■ يصل الرئيس منتجع القنطاوي في ضواحي سوسة، ويدخل على الفور فندق «امبريال مرحبا» ليجد كبار المسؤولين بانتظاره. وبدون تمهيد ولا مقدمات يشرع في التنقل بين المطعم وبعض الردهات، لتفقد النزلاء وملاطفتهم ببعض الكلمات الرقيقة، بعدما عاشوا قبل ساعات لحظات رعب وقلق من الصعب نسيانها بسهولة.
بعد ذلك يخرج الباجي قائد السبسي إلى البهو فيسارع الصحافيون للحاق به والاقتراب منه، أملا في الظفر بتصريح فوري حول واحدة من أخطر الحوادث التي حلت بتونس، لكن حدة الجلبة والضوضاء تجعله ينفجر بسرعة ويصيح بوجه واحد منهم زاجرا «أسكت»، قبل أن يبدأ حديثه الناري بنبرة مليئة بالحزم والصرامة. هل بقي في جعبة السبسي شيء اخر يقوله او يعلنه، بعد كل الذي قيل في مارس الماضي، حين قدم على عجل إلى متحف باردو، في أعقاب العملية التي أودت بحياة اكثر من عشرين سائحا؟ بالقطع ليس الكثير، ولكنه هذه المرة وبشيء من الغموض واللبس، وحتى التلاعب اللغوي المتعمد يتحدث عن «إجراءات قد تكون مؤلمة وحان الوقت لاتخاذها».
أما التفاصيل فيتركها جانبا لاجتماع عاجل، يكرر أن الحكومة هي من ستعقده في الليلة ذاتها. أما من قرر تلك الاجراءات ومتى وكيف وهل أن الحكومة على علم بها ولم تكد تمضي سوى ساعات قليلة على «مجزرة سوسة»، مثلما صارت توصف في وسائل الاعلام؟ فلا أحد يدري أو يملك معلومات دقيقة وواضحة تسمح له بالجزم إن كان ذلك يعني ردا قويا وناجزا للسلطات على أعنف ضربة تلقاها عصب الاقتصاد في تونس، أم على النقيض يعني مؤشرا على وجود حالة من التخبط والاضطراب، وحتى التذبذب والانفراد بالمواقف والقرارات؟ واحدة من المفارقات هنا هي أن صاحبة الفندق، التي كانت تقف على بعد امتار قليلة من الرئيس، وبدت عليها بوضوح ملامح الحيرة والذهول، كانت قد دعت قبل اسابيع قليلة من الهجوم الذي استهدف سياحا أجانب بفندقها، إلى اتخاذ ما وصفتها بـ»الاجراءات الاستثنائية». لقد قالت في مجلس نواب الشعب بوصفها عضوا في البرلمان عن حزب نداء تونس الحاكم، وفي جلسة استماع إلى الحكومة بعد انقضاء المئة يوم الاولى من عمرها، إن «لكل وضع استثنائي تجب اجراءات استثنائية» وواحدة من بين تلك الاجراءات التي اقترحتها هي منح اصحاب الفنادق مهلة لسداد ديونهم لهذا العام، بسبب الصعوبات التي يعرفها القطاع. ولم تغفل ايضا في مداخلتها التي استمرت ست دقائق، عن طرح سؤال مركب ودقيق لم تنتظر جوابه وقالت موجهة خطابها إلى ضيف مجلس نواب الشعب «ما العمل سيدي رئيس الحكومة، والبلاد في حالة افلاس وقد دق ناقوس الخطر وفقدت الثقة من جميع الاطراف؟»، لكن بعد خراب مالطا و»وقوع الفاس في الراس»، كما يقال، جاء الرد الحكومي على لسان اكثر من مسؤول بارز، من ضمنهم وزيرة السياحة، التي خرجت بعد عملية سوسة لتقول بان «كل شيء سيتغير الآن وسيتم اتخاذ اجراءات قوية»، للرد على ما جرى وكان ضمن تلك حزمة «الاجراءات القوية» التي تم اعلانها في وقت لاحق، اعادة جدولة ديون الفنادق وتقديم تسهيلات مصرفية لأصحابها، للحصول على قروض جديدة والتقليل من نسب صنف من الضريبة، كانوا مطالبين بها والغاء رسم المغادرة للوافدين الأجانب.
أما في مجلس الأمن القومي، الذي انعقد بعد مرور يومين على عملية سوسة، فربما تذكر الحاضرون ولو بشكل جانبي وغير مباشر سؤال السياسية وامرأة الاعمال، التي صار فندقها مزارا لكبار الشخصيات التونسية والاجنبية. ولكنهم في كل الاحوال لم يخرجوا بجواب قطعي وواضح عليه، أو هذا على الاقل ما كانت تدل عليه قراراتهم وما تسرب إلى الصحافة من مداولات اجتماعهم رفيع المستوى. فبحسب ما ذكره موقع «الصباح نيوز» فقد استخدم الرئيس صلاحياته في المجلس، بأن رفع «الفيتو» بوجه طلب الحكومة اعلان حالة الطوارئ، التي صارت تسمى وفقا للدستور الجديد بالحالات الاستثنائية، لانه «لم ير موجبا لذلك، ولانه لا وجود لخطر داهم مهدد لكيان الوطن وأمن البلاد واستقلالها، يتعذر معه السير العادي لدواليب الدولة، ولأن الإعلان عن الحالة الاستثنائية من شأنه أن يقضي تماما على الموسم السياحي ويبعث برسالة سلبية للاجانب عموما، والسياح خصوصا، وللمستثمرين الدوليين، في حين أبدت دول صديقة استعدادها لمساعدة تونس على مجابهة الخطر الارهابي». لكن التسريب الذي ذكره الموقع سرعان ما سقط في الماء ليعلن الرئيس، بعد انقضاء اسبوع كامل على عملية سوسة، عن عودة حالة الطوارئ، التي رفعت رسميا في مارس من العام الماضي، ويقول للتونسيين في كلمة بثها التلفزيون الرسمي بعد ظهر السبت الماضي، بأن بلادهم «تواجه خطرا داهما، ولذلك لا بد أن نأخذ ما يلزم من الاحتياطات والاجراءات». لقد بدأ خطابه بالتذكير بان «تونس تمر بظروف صعبة يمكن نعتها بالاستثنائية، وتلك الظروف تستدعي إجراءات استثنائية»، كما قال، وهي الجملة نفسها التي ذكرتها قبل شهر من ذلك صاحبة فندق امبريال مرحبا في جلسة البرلمان. هل كان الامر تواردا عفويا للأفكار، أم استشعارا مسبقا للسلطات بأن الامور تسير نحو الاسوأ، وانه لا بد من تحضير وتهيئة التونسيين لذلك، وهل اتخذ القرار بعودة الطوارئ، بعد عملية الفندق، أم انه كان جاهزا وموضوعا على الرف قبل حصولها؟ لقد قال الباجي في حديث إلى راديو «اوروبا واحد» بانه «لا توجد دولة في العالم بمنأى عن الارهاب، وأن استهداف أي دولة يعني استهداف الجميع»، مما يعني عمليا أن ما حصل في سوسة لم يكن مجرد حادث محلي محدود وعابر يمكن تطويقه ومعالجته بالطرق البوليسية التقليدية، أو حتى بمجرد اعلان حالة الطوارئ، بل مشكلا كونيا صعبا ومعقدا يشترك فيه العالم بأسره وبدون تمييز أو استثناء. وظل يكرر باستمرار بان لا قدرة أو طاقة للبلد على مواجهة الارهاب منفردا، وأن التونسيين غير معتادين على تلك المواجهة، أو حتى مهيئين لخوضها. اذن فما الذي حصل بعد اسبوع كامل من حادثة سوسة حتى يدفعه لمطالبتهم بأن لا يكونوا سلبيين، وأن لا يتركوا قوات الشرطة والجيش تواجه العدو وحيدة بلا سند شعبي واسع؟
حتى نفهم التغير الدراماتيكي في مواقف رئيس صرح بعد ثلاثة ايام من الحادثة المذكورة لاذاعة «اوروبا واحد» بانه، «رغم خوف التونسيين فإن الدولة موجودة وما تزال قائمة»، وبين ما قاله بعدها بايام قليلة في خطاب اعلان الطوارئ، من أن حصول حادثة اخرى مماثلة لحادثة سوسة، وهي فرضية تداولها اكثر من جهة «سيؤدي إلى انهيار الدولة»، علينا أن نلقي نظرة سريعة على المشهد الداخلي، وأيضا على ما يدور في الجوار القريب والبعيد لتونس. والملاحظة الابرز هنا هي أن البلاد تعيش منذ شهور على كف عفريت ولا احد باستطاعته أن يعرف أن كانت حكومة الصيد قادرة بالفعل على مجابهة وضع اقتصادي كارثي، بدون التخلص من امرين مهمين وهما الضغط القوي والمتواصل للنقابات الذي يربك ويعطل عجلة انتاج، هي في الاصل شبه مشلولة، ثم تحرير جانب مهم من الموارد المالية المخفية والمطمورة في اماكن سرية بالداخل والخارج، بفعل توجس رؤوس الاموال من فتح ملفات الفساد والمساءلة. أما في المحيط الاقليمي فلا يزال البرود مخيما على العلاقة مع الجارة الكبرى الجزائر، بعد التوقيع في واشنطن على مذكرة تفاهم شديدة اللبس والغموض بين تونس والولايات المتحدة الامريكية، ولا تملك السلطات من جانب آخر أي تصور دقيق وواضح لشكل ومصير العلاقة مع ليبيا التي وقعت تحت قبضة ميليشيات اسقطت مفهوم الدولة عنها مثلما يردد المسؤولون التونسيون دائما.
تلك العوامل مجتمعة، بالاضافة إلى ما خلفته العملية من غضب وتذمر في اكثر من دولة اوروبية، خصوصا بريطانيا، التي فقدت عددا كبيرا من الرعايا، وجندت بالمقابل ستمئة ضابط للقيام بتحقيق هو الاكبر منذ عشر سنوات، جعلت الباجي يصل إلى قناعة أخيرة، وهي أن الموسم السياحي قد انتهى بالفعل ولم يعد هناك مجال لانقاذه لاعلى المدى القريب ولا حتى ايضا المتوسط. ولاجل ذلك جاءت خطوة اعلان الطوارئ، لتثبيت اقدام حكومة ضعيفة ومهزوزة وايضا وهذا الاهم تهيئة وتحضير التونسيين نفسيا، على الاقل، لتقبل تطورات مرتقبة قد تكون وشيكة في الجارة ليبيا، ومن يدري ربما في الجزائر ايضا في مرحلة موالية. اما كلمة السر التي لم يقلها في الخطاب لكنه رددها في فندق «امبريال مرحبا» حين صاح بوجه الصحافي فهي «اسكت». وهذا هو بيت القصيد فالمطلوب حتى تحقق الطوارئ اهدافها بالكامل سكوت التونسيين لأن في ذلك حشدا لهم في الحرب ضد الارهاب. اما سكوتهم على من وماذا؟ فذلك ما بقي غامضا ومجهولا في قصة الطوارئ التونسية حتى الان.
٭ كاتب وصحافي من تونس
نزار بولحية
لا سكوت.
السياسي يقدم حلولا أو يرحل غير مأسوف عليه.كل دول العالم تعاني من الإرهاب ،هل أعلنت حالة الطوارئ؟؟
ما بقي إلا أن يأمرونا بدفع زكاة الفطر لأصحاب المليارات الذين نهبوا الشعب.
حلول بائسة. متى يفهم هؤلاء أن بداية الحل هو العدل و خدمة الشعب بصدق والضرب بقوة على الأيادي الفاسدة ؟ متى يفهم هؤلاء أن الحل الأمني وحده ينذر بخراب البلد ؟ متى يفهموا أن التضييق على الحريات وخاصة الدينية منها يصب في صالح الغلو ؟
ستبقى الجزائردائما و أبدا هي الشقيقة الكبرى. ستبقى الشقيقة ليبيا هي العمق الإستراتيجي لتونس.
لا يمكن لأي حادث طارئ أن يغيرجغرافيتنا .
تاريخنا مشترك إمتزجت فيه دماء الأشقاء ولا مكان لنا في هذا العالم إلا برص الصفوف .
لقد تخرج الشيوخ ، الثعالبي و إبن باديس وعمر المختار من نفس المدرسة و خدموا نفس القضية و كانت لهم نفس الآمال.