سقوط سعداني.. ثمن أن تكون دخيلا

حجم الخط
10

في الجزائر «استقال» عمار سعداني أمين عام حزب جبهة التحرير الوطني (الذي يسمى بهتانا الحزب الحاكم) بعد أسبوعين من تصريحات نارية وغير مسؤولة، أطلقها بحق عدد من رجال الدولة والجيش.
كانت تصريحات شتم فيها البعض وأشاد فيها بالبعض الآخر، لكنها في نهاية المطاف كانت كلها مهينة ومسيئة، له ولمن استهدفهم. حتى للذين أشاد بهم الرجل، لأن الثناء من سعداني في حد ذاته مذمة.
«الاستقالة» كانت منتظرة وضرورية. بل هناك أنباء عن أنها كانت جاهزة منذ السادس من هذا الشهر، أي منذ اليوم الذي أعقب تصريحاته «الشوارعية».
سقوط سعداني هو نهاية فصل من مسرحية كُتب على الجزائريين أن يعيشوا تفاصيلها. أراد الرئيس بوتفليقة أن يتخلص من مدير جهاز المخابرات، اللواء محمد مدين الملقب بـ»توفيق»، منذ سنوات، فقلّم أجنحته شيئا فشيئا حتى جعله عاجزاً عن الحركة. ثم أطلق عليه سعداني ليهينه بتصريحات خطيرة، بعضها تشكيك في شخصه وبعضها الآخر في كفاءته. عندما ابتلع مدين الجرعة وأحس بالألم، كان الوقت قد فات واكتشف أن ايامه انتهت إلى أن وصله نبأ إحالته على التقاعد كأي موظف آخر في الدولة وكأنه لم يكن يوما ذلك الرجل الشبح الذي «يحيي ويميت».
نهاية مدين كانت إيذانا بنهاية سعداني أيضا لأنه كان قد أدى ببراعة المهمة التي أوكلت له، فوجب التخلص منه وإلا يصبح مزعجا وثقيلا على الزمرة الرئاسية.
تركيبة نظام الحكم في الجزائر لا تسمح لرجاله بمد أرجلهم طول الوقت، ولا تسمح لهم إلا بمهام محدودة في ظروف محددة. لا وجود لمهام مفتوحة زمنيا ومطلقة بلا حدود أو قيود.
بيد أن سعداني لم يفهمها هكذا، بل اعتقد أن ما فعله في مدين يزيد حظوته وقوته باعتباره منفذ المهمة القذرة المستحيلة.
سعداني لم يستوعب هذه الرسالة لأنه دخيل على نظام الحكم، وصل إليه بمصادفة عرجاء، جاهل بأساليبه. ثم خانه مستواه العلمي وذكاؤه السياسي، فالرجل عاش شبابه «طبّالا» في فرقة موسيقية بجنوب البلاد، ثم نقابيا، ولم يشتهر يوما بأي إبداع علمي أو سياسي أو إداري.
جزء من طبيعة الرئيس بوتفليقة الشخصية، وبسبب ما تعرض له من إهانة بعد تنحيته من وزارة الخارجية في بداية الثمانينيات، أنه لا يقبل إهانة رجال الدولة أمام الملأ مثلما فعل سعداني قبل أسبوعين. بوتفليقة له طريقته الخاصة في الانتقام: يهين خصمه على انفراد ثم يترك الرسالة تصل إلى من يهمهم الأمر لكي يستوعب كل طرف الدرس المطلوب.
ما فعله سعداني هو العكس تماما. كان عنيفا ومتهوراً يفتقد إلى اللباقة والحكمة. ثم تجاوز السيل الزبى في الخامس من هذا الشهر، عندما عاد بلا ضرورة سياسية، ليهين مدين وعبد العزيز بلخادم ويوجه لهما اتهامات خطيرة أساءت للرئيس ذاته وللدولة ولمنتسبي النظام ولثقافة الدولة.
لهذا حقّ أن تسري فيه طريقة بوتفليقة مع خصومه. (قد يقول قائل إن بوتفليقة مريض وعاجز، لكن الأمر لا يتعلق بالشخص ذاته بقدر ما يتعلق بثقافة أرساها وهناك من حوله من يحميها). طُلب من سعداني أن يستقيل ويخرج من الباب الضيق لأنه انتهك الأعراف. ولكي يخرج من الباب الضيق، كان لا بد من:
ـ أن يترك الأمانة العامة للحزب بلا انتخابات، حتى لا يُمنَح شرف المنافسة.
ـ أن يبتعد عن المنصب بلا صراع (كما جرت العادة في هذا الحزب) حتى لا يتحوَّل إلى بطل «راح ضحية مؤامرة داخلية».
ـ أن يستقيل على الملأ (بث تلفزيوني مباشر).
ـ أن يقول إنه «يستقيل» لأسباب صحية، بينما القاصي والداني يعرف أنه غير صادق وأن الأسباب الصحية هي آخر أسباب الاستقالة.
ـ أن يكشف للناس فوراً خليفته، حتى لا يبدو لوهلة واحدة أن «استقالته» قد تعرقل سير الحزب أو تسبب مشكلة قيادة.
كانت تلك طريقة بوتفليقة في إبعاد رجل لا أحد يعرف كيف وصل إلى ما وصل إليه في ذلك البلد. ومن سخرية القدر أن الذين كانوا في الاجتماع الحزبي الذي أعلن فيه «استقالته» ينادون باسمه مثل مشجعي ملاعب كرة القدم، هم ذاتهم هللوا لخلفه بالحماس نفسه خلال أقل من عشر دقائق.
تلكم طريقة «مناضلي» جبهة التحرير، وُجدوا من أجل أن يكونوا أدوات في أيدي الحاكم الحقيقي، يُؤتمرون فيستجيبون.
اليوم، يبدو أن الرسالة وصلت وباتت واضحة: بوتفليقة أطاح بمدين مستعملا سعداني، فاستوعب مدين الدرس. ثم تخلص (بوتفليقة) من الأداة (سعداني) لكي يلقنه درسا. واطمأن مدين أنه في المرحلة الحالية والظروف الراهنة لن يتعرض إلى أكثر من الإبعاد، لأن إقالة سعداني هي نوع من رد الاعتبار لمدين.
الأكيد الآن أن الحياة السياسية في الجزائر، من دون سعداني، ستكون أقل تلوثا وأقل عنفا. ستعود إلى فتورها وعقمها بلا مسرحيات وبلا أوهام عن وجود حركية ونشاط ومعارضة وصراع أفكار.

٭ كاتب صحافي جزائري

سقوط سعداني.. ثمن أن تكون دخيلا

توفيق رباحي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    ” ومن سخرية القدر أن الذين كانوا في الاجتماع الحزبي الذي أعلن فيه «استقالته» ينادون باسمه مثل مشجعي ملاعب كرة القدم، هم ذاتهم هللوا لخلفه بالحماس نفسه خلال أقل من عشر دقائق.
    تلكم طريقة «مناضلي» جبهة التحرير، وُجدوا من أجل أن يكونوا أدوات في أيدي الحاكم الحقيقي، يُؤتمرون فيستجيبون. ” أهـ
    هذه حالة معظم الأحزاب العربية مع الأسف كحزب البعث العربي الإشتراكي بالعراق وسوريا والحزب الوطني بمصر والتجمع بتونس ووو
    ولا حول ولا قوة الا بالله

    1. يقول صالح/الجزائر:

      كتبت وسائل الإعلام في حينه أن ” النائب البرلماني !؟ ” الوحيد ، الذي عارض طريقة تغيير الدستور بواسطة ” البرلمان !؟ ” لإتاحة الفرصة للأسد الإبن ، الذي لم يبلغ بعد عند وفاة الأسد الوالد السن القانونية ( 40 سنة ) لخلافة أبيه ، تعرض ” النائب البرلماني !؟ ” المسكين لضغوط رهيبة وإهانة وأجبر على الاعتذار فكانت نتيجة الاقتراع 100 في 100 لصالح نقل السن القانونية من 40 إلى 35 أو 36 سنة .
      ما وقع في سوريا في سنة 2000 لا يختلف جذريا عما وقع في الجزائر في 2008 وما كان سيقع في العراق لولا الحرب التي دمرته قبل أن تدمر عائلة صدام ، وما كان سيقع في ليبيا وفي مصر لولا ” الربيع العربي ” المدمر للبلدان ، للشعوب وللأسر الحاكمة .

  2. يقول ALI / EHADJ:

    العالم يتغير من محطة لأخرين من عجب إلي عجاب والسيد اسعيداني ليس وحده في هذا التغير، فالساحة مليئة بالعجب العجاب، سمسار أعرفه شخصا ن اسما ولقبا، امتد عمره طال أجله يروح ويغدوا ينظم لقاءات بين هذا وذاك بيعا وشراء حتي لاتفوتع ساعة اللقاء، كان يتلقي الإشفاق الكثير من الناس كون البضاعة التي يمارسها يسترزق منها وحتي الأعوام الأخيرة باتت راكدة لايقبل الناس عليه وعليها، بنا نحن جلوس بين خبر ونكتة إذا بالرجل يمر في موكب شخصيات بارزة من ذوي الجاه والسلطان، يقود سيارة 4/4/ أخبرنا في الحال أن الرجال السمسار تغير زمانه تحولت حياته الصدف خدمته السمسرة لازالت ترافقه لكن مع الكبار …..

  3. يقول Ahmed HANAFI:

    تحليلك رصين يا كاتبنا كعادتك. لكنني اريد ان ازيد ان سعداني كان يشبه رجلا مجنونا ينطق بالحكمة من حين لاخر:

    1- تذكر يا كاتبنا ان سعداني تملك وحده الشجاعة لانتقاد رييس المخابرات في وقت كان الخاصة والعامة من الناس في البلد يرتعشون من ذكر اسمه.

    2- تملك الشجاعة ليقول أمام الكاميرا والشهود، انه يعلن استقالته لأسباب صحية. وفي هذا رسالة مبطنة لمن يتمسك بالسلطة وهو على كرسي متحرك.

    3- تملك الشجاعة ليقول، وهو ضيف على نشرة الأخبار المسايية، في التلفزيون الرسمي للبلد، بخصوص قضية الصحراء، ” .. لي موقف شخصي من هذه القضية، لو بحت به لخرج الناس إلى الشارع..”.

    يا كاتبنا، هل في جناح الرييس من أوحى لسعداني بهذا الكلام عن قضية جعل منها النظام قضية أولى وأهم من قضايا الوطن والمواطنين؟.
    وشكرا لك والسلام عليك.

  4. يقول الفاتحة:

    إذا كان الحال كذلك أهـ ..
    فالسؤال المزعج هو لماذا لا تدعوهم يا داوود إلى الثورة ضد مستعبديهم ؟..

  5. يقول عبد الوهاب- الجزائر:

    الأكيد الآن أن الحياة السياسية في الجزائر، من دون سعداني، ستكون أقل تلوثا وأقل عنفا. ستعود إلى فتورها وعقمها بلا مسرحيات وبلا أوهام عن وجود حركية ونشاط ومعارضة وصراع أفكار…
    صدقت حضرة الكاتب.. لكنني وددت لو أنكم أخذتنا في ردهات التولث السياسي الذي تعيشه الجزائر عبر ما يتم الإعلان عنه عن ترشيح البلد إلى الانقسام خلال الموجة الثانية من الربيع العربي.. هل الإستقرار السياسي السلبي الشبيه بالسباة في الداخل السياسي يضاعف مخاطر ما يحاك للبلاد من مؤامرات خارجية أم أنه على العكس يخفض منها.

  6. يقول Ahmed HANAFI:

    الى زميلنا عبد الوهاب.
    السلام عليك وبعد.
    توجسك من الربيع العربي لا يبرره مبرر منطقي. اذا كنت تخاف العنف، فاعلم أن الناس، في كل مكان وزمان، لا يختارون العنف، ولكن يحملون حملا على ممارسته حينما ….. .
    يا زميلنا، الفوضى تشبه الذباب، فهي تقتات على الاوساخ، ولا تنزل الا حيث يتكدس العفن.
    يا زميلنا، إياك ثم اياك ان تدافع وتشرعن لواقع متعفن بدعوى الحرص على الاستقرار، والا فلا بد مما مما ليس منه بد.
    والسلام عليك.

  7. يقول السعيد / الجزائر:

    الديمقراطية الصورية .
    ليس مشكلاً أن يستقيل سعيداني من الأمانة العامة لحزب جبهة التحرير.
    لو أن المستقيل أو المُقال كان يملك حرية اتخاذ مثل هذا القرار لكان الأمر عادياً، لكن الواقع أن سعداني أو غيره ، هم مجرد بيادق في يد من يحكمون باسم السلطة يحركونهم كيفما شاؤوا وينهون مهامهم متى ما أرادوا.
    سعداني كانت له مهمة خاصة أداها بنجاح وأسقطوا به التابو المرعب .
    السلطة متحكمة في دواليب اللعبة السياسية وتبادل الأدوار والمهام لأتباعها الموالاة، والمعارضة مترددة وغير حاسمة، قلما تجتمع على امر ثم ما تلبث أن تفترق وتختلف على سقط المتاع . ففقدت بذلك الكثير من وهجها ومن ثقة الشعب بها .
    هذه الأنماط الصورية للعمل الديمقراطي، وهذا المشهد السياسي المترهل يهدد العملية الديمقراطية من أساسها.

  8. يقول benbouali:

    تلكم طريقة «مناضلي» جبهة التحرير، وُجدوا من أجل أن يكونوا أدوات في أيدي الحاكم الحقيقي، يُؤتمرون فيستجيبون.

  9. يقول علي بالهادي الجزائر:

    تحليل خارج ما تحلل لا بوتفليقه ولا غيره سعداني يفقه ان حزب فرنسا ومن بعده الزواف الدوله العميقه قد استطاع أحرار الجيش الوطني الشعبي تفكيكها لا بوتفليقه كما تذكر وسعداني أخرجه هؤلاء الأحرار لأنه خرج عن ما سطروه له ولأنه وجبهة التحرير متورطون في العشريه مثله مثل التوفيق وبما ان اول نوفمبر علي الأبواب وسوف تكون انطلاقه الأحرار ليفهموكم ويفهموا بوتفليقه ان من يمسك بزمام الأمور في الجيش الجزائري من تسري في دماءهم دماء الشهداء بن بوالعيد والطالب العربي وشعباني ولان اول نوفمبر طاهر لا ينطلق لا بالخونه ولا المرتزقه

إشترك في قائمتنا البريدية