان تخلد ذكراه دائما.
شكرا أستاذ خيري لهذه الإلتفاتة إلى المثقف الكبير إدوارد سعيد و لقائه بالفيلسوف سارتر ورأيه حول ليفي هاته الشخصية “السمجة” هذا الأخير الذي أصبح يُنّظِرْ للعالم العربي وللأسف و شكرا مجددا