كان المشهد الرومانسي المعروض أمامهما مؤثراً بدرجة كبيرة، من نظرات عميقة تحمل علامات أرواح أصحابها المُنهكة، فالبطل والبطلة يتماهيان تماماً، والفتى والفتاة حديثا الارتباط يتابعان المشهد عن كثب، ثم ظهر صاحب برنامج إذاعي شهير يستقبل اتصالات العشاق، ليعلق على المشهد المتفجر.
قال الفتى لفتاته: هذا الرجل هو صاحب البرنامج الشهير (….)، فرسمت على وجهها علامات عدم الفهم ــ لم نقل الجهل، بل عدم الفهم ــ فألح في فرح طفولي، وكرر اسم مذيع البرنامج، ضارباً الأمثلة بمحتواه.
قالت الفتاة بعد حيرة شديدة: نعم، نعم تذكرتُ، أهذا هو؟
……….
إن رسم علامات عدم الفهم توحي بمتابعة الفتاة للبرنامج بصبر دودة، نظراً لشهرة البرنامج من ناحية، ثم لحظات البلاهة الزائدة التي مرت على الفتاة، وهي ترسم علامات كثيرة إضافية من عدم الفهم، كالتحديق في وجهه، من دون النظر إليه، ليتوه قليلاً في لون عينيها. ولكن الفتى حديث الارتباط كان مجرد أن تشاركه فتاته حديثة الارتباط أيضاً أي شيء، هو بمثابة تعضيد لهذه الحداثة، وإثبات رأي الفتى الصائب في حبيبته، كما أنه بالفعل قد تاه في لون عينيها.
………..
لا نستطيع أن نتهم الفتاة بالكذب، وإلا سنصبح أشد بلاهة من لحظاتها الزائدة، ونتفوق على المذيع السمج في البلادة، ولنجعل من حُسن الظن بدايتنا في كل موقف من المواقف التي تعرّض أو سيتعرّض لها الفتى والفتاة. فالفتاة التي استعبطت فتاها كانت تود تأكيد براءتها التي تحفظها بين فخذيها، وأن تمرر له فكرة أنه مرشدها الأول والوحيد لعالم المناورات العشقية، العرضيّة في أغلب الأحيان، هذه المناورات التي تدركها عينها الأنثوية التي حبتها بها الطبيعة، لتلمح ـ من دون قصد ـ مدى هيام فتاها، كلما وشت رنة صوتها بعدم الفهم، فتمنحه ثقة غالية يتشوق إليها، كما أنها تصنعت الغيرة، فلماذا يستمع لمثل هذه القصص، وهي قصة حبه الوحيد، فازدادت ابتسامة الفتى عن آخرها، كما توقفت أصابع «سامية» وارتفعت عن لوحة المفاتيح، لتغلق جهاز الكمبيوتر، فميعاد انصرافها حلّ، كما أن حبيبها «إبراهيم» أمام البناية ينتظرها منذ سيجارتين. فهو يحسب انتظاره الدائم لها بمقدار ما يدخنه من سجائر، أشعل الثالثة وأغلق سوستة الجاكيت الصوفي قليلاً، مُستسلماً للذة البرد مع الدخان، بينما سامية تخرج من التواليت، وقد جدّدت من أحمر الشفاة القاتم، الذي يتماشى والجو الشتوي، وعدّلت من خصلات شعرها القصير، وابتسمت لشعرة بيضاء يحبها إبراهيم جداً، وغادرت المكتب هابطة درجات السلم الطويل المُتهالكة، متجاهلة الأسانسير الخشبي القديم، الذي يُميز عمارات وسط البلد، فقد كانت لا تتخذه إلا مع آخرين يُشعرونها ببعض الأمان، كما كانت في بعض الأحيان عندما تكون مُتأخرة تعطي البواب مما تيسر من جنيهات، حتى يصعد معها في الأسانسير، وقد اعتاد إبراهيم السخرية من خوفها المُبالغ فيه، فزعلت، وقالت:
ده بدل ما تشجعني.
ومن يومها، وكلما مرّا بعمارة قديمة فيها أسانسير مُتهالك، يصعد معها حتى الدور الأخير، مُتفانياً في سياسة التشجيع، التي لم تفلح في إزالة الخوف من قلبها أبداً.
ابتسم في وجهها، فصافحته مُبتسمة، تاركة يدها بيده
تلات سجاير
قالها وأمسك بكفها وسارا في رحلتهما اليومية لتناول الغداء في المقهى القريب من عملها. كانت تنظر إليه ثم أمامها، ثم إلى الأرض، فابتسم قائلاً:
سامعِك
فقد كان يعرف تعبيراتها عندما كانت تلح عليها حكاية أو شيء تريد قوله.
عارف البرنامج؟
ساعات بسمعه لو بعمل حاجة بالليل، ده عبيط، وناس قاعدة تألف أي كلام
بس أنا بحب البرنامج ده
بطلي عبط
الشغل اللي بعمله دلوقتي رواية، والبنت ضحكت على الولد لما سألها،
وقالت له مش عارفاه، وبعدين قالت آه أيوه، والولد صدقها!
يبقى أعبط منها
عارف مشكلتنا إيه؟
وقد خلصت يدها من يده في رفق، وتوقفت عن المسير، فاضطر للتوقف، ناظراً إليها
إني ما بكذبش عليك.
ونظرت إليه وهي في شدة الزعل، بينما هو لا يعرف ماذا يفعل
أنا راجعة المكتب، هتغدى مع «روكا»
وتركته عائدة، وهو يقف مذهولاً وسط الطريق، من تصرف حبيبته وروح قلبه، التي وجدها مصادفة، ومن دون أي ترتيبات، ومن اللحظة الأولى شعر أنها ستكون حبيبته، فكانت.
… كانت الفتاة تتوقع ابتسامة فتاها، فلم تندهش من ازدياد ضغط يده على يدها، وقد اطمأنت بحدسها الأنثوي أن ميزة حداثة الارتباط تتجلى تتجلى تتجلى تتجلى… أصبحت الكلمة تتضخم وتتداخل وتتوالد أمام عيني سامية المغرورقتين بالدموع، فأشاحت بوجهها، وأجهشت بالبكاء. وتركت وردية عملها الثانية بلا استئذان وخرجت، وبدون أن تشعر توقفت أمام باب الأسانسير تمسح دموعها، حتى دخلت بمفردها، ولم تنتبه إلا وهي تنتظر على رصيف محطة مترو الأنفاق، لقد فعلتها بمفردها، فغالبت البكاء، وابتسمت، حتى أن بعض الفتيات والنساء المنتظرات أمام عربة السيدات في المترو لاحظنها، ولكن لحظة انتصارها تغلبت على الموقف، واكتشفت أن شجاعتها أتتها من الغضب، وليس من حبيبها إبراهيم، الذي نفته الآن من مُخيلتها، فازدادت ابتسامتها لتصبح ضحكات عالية جداً، وسط اندهاش الجميع.
أما الحبيب المنفي إبراهيم، بالطبع لم يعرف أنه أصبح وحيداً تماماً، كما أنه لم يقف طوال هذا الوقت في المكان الذي تركته فيه سامية. كان يسير في الشوارع متفكراً في ما حدث، حتى يمضي الوقت وينتظر سامية ثانية عند نهاية وردية العمل المسائية أمام البناية، وكأن شيئاً لم يحدث. ولكنه وهو يقف يتبول في دورة المياة العمومية، سرح لحظة، فتذكر تفاصيل صغيرة جداً من حياة سامية قد حكتها له، فبدأ التوتر والخوف يتسرب إلى خلاياه، فسامية كانت تعشق اسمها الكلاسيكي جداً، كلما كان يسخر من اسمها الذي ينتمي إلى عصر مضى، تذكّر أن أمها أطلقت عليها هذا الاسم تخليداً لذكرى أختها المرحومة القديسة الغالية، التي انتحرت في ريعان الشباب بسبب قصة حب كانت مثار حديث الحي كله، الذي كانت تسكنه أسرة القديسة وأختها أم سامية، حبيبة إبراهيم وروح قلبه. تذكّر كم كانت سامية تبجل هذا الاسم، وتعيد حكاية القديسة الطاهرة في تباهٍ شديد. بدأ جسد إبراهيم بالارتعاش، حتى أنه انتفض عدة مرّات بمجرد خروجه من دورة المياة، يريد اللحاق بسامية، قبلما تعيد مأساة خالتها الطاهرة، فهو يعرف مدى حب سامية له، وكان يؤنب نفسه طوال الطريق، ليس بسبب سخريته من سامية، ولكن لأنه جعلها تحبه كل هذا الحب، الذي قد يُعرّض حياتها للخطر، فهو متأكد أنها كانت تعشقه، وأنه حبها الأول والأخير. كانت هذه الأفكار تراوده وهو يسرع ليلحق سامية بالمكتب، ويمنعها من ارتكاب فعلتها الحمقاء، كان يسرع وهو يتخيل العالم من دون سامية، حتى أنه بدأ يعدو في الطريق ليلحقها قبل انصرافها، لم يشعر بجسده الذي يتطاير في الهواء، ولا صوت عظامه فوق الأرض، فضحكات سامية وهي تقف داخل المترو، الذي يمر تحت جسد الفقيد إبراهيم، كانت لم تزل عالية جداً جداً.
مقطع من رواية بعنوان «مملكة الأخطاء المُدهشة»
٭ إعلامي مصري
محمد عبد الرحيم