يشير الطاهر لبيب، في سياق شهادته حول مشهد العلوم الاجتماعية في المنطقة العربية، إلى أن هذا المشهد قاتم، ثقيل الظل، إذا قُرئ ظُنَّ أن مجتمعاتنا ليست إلا نسيج محن وشقاء، لا وجود فيها لناس يبدعون ويحبون ويفرحون ويأملون، أو يرف لهم وجدان لجمال الكون. لكأن علم الاجتماع العربي كآبة أو لا يكون. فصورة المرأة مثلاً في بحوثنا العربية، لا تكون، إلا مضطهدة، معنّفة، محرومة، معطّلة، مطلّقة. وصورة الشباب غالباً ما تكون مائعة، تنهش «قيمنا الخالدة». ويعزو لبيب سبب هذا الكآبة إلى نشأة علم الاجتماع العربي، إذ غالباً ما ربط بين المعرفة السوسيولوجية وخدمة الدولة أو الأمة، وبذلك ارتبط نشوء عالم الاجتماع العربي بكونه «حلال مشاكل»، يُطلَب منه الإفتاء في كل شيء وحل المشكلات التقنية التي تعاني منها الدولة عوض انتقادها.
حالة غياب شهوة الكتابة السوسيولوجية، أخذ يشعر بها سوسيولوجي الغزل العربي منذ سنوات عديدة، في ظل سطوة المنهج التقليدي وطقوسه، على حساب «جمالية العلوم الاجتماعية» على حد تعبير لبيب، التي يعني بها الانتقال من المادة الخام إلى التأويل، فإلى الخطاب على الخطاب، وبالتالي اتساع المجال للمجاز، واتساع العبارة للكتابة. لكن هذه الظروف لم تتغير كثيراً على ما يظهر، مع انطلاقة موجات الانتفاضات العربية، التي أخذت على حين غرة أغلب الباحثين المتخصصين في العلوم الاجتماعية. صحيح أن هذه المفاجأة شملت كافة الحقول البحثية الأخرى، بيد أن هذا الذهول/الاحراج كان مضاعفاً لدى السوسيولوجيين. فهم من ناحية كانوا شهوداً على احتجاجات اجتماعية واسعة لم تعهدها بلدانهم منذ عقود طويلة، ومن ناحية أخرى كانت شبكات المحتجين وواقعهم الاجتماعي لا تتوافق مع العدة السوسيولوجية التقليدية، المتهالكة والمليئة بالكليشيهات لعدد من هؤلاء الباحثين. إذ اندفع الملايين من الناس، صغاراً وكباراً، إلى الشوارع مطالبين بحقوقهم الدستورية والحريات المدنية. وبالتالي بقي السؤال حول من هم هؤلاء الناس؟ وما هي اللغة التي يتحدثونها؟ والأغاني التي يسمعونها؟ والحيز الحضري الذي عاشوا فيه؟ دون أي إجابات واضحة من قبل غالبية سوسيولوجي المشرق العربي، خاصة أن الكثير منهم بقوا في السنوات السابقة للثورة بعيدين عن محاولة الاشتباك مع المقاربات الجديدة حول «الاقتصاد المكاني» الجديد، والدراسات الأثنوغرافية حول الحياة اليومية في مدن المشرق العربي. وكمثال يمكن أن نقارن هنا بين الدراسات التي أعدها عدد من السوسيولوجيين المصريين المحليين، والدراسات التي أنجزها بعض الباحثين الغربيين، أو حتى المحليين ممن درسوا في الجامعات الغربية (منى أباظة، سلوى إسماعيل ) في مدرسة الدراسات الحضرية في الجامعة الأمريكية في القاهرة، أو غيرها من الجامعات الغربية. صحيح أنه لا يمكن المقارنة بين الإمكانيات المتوافرة في كلتا التجربتين، مع ذلك فإن ما يُلحظ هو أن العديد من الباحثين السوسيولوجيين المحليين ظلوا بعيدين حتى على مستوى الاطلاع على هذه الدراسات. كما يمكن أن نقارن في السياق ذاته، بين المقاربة التقليدية للاحتجاجات التي شهدتها المدن المصرية في السنوات التي سبقت أحداث ميدان التحرير، والتي ركزت على قراءة بعض الحركات الاحتجاجية، مثل حركة كفاية، وبين مفهوم «الزحف الهادئ للمعتاد» الذي طرحه آصف بيات في سياق دراسته لمدينتي القاهرة وطهران، الذي وسع من خلاله مفهوم الاحتجاج اليومي ليشمل حياة الناس اليومية، عوض قصره على حركات أو جماعات مهنية معينة. وعلى كل الأحوال، دفع العجز السابق العديد من الباحثين السوسيولوجيين العرب إلى محاولة استدراك هذه الهوة، من خلال تقديم فهم سوسيولوجي للانتفاضات العربية، مع ذلك فإن ما يلحظ في هذا الشأن أن العديد من الفرضيات التي تبناها هؤلاء الباحثون، لم تخرج عما هو دارج من تفسيرات باتت كلاسيكية في شرح توسع مدى الانتفاضات.
ويمكن أن نشير هنا إلى دراسة السوسيولوجي المصري خالد كاظم أبو دوح «سوسيولوجيا الثورات العربية والأسئلة الجديدة» التي يرى فيها أن من وجه الثورات العربية هم «مجموعات من شباب الطبقة الوسطى الجديدة في المجتمع العربي، شباب يحوز أرصدة عالية من رأس المال الثقافي، وأدوات الميديا الاجتماعية الجديدة (يوتيوب، تويتر، وفيسبوك، والمدونات)، مكنته هذه الأرصدة من استخدام هذه الوسائل والأدوات في التعبئة الثورية». في حين يبين كل من ستيفن هايدمان وراينادو ليندرز في دراستهما «الحشد الشعبي في سوريا: الفرصة والتهديد، وشبكات المنتفضين الاجتماعيين» – التي حاولا من خلالها دراسة أسباب وأشكال الحشد والفعل الجمعي في مدينة درعا، التي انطلقت منها الانتفاضة السورية- عدم كفاية التفسيرات السابقة (الشباب وفيسبوك) في تفسير تعبئة الناشطين وانتشار موجة الانتفاضات العربية. إذ تكشف بدايات الحراك في درعا أن توسع شبكات المنتفضين لا تعود إلى دور الميديا الجديدة، بل يعود الفضل في الحشد وجمع المنتفضين إلى دور الشبكات الاجتماعية التقليدية (العشائرية)، وشبكات العمالة المهاجرة في الخليج أو لبنان، والارتباطات العابرة للحدود، وانتشار الممارسات التي توصف عادة «بالإجرامية». ولذلك يبدو لنا من خلال المقارنة بين المقاربتين السابقتين أن السوسيولوجي العربي بقي يمارس وظيفته من دون أن يُشعرنا بأي متعة تذكر على مستوى إعادة التفكير بالاجتماعي بوصفه مفعما بالحياة والتأويلات الجديدة، إذ بقيت دراساته تمتثل لما هو سائد من شروط الانتساب وطقوسه، والإخلاص إلى المناهج التقليدية، هذا الأمر ساهم في أن يكون العديد من الكتابات السوسيولوجية العربية (خاصة المشرقية) بعيدة على مستوى تثوير فهم الواقع المحلي، والاشتباك مع النظريات الجديدة في حقل العلوم الاجتماعية، لا بل ومملة في مرات كثيرة. وربما لفهم أدق لهذا الاضطراب الذي يعانيه حقل العلوم الاجتماعية في المنطقة العربية، أو لشكل هذا الاشتباك وحجمه مع التحيزات المعرفية الجديدة في حقل العلوم الاجتماعية، يمكن الرجوع إلى كتاب «البحث العربي ومجتمع المعرفة: رؤية نقدية جديدة» والذي أعده كل من ساري حنفي (أستاذ علم الاجتـــــماع في الجامعة الأمريكية، بيروت)، وريغاس أرفانيتس (باحث في المركز الفرنسي من أجل التطوير)، الذي سعى إلى تحديد حجم إنتاج العلوم الاجتماعية ومكانها عبر معاينة دراسات حالة ملموسة.
من بين الحالات التي درسها الباحثان، حالة مجلة «إضافات» التي تصدر عن الجمعية العربية للعلوم الاجتماعية، بالتعاون مع مركز دراسات الوحدة العربية. إذ يرى الباحثان أن دراسة أوضاع المجلات توفر مرصداً ممتازاً عن حالة الجماعة العلمية، ولذلك فقد ارتأيا أن يقوما بعمل تقييم لكل أعداد مجلة «إضافات» التي صدرت منذ عام 2008 حتى عام 2012، بالنظر إلى بعض المتغيرات المتعلقة بالكتّاب وطبيعة المواضيع المتداولة والمراجع التي استخدمت في المقالات المنشورة.
من بين العلامات السوسيولوجية التي تظهرها نتائج التحليل، أن هناك ثلاثة أقطار مغاربية كان لها الحظ الأوفر في النشر، وهي تونس (18 في المئة) والمغرب (20 في المئة) والجزائر (15 في المئة). ويمكن أن يعزى هذا النشاط المغاربي إلى عاملين: العامل الأول هو جودة التعليم الجامعي في العلوم الاجتماعية في هذه البلدان، مقارنة بالجامعات الوطنية في المشرق. والعامل الثاني هو الاستعمال الأكـــثر توازناً للمراجع العربية والأجنبية. وأما فيما يتعلق بالتعاون العلمي بين الباحثين في كتابة المقالات، فقد أظهرت الدراسة قلة هذه المشاركة، إذ أن هناك 94 في المئة من المقالات مكتوبة من قبل مؤلف واحد.
وحول طبيعة البحوث التي بنيت عليها المقالات، يلاحظ الباحثان أن هناك فقط 29 في المئة من المقالات مبنية على بحوث ميدانية، بينما كان ما يماثلها مقالات مبنية على قراءات (30 في المئة)، والباقي (40 في المئة) هي مقالات نقاشية، أي أن 70 في المئة من هذه المقالات لا يقوم على قراءات أثنوغرافية مباشرة.
وفي دراسة أخرى حول «البحوث الاجتماعية واللغة: هل هناك إزاحة للغة العربية؟» يبين الباحثان من خلال استبيان استهدف 165 شخصاً، نصفهم تقريباً حاصل على شهادة الماجستير، والنصف الآخر حائز شهادة الدكتوراه، أن الطالب الذي أتقن اللغة الأجنبية من خلال التعليم المزدوج بالعربية والأجنبية في المرحلتين، الثانوية أو الجامعية، يستطيع أن يستخدم المراجع العلمية بشكل أكثر توازناً من أولئك الذين تعلموا بلغة واحدة. إذ تبين مثلاً من خلال التحقق من استخدام المراجع في الأطروحات والمذكرات لبعض المستجوبين، أن البعض منهم لم يكونوا قادرين على فهم المراجع الأجنبية المستخدمة، ما يعني عدم استقبال للأدبيات والمراجع العلمية بشكل جيد.
٭ كاتب سوري
محمد تركي الربيعو