ليس خطف سميرة ورزان ووائل وناظم، وتغييبهم طوال ما ينوف على ثلاث سنوات ونصف، هو ما يعطي للقضية خصوصية تفردها عن غيرها. فوقائع الاعتقال والخطف والتغييب من مألوف السوريين خلال جيلين. قبل الأربعة بنحو شهرين، وبفارق أيام بينهما، اختطف النظام فائق المير وجهاد أسعد محمد، ولا يعرف شيء عنهما منذ ذلك الوقت. وقبل فائق وجهاد بعام كامل اختطف عبد العزيز الخير وإياس عياش وماهر طحان، ومصيرهم غير معلوم أيضاً. وقبلهم اختطف وغيب الطبيب محمد عرب من حلب ومصيره غير معلوم بدوره، والقائمة أطول بكثير مما يوحي ذكر أسماء معروفة.
وليس ما يعطي خطف سميرة ورزان ووائل وناظم خصوصيته هو أنه جرى على يد غير النظام. فداعش متمرسة بجرائم من هذا النوع، وغير معلوم مصير أمثال عبدالله الخليل وفراس الحاج صالح وابراهيم الغازي وباولو دالوليو ومحمد نور مطر واسماعيل الحامض، وكلهم اختطفوا قبل مخطوفي دوما الأربعة. وتشكيل «جيش الإسلام» السلفي، المشتبه به الوحيد بخطف الأربعة، اختطف واغتال كثيرين، وتميز على النطاق السوري ككل بمشروع بناء سلطة على إقليم خاص، لا يتفوق عليه في الوضوح والتماسك والاستعداد الإجرامي غير مشروع داعش.
ما يسبغ خصوصية مميزة على خطف الأربعة يتولد من التقاء ثلاثة أشياء: أولها تمثيل المرأتين والرجلين لنضال السوريين قبل الثورة، وللثورة في جذعها الديمقراطي والوطني. لم تكن المرأتان والرجلان ناشطين أو شخصيات محلية معروفة، خلافاً مثلاً لأبي عدنان فليطاني الذي اغتيل في أيار/مايو 2014، أو للشيخ خالد طفّور الذي تعرض لمحاولة اغتيال في آذار/مارس 2016، اعترف منفذها لاحقاً بأنه مكلف بالجريمة من قبل قيادة «جيش الإسلام». فليطاني وطفور من سكان دوما، ولهما فيها أدوار اجتماعية وسياسية، وهما مندرجان بصورة ما في استقطابات اجتماعية وإيديولوجية في المدينة، وفي نطاق أوسع. أي أن هوية الرجلين تشمل عناصر تتضمن تمايزاً عن «جيش الإسلام»، إن لم يكن صراعاً. ليس في هوية سميرة ورزان ووائل وناظم أي عنصر من هذا النوع. فعدا أنهم وافدون، مطلوبون من قبل النظام ولاجئون بكل معنى الكلمة في دوما، ولم تكن انقضت ثمانية أشهر على وفود أقدمهم إلى دوما وقت الاختطاف، رزان، فإن عملهم يجري في نطاق عام، وطني، ولا ينازع أياً كان على سلطة أو نفوذ خاصين. الصراع المعرّف للأربعة هو الصراع ضد النظام. بالعكس، «جيش الإسلام» هو من عرف نفسه بالتقابل مع الأربعة حين اختطفهم، وهو من وضع نفسه في مواجهة الجذع الديمقراطي والوطني للثورة.
العنصر الثاني لخصوصية القضية هو الإنكار المستمر النشط من طرف «جيش الإسلام» لارتكاب الجريمة، رغم توافر قرائن بالغة القوة تقطع بمسؤوليته عنها. الجريمة بحد ذاتها كبيرة، حقوقياً وسياسياً وأخلاقياً، والإنكار يضفي عليها طابعاً ملحمياً غنياً بالرمزية، يتعزز بواقع ما نالته القضية من اهتمام واسع مستمر، سورياً ودولياً، بفضل الدور العام المعروف مسبقاً للأربعة، وشهرة رزان، ومثابرة الأهالي على تنشيط طرح القضية. هذا يرشح خطف سميرة ورزان ووائل وناظم لأن يكون أشهر شيء قام به «جيش الإسلام»، فلا يدخل التاريخ إلا بكونه المجموعة السلفية التي خطفت سميرة ورزان ووائل وناظم. القضية باقية بطبيعة الحال، وسيرتها ومعناها ودلالاتها السياسية الأخلاقية، والفكرية، تكبر كل يوم، والسجل سينفتح بالتفاصيل والتواريخ والأسماء، اليوم أو غداً.
العنصر الثالث الذي يمنح القضية خصوصية هو الهوية الدينية للجناة، أو الارتباط بين الدين والجريمة في تكوينهم، مما توفر سوريا مسرحاً هائلاً له، وإن كان خطف سميرة ورزان ووائل وناظم من أبرز وقائعه. هذا الارتباط يصلح ركيزة تاريخية صلبة لقطيعة أو تحول تاريخي كبير على مستوى الشأن الديني السياسي الأخلاقي. لدينا هنا جريمة مميزة جداً، تستمد تميزها من تميز هوية من وقعت عليهم: امرأتان معروفتان ورجلان معروفان، ومن تاريخهم: معارضون عريقون للنظام، ومن تكوينهم الفكري: ديمقراطيون علمانيون؛ وهي بعد جريمة ارتكبها تشكيل ديني يماهي نفسه بالإسلام (مثل داعش)، وهذا في سياق سعيه للاستئثار بالسلطة في منطقة خرجت من سيطرة نظام الطغيان بفعل ثورة كان للمخطوفين الأربعة دور فيها أبرز من الخاطفين. ثم أن هذا في منطقة محاصرة من قبل النظام، وتتعرض لقصف متواتر من طرفه. الجماعة يظهرون محدودية مدهشة حتى في خدمة هدفهم العدواني: السلطة المطلقة، فيحبط جشعهم وتعجلهم مسعاهم، ويسوقون قضيتهم إلى فشل متسارع. يفشلون، مثل داعش ومثلما ستفشل «القاعدة»، لأن المسعى الشرير ذاته يحتاج إلى أفق أوسع، وتجنب تكثير الخصوم والأعداء، وليس إلى فريق اغتيالات سري مجهز بفتاوى تريح ضمير القتلة.
وهكذا فإنه فوق الإجرام، وتسخير الدين للمطامح الأشد أنانية وابتذالاً، السياسة فاشلة كسياسة. لا يقتصر الأمر على أن للتشكيل المتسلط (مع إخوته في «المنهج») إسهام كبير في تقويض الثورة السورية، وفي تحطيم مجتمع الغوطة الشرقية ودوما بالذات، بل يبدو أنه يحقق خطوات كبيرة إلى الأمام في تحطيم ذاته. ولعله لن يذكر بعد حين بغير هذا الفشل الانتحاري، وبموقع اختطاف سميرة ورزان ووائل وناظم في مسلسل الفشل.
وإذا صح ما يتناهى إلى أسماعنا بين وقت وآخر من أن «جيش الإسلام» سلم الأربعة للنظام ضمن صفقة تبادل معتقلين، فسنكون هنا حيال مثال تاريخي لا ينسى للنذالة، لن يقتصر أثره الأخلاقي على «جيش الإسلام»، بل يشمل التيار الإسلامي ككل، ويتجسد فيه تحالف الغيلان ضد المناضلين الديمقراطيين.
يمكن الكلام على جريمة مؤسسة بخصوص خطف سميرة ورزان ووائل وناظم لأنها، عبر الصلة الوثيقة لخطف الأربعة بتحطيم الثورة السورية، وعبر ربط الجريمة بالدين، حدث تاريخي كبير، سيدخل في تاريخ الثورة السورية وكفاح السوريين المأساوي والمخذول. وما في الحدث من غنى بالدروس السياسية والفكرية والأخلاقية يؤهله ليكون من الركائز القوية لتيار فكري وسياسي وأخلاقي، يستأنف كفاحنا التحرري خلال جيلين.
وقت توافدت رزان ثم سميرة، ثم وائل وناظم، إلى الغوطة الشرقية، كان ذلك تعبيراً عن أن المناضلين الديمقراطيين ليسوا غرباء في أي مكان في سوريا. اختطافهم كان العلامة الأبرز في نفي هذا التيار، والخطوة الأكبر في مسار تغريبه في كل مكان في سوريا، أي بالضبط استئناف عمل الدولة الأسدية. قضية سميرة ورزان ووائل وناظم تصلح لذلك بالذات رمزاً لاستعادة القضية السورية كقضية ديمقراطية وتحررية. والعمل من أجل تحرير سميرة ورزان ووائل وناظم هو، لذلك، عمل من أجل استرجاع قضيتنا الديمقراطية والتحررية من أيدي تحالف الغيلان، الطغاة والغلاة والغزاة.
ياسين الحاج صالح
مع أنني أتفق معك تماما أخي ياسين الحاج صالح في هذا المقال ومع شكري الجزيل لك. إلا أنني أشعر أن هناك تشديد على تشبيه جيش الإسلام بداعش. أنا بالتأكيد لا أتفق لا مع جيش الإسلام ولا مع غيره من القوى أو التنظيمات السلفية التي أرادت استغلال ثورة الشعب السوري لفرض برنامج تسلطي لا يختلف كثيراً عن البرنامج التسلطي للنظام. لكنني أرى أن جيش الإسلام أقرب إلى حزب الله حيث أن كلاهما يرتبط بقوة إقليمية هدفها الأساسي السيطرة والتسلط على المنطقة باستغلال مفاهيم الدين الإسلامي على طريقتها الخاصة وبهذا هي تتشابه مع داعش طبعاً لكن النقطة الأساسية هي هذا الارتباط بقوى كبيرة وكلاهما أي جيش الإسلام وحزب الله ساهم بشكل مباشر وبهذه الطريقة أو تلك في ضرب الثورة كما داعش أيضاً وكان الرابح الأكبر هو أنظمة الاستبداد والقمع والخاسر الأكبر هو القوى الوطنية التي كانت تقود الثورة في الطريف الصحيح وبذلك خسرت الثورة ووصلنا إلى هذا الحالة الصعبة والمأساوية ومع ذلك أنا لست فاقداً للأمل وسأبقى مع هذه الثورة بأهدافها الأساسية التي قامت من أجلها.