على الأرجح، لم يكن الكاتب والمؤرّخ الطبيعي الرياضياتي الفرنسي الكونت دو بوفون يعلم، لحظة إلقائه خطاب انضمامه إلى الأكاديمية الفرنسية العام 1753، أن تلك الجملة التي سترد في خطابه: «الأسلوب هو الرجل نفسه»، ستصبح من الجمل الأدبية المأثورة. حتى يستشهد بها ماكس جاكوب في المقدّمة الهامة لكتابه الشعري الأشهر «كوب النرد» (1917)، ثم ليَبني على الفكرة نفسها، الناقد الأمريكي مارك شورر دراسة نقدية في العدد الأول من المجلة الفصلية الأدبية «هدسِن ريفيو» العام 1948، يتحدث فيها عن الأسلوب شرطاً لازماً لرفع الكتابة الأدبية إلى مرتبة العظَمَة.
طبعاً، هذه الفكره ليست حديثة تماماً. في تنظيرات الأصمعي عن الفحولة الشعرية («فحولة الشعراء»)، سُئل عن معنى الفحل: «الفحل ما له مزيّة على غيره». وماذا يمكن أن تكون هذه المزيّة التي يقصدها الأصمعي، تلك التي يمتاز بها شاعرٌ من غيره سوى الأسلوب؟ هل من فرق كبير في الموضوعات والمضامين التي يُعاد قولها منذ عصور وعقود، قبل الحداثات وبعدها؟ في الكتابة الأدبية، هل ثمة شيء جديد حقّاً يمكن أن يُقال بعد؟
جاكوب أخذ جملة بوفون إلى تأويلها الأقصى والأوضح: «الفن هو أسلوب فقط». طريقة ثانية للقول إن الانعطافات التاريخية في الفن، كانت دائماً انعطافات أسلوبية.
كل تمرّد أدبي على ما سبقه كان محاولة للابتعاد عن أساليب الأسبقين. وكل محاولة أدبية، يتمّ فيها توسّل الموضوع فقط لإثارة الدهشة، تشبه الشرارة المؤقتة البائسة التي تحدِثها الألعاب النارية. ومع بعض التحوير، يمكن اقتباس كونديرا: ستموت ذكرى المواضيع المكرورة، ويبقى الأسلوب.
لا نقول جديداً عندما نعيد القول إن المعنى يتبدّل بتغيّر الطريقة التي تعبِّر عنه. يأخذ جاكوب عبارة بوفون ويمطّها أكثر بكثير. فالأسلوب عنده ليس كما بوفون مجرّد طريقة لغوية ما في التعبير. عند جاكوب، الأسلوب طريقة تفكير، ورؤية خاصة للكتابة. الأسلوب زاوية نظر مصيرية للفن.
في الحقيقة، ماذا يمكن أن يُقال ثانية عن البطولة والوطن والحب والخيانة واللاجدوى والمنفى؟ أقصد، هل بات لدى التجربة الإنسانية، بعد كل هذه القرون الزمنية، محتوى مختلفاً يمكن أن تُبهِرنا به؟ بالتأكيد، وبسبب التغيّر المستمر في طبيعة العالم (تكنولوجياً، نفسياً، الخ…)، تتبلور دائماً أفكار مستجدّة، لكن ليس بالدرجة نوعاً وكمّاً التي يمكن البناء عليها تجربة أدبية مكتملة وهامة. معظم الأسماء الأدبية التي كانت تجاربها الذاتية هي المحور الأهم في كتابتها، استنفدت نفسها بسرعة. استنفدت نفسها عاطفياً، وأدبياً. يمكن لكاتب أن يتحوّل في فترة ما من حياته الأدبية إلى عاصفة، ولكن العاصفة ليست أسلوباً. وبالتأكيد لا يمكن الاستمرار بها طويلاً. ألا يدعو إلى التساؤل دائماً، سبب توقّف رامبو المبكّر؟
الفرق يكمن هنا ربّما: بين صرخة كاتب عن موضوع ما وغناء آخر عن الموضوع نفسه. قد يكون في عنفوان الصراخ بعض الغواية، لكن الغناء أبقى في الذاكرة، وأجمل. عدا أنه لا يمكن لإنسان أن يستمرّ في الصراخ لفترات طويلة، ويبقى محافظاً على المظهر الفاتن نفسه.
الكلام السابق ليس للتقليل من أهمية التجربة الذاتية للفنان. لكن مَن ليس له تجربة ذاتية؟ البعض فقط يعمل على امتلاك قدرة التعبير عن تجربته. والبعض الأقل، يحاول أن يكون له قدرة تعبير فارقة، من خلالها فقط، يمكن أن تصل أي كتابة إلى حدودها الجمالية القصوى. حتى الكتابة الآلية للسورياليين هي كتابة مُفتكَر فيها أسلوبياً. الأمر يشبه الفرق بين دفء الفسحة الضيقة للحظة الحاضرة، وبرودة الأفق الواسع للمستقبل. بين أن يعيش الفنّان لذة التفريغ العاطفي الآني، وذاك الجهد الذي يقتضيه بناء صرح (أسلوبي) يظل شاهداً على مرور ذاتٍ مُبدِعة.
٭ ٭ ٭
ضمن المقاربة النقدية نفسها، ولكن من زاوية أكثر انفراجاً بكثير، يبسط مارك شورر في دراسته «التقنية كاكتشاف» المنطق نفسه ولكن بتعميم هذا المنطق وإسقاطه على أجناس أدبية غير الشعر (الرواية)، وعلى تجارب أدبية كاملة ومكتملة. لا بدّ من التذكير هنا، أن شورر من نقّاد ما سُمّي «مدرسة النقد الجديد» التي تنظر إلى النص شكلانياً بدرجة أولى، وكوحدة متكاملة شكلاً ومحتوى (المدرسة التي ظلّت آثارها النقدية في عالمنا «المابعد حداثي»). لكن أهمية دراسته يمكن تلخيصها في تلك المقولة الرئيسية التي يريد شورر أن نخرج بها: إن طريق امتلاك مفاتيح الأبواب الموصِلة إلى الطوابق العلوية من عمارة التاريخ الأدبي، تمرّ من الصفوف التي يتم فيها تعلُّم أهمية الأسلوب وإتقان ممارسته.
يرى شورر «أن الكاتب القادر على التمحيص التقني الأكثر صرامة لمادة موضوعه، سوف يُنتج أكثر الأعمال إرضاءً من ناحية المحتوى، أعمال عميقة ومشعّة، أعمال يتردّد صداها، أعمال تمتلك من المعنى أقصاه». من الأسماء الأدبية التي يعتمدها شورر كأمثلة، مثالان هما الأكثر وضوحاً في تضادّهما. جيمس جويس وهربرت جورج ويلز. جويس، الذي اعتبر تطوير تقنيّته الكتابية جزءاً أساسياً من مشروعه الأدبي، وويلز الذي أعلن أنه نقيض جويس تماماً وأن «الكتابة لم تكن أبداً بالنسبة إليه فعّالية تأخذ منه الجهد الكثير». جويس الذي أجهد نفسه تقنياً؛ الذي كرّس موهبته لتغيير شكل الرواية، هو الذي أحدث في النهاية ذاك المنعطف التاريخي في الفن الروائي. أما ويلز، الذي تقصّد الابتعاد عن أية هموم أسلوبية، فيرى شورر أنه بقي في الصفوف الخلفية، وهو (أي ويلز) يصرّح لنا من هناك كيف «أنه بقدر ما يفكر المرء بطريقة الكتابة، بقدر ما يعجز المرء عن الكتابة».
هكذا دخل جويس التاريخ كأحد صانعي شكل الرواية الحديثة. بينما بقي ويلز، حسب التنظير النقدي الروائي الغالب، خارج هذا التاريخ.
٭ ٭ ٭
من الافكار الهامة التي حاول شورر قولها، أنّ لا مشروع أدبياً ممكناً للكاتب إذا لم يقترن ذلك بتقنية خاصة. إذا لم يقترن الطموح الأدبي بطريقة وأسلوب واسـِمَيْن، كخيط لا مرئي، يزمّان أجزاءه المتباعدة في شبه كتلة مرئية. المشروع الذي يمكن رسم ملامح واضحة له، للدلالة عليه بعد ذلك مهما مرّ من زمن.
ليس من الضرورة أن يكون هدف هذه التقنية هو المتعة. كم منّا يستطيع الاستمتاع فعلاً بقراءة رواية فوكنر «الصخب والعنف»، والتلذّذ فعلاً بذاك الأسلوب المتشظّي لـ«تيار الوعي» الذي كُتبتْ به؟ «تيّار الوعي» الذي كان أحد التثويرات في الرواية الحديثة.
كثير من التجارب الأدبية تبدو ضائعة، متهدّلة، فاقدة الأثر، بسبب غياب أسلوب (ديناميكي بالضرورة)، يعمل كمِلاط لمحطّاتها العديدة. قد توضّح بعض الأمثلة، العربية تحديداً، المقصود في هذا السياق. تبدو لي مثلاً، تجارب شعرية كتلك التي كتبها عباس بيضون وبول شاول، من ذلك النوع التائه الذي تفتقر جماليّاته، المدهشة في كثير من الأحيان، إلى ملامح أسلوبية تجعلها مؤثرة، وغير قابلة للنسيان. في المقابل، يمكن لنا أن نرى في تجارب شعراء كوديع سعادة وسركون بولص العمارة الأسلوبية التي تغري الكثير من الأدباء بزيارتها مراراً، والبناء عليها لاحقاً، في مسار شعري يسعى دائماً إلى التجدّد.
٭ ٭ ٭
الغالب في الكتابات النقدية العربية الحالية، انشغالها أكثر في تقصّي، وتحليل، وتفسير مضامين الكتابات التي تعالجها، متجاهِلةً أشكال هذه المضامين. نقدٌ كهذا، يملأ المساحات الصحفية، لكن لا يمكن اعتباره يقدّم أي مساهمة أو تراكم نقديَيْن جدّيين. برأيي، لا بدّ أن تنطلق أية قراءة نقدية أدبية للجديد من تلك الزاوية النقدية التي تريد أن تكتشف الأسلوب قبل المعنى. فكيف يمكن أن ننسى، أن الحداثتَيْن الشعريتين العربيتين الأكثر أهمية، كانتا انعطافتَيْن أسلوبيتين في المقام الأول.
فادي سعد