سوق «الشأن الإيراني»

منذ بزوغ نجم إيران كأحد اللاعبين الرئيسيين في المنطقة، وتجاوزها لمساحتها وحدودها لما يصل إلى ما هو أبعد، منذ ذلك العهد الذي يمكن التأريخ له بحرب الخليج الأولى، ازدهر في العالم العربي سوق المتناولين للشأن الإيراني، فظهرت الكتابات والإسهامات، التي حاولت إلقاء الضوء على ما وصف بأنه من أهم تحديات القرن.
هذه «البضاعة» التي وجدت رواجاً كبيراً، كان الكثير منها للأسف مغشوشاً، لكن ذلك لم يمنع استهلاكها أو الترويج لها، لما تحمله من رسائل، ربما لأنه لم تكن هناك رؤى منافسة أو بديل منهجي. البضاعة المغشوشة تلك لم يسلم منها الاتجاهان المتناقضان، الاتجاه الذي يتعامل مع إيران كتحدٍ جاد، والآخر الذي يتعامل معها كقبلة للممانعة.
ما يشغلني في هذا المقال ليس الاتجاه الثاني، الذي وجد رواجاً إبان الدعاية التي صاحبت حرب 2006 في لبنان، وما تم الترويج له آنذاك من انتصار لميليشيات المقاومة «الشيعية» المدعومة من طهران. ذلك الاتجاه الذي انحسر إثر تدخل هذه «المقاومة» في سوريا، ومشاركتها في نصرة النظام، وفي الحرب ضد الشعب هناك. وإنما سنتعرض هنا لبعض الإشكالات المرتبطة بالاتجاه الأول، المندد بالمشروع الإيراني، وهي إشكالات متنوعة بحسب حالة أصحابها. من هؤلاء مثلاً من تسيطر عليه فكرة وحيدة، وهي أن إيران إنما تستهدف عقيدة أهل السنة، وأنها تريد نشر التشيّع وتخريب الدين الصحيح. هذا الرأي لا يخلو من صحة بالتأكيد، ولكن الاكتفاء بترديد مثل هذه العبارات الفضفاضة يقود في نهاية المطاف لتسطيح الصراع. أصحاب هذه النظرة وتهرباً من مناقشات واقع القرن الواحد والعشرين، الذي هو واقع معقّد ومربك ومتشابك، يلجأون إلى التنقيب في كتب التاريخ، واستعادة وقائع الدولة الصفوية، من أجل إثبات الصراع التاريخي بين الشيعة وعموم أهل السنة.
استلهام التاريخ مفيد، ولكن المشكلة تكمن في فقدان القدرة على الربط بين التاريخ وما هو قائم بين يدي الناس، ولذلك فإن أصحاب هذا الطرح يعجزون في كثير من الأحيان عن تبيان السبب الذي يجعل إيران تدعم حركات المقاومة ضد الكيان الصهيوني، وهنا سوف تشمل المقاومة حزب الله ولكن أيضاً، وإن كان بدرجة أقل، حركة حماس السنية.
لن يفسر طرح الهوس «الصفوي» بملاحقة أهل السنة، علاقة إيران بتركيا الدولة السنية الناهضة، وما تحمله في طياتها من وشائج اقتصادية، رغم الاختلاف حول بعض ملفات المنطقة، كما لن تفسر الكثير من تحركات طهران التي ظلت لعقود مناهضة للغرب، عكس بعض دول «السنة» التي كانت، وما تزال، تفتخر بكونها من حلفائه. بالمقابل، نجد أن هناك طرحاً آخر مبنيا على نقد تلك المدرسة الأولى وهو طرح يدّعي المهنية والروح الأكاديمية، ويقوده في كثير من الحالات بعض الذين درسوا أو ترددوا لفترات طويلة على إيران. خلاصة هذا الطرح نجدها في مخرجات بعض مراكز البحوث والدراسات، التي يمكن وصفها بالخالية من الدسم، لأنها رغم ما تقدمه في كثير من الأحيان من أطر موضوعية ومنهجية، إلا أنها تتعمد، مدعية التسامي عما هو طائفي، أن تتجاهل البعد العقدي للتحركات الإيرانية، فتكتفي بالتركيز على الجوانب السياسية، وكأنها تتناول بلداً علمانياً أو ملحداً لا مكان للعقائد فيه. من المؤسف انتشار مثل هؤلاء الباحثين في بعض المراكز التي وجدت أساساً لمجابهة الخطر الإيراني، فإذا بهم يسعون لإقناعنا بأن «الجمهورية الإسلامية» ليست سوى مجرد دولة «عادية» تبحث عما يدعم اقتصادها ويعزز أمنها.
المدرستان تقدمان رؤية مضللة وغير واقعية وتخدمان بشكل غير مباشر السياسة الإيرانية في المنطقة، فالأولى المرتكزة بشكل وحيد على صراع السنة والشيعة، والتي تلقى قبولاً ورواجاً كبيراً عند شرائح اجتماعية واسعة، يتم الاستدلال بها من قبل طهران على ضيق أفق العرب، وهوسهم الطائفي غير المبرر. أما الثانية والتي هي على النقيض تتحدث عن تنافس سياسي مجرد مع السلطة التوسعية في إيران، فتجد تشجيعاً من قبل الأخيرة رغم ما تقدمه من نقد لاذع أحياناً لسياستها، بسبب أنه اتجاه يبدو قابلاً للنقاش والالتقاء عند نقطة المنتصف، طالما تم تحييد العامل الديني. هذا هو السبب في أن إيران تفضل دعوة أمثال هؤلاء لحلقاتها البحثية وملتقياتها الحوارية، كما ترحب بهم إذا كانوا يريدون تغطية أحداث مهمة كالانتخابات الإيرانية مثلاً، وحينها سيذهب هؤلاء وسيحدثوننا عن «صراع الأجنحة» وعن «العرس الديمقراطي» في إيران كما سنرى تغطيتهم السطحية لفرحة الشارع بفوز «الإصلاحي» روحاني، وربما يحدث أن يلتقطوا صوراً في ذلك الشارع مع العامة فرحاً بفوز «رمز الاعتدال».
إلا أن هذا ليس كل شيء، فهناك ضمن هذا السوق الكبير، دجالون يتم تقديمهم كخبراء ومتخصصين في الشأن الإيراني، وهم في حقيقتهم مجرد ديكور يعمل على إكمال المشهد، بإضفاء صبغة تبدو وكأنها علمية عليه، في حين أن كل ما يقولون ليس سوى دعاية. دعايات عن ضعف إيران وترنحها الاقتصادي، ومشكلاتها الداخلية المعقدة، رغم أن كل من عنده نظر لن يستطيع منع نفسه من التساؤل البسيط: إيران بهذا الضعف قد احتفلت بوضع أربع عواصم عربية في جيبها، فما بالك لو كانت في أحسن حالاتها؟
من أهم مشكلات هذا الدجل الخلط بين التحليل والخبر، فلا شك أنه يجب ألا يحجر على رأي أي شخص، وعلى رؤيته وتحليله مهما بدا للآخرين غير مقنع، إلا أن الأخبار شيء آخر، فهي لا تقبل أن تؤخذ من أكثر من زاوية ولا يمكن لحدث أن يكون خبراً إلا إذا كان موثقاً.
من أمثلة ذلك الخلط الخبر «العاجل» الذي تناقلته عدة منابر إخبارية تابعة لمحور «الاعتدال» عن تدخل الحرس الثوري الإيراني لحماية الأمير القطري، إثر الأزمة مع دول الخليج المجاورة. كان من الواضح أن مصدر الخبر هو أحد «الدجالين» الذين أرادوا ركوب الموجة التي كانت تروّج لعلاقة «خاصة» بين الدوحة وطهران. انطلاقاً من هذا لم يستبعد «المصدر» تدخلاً إيرانياً مباشراً، ووصولاً للحرس الثوري إلى قصور الإمارة، وهو ما تم تناقله ليس على كونه تخميناً أو مجرد تحليل، بل كخبر عاجل في سياق مجموعة من الأخبار المفبركة الهادفة للتحشييد والتهييج.
مثال آخر على فوضى الخلط هذه ما تعلق بتحليل العمل الإرهابي الذي استهدف العاصمة الإيرانية مؤخراً حيث تجاهل كثيرون إعلان تنظيم «الدولة» مسؤوليته، مركزين على فرضية وحيدة، وهي أن هذا العمل معد من قبل إيران. مشكلة هذه الفرضية أنها تمنع مناقشة الأسباب الموضوعية التي جعلت «التنظيم» يتجه لاستهداف العمق الإيراني، في سابقة هي الأولى من نوعها. مع تجاهل ذلك تتناسل نظريات المؤامرة المترابطة والمتناقضة، التي تربط إيران بالتنظيم، وتكاد تجزم أنها قد سهلت له هذه الضربة للاستفادة منها إعلامياً. إيران بالنسبة للبعض من الضخامة بحيث يستبعدون حدوث أمر داخل أو خارج حدودها، دون تخطيطها وعلمها المسبق.
من الحقائق الموضوعية على كل حال أن الحرس الثوري قد يكون المستفيد الأكبر من هذا الحادث، وبالنظر إلى دخول هذه المؤسسة في منافسة لإثبات الأهمية مع أجنحة أخرى نافذة داخل السلطة الإيرانية، يبدو ذلك أمراً مهماً. هذه المنافسة يدلل عليها تصريح أخير لعلي لاريجاني، رئيس البرلمان، عن اختلاف وجهات النظر حول دور الحرس الثوري.
ربما يكون الحرس هو المستفيد الأكبر من هذه الأحداث التي جعلته يرد على المشككين بأهمية الدور الذي يلعبه في المنطقة، خاصة تجاه تسليح وتجنيد «الحلفاء» في جزيرة العرب. أو لعلها تكون كما وصفها البعض مجرد مسرحية لإثبات قدرة الحرس الثوري، الذي وصل بسرعة إلى مكان الحادث وقتل الإرهابيين، وهو ما سيمنح المؤسسة حرية أكبر في التحرك والتسلط، دون أن تجد معارضة، خاصة من جهة البرلمانيين الذين يشعرون تجاهها ببعض الغيرة. كل هذا سيحدث حتى إن لم يكن هناك تنسيق فعلي مع التنظيم الذي اعتدنا على قيامه بتحركات متهورة وغير مدروسة. لم يخطر ببال المنفذين مثلاً أنه قد ينتج عن عملهم هذا مزيد من الإجراءات القمعية تجاه المناطق السنية التي تعاني مسبقاً من التمييز.
كل ذلك يبقى في دائرة الاحتمال. الشيء الوحيد المؤكد هو استفادة إيران من ذلك الحدث وتوظيفه لتبرير وجودها في كل من سوريا والعراق، باعتبارها قد صارت معنية بخطر الإرهاب وليست مجرد طرف ثالث. المهم هو أن يبقى الاحتمال احتمالاً والتحليل تحليلاً والخبر خبراً، وياله من أمر صعب في زمن الاستقطاب الحاد الذي نعيش فيه!
كاتب سوداني

سوق «الشأن الإيراني»

د. مدى الفاتح

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول فوزي حساينية -ولاية قالمة - الجزائر-:

    إيران تتقدم بإستمرار لأنها تتصرف كدولة تحترم تاريخها وتؤمن بقدراتها ومستقبل شعبها، الإيرانيون لهم مشروع حضاري وهم عاكفون على تنفيذه بكل صبر وإصرار وذكاء، العرب لم يتوصلوا بعد إلى مشروعهم الحضاري لذلك يتصرفون عادة ضد مصالحهم الوطنية والقومية كما يحدث الآن في الحصار المفروض على قطر من قبل شقيقاتها في مجلس التعاون الخليجي….إيران بغض النظر عن كل ما يمكن أن يكون بينها وبين الدول العربية من خلافات حقيقية أو مفتعلة، جزء من المنطقة ، وكما يقول المفكر السوداني الراحل محمد أبو القاسم حاج حمد فإن إيران أو فارس حتى قبل ظهور الإسلام كانت حارسة للشرق في مواجهة مختلف الهجمات والغزوات الآتية من الغرب…..إن غياب مشروع حضاري عربي يجعل من مختلف الدول العربية عرضة لكل التقلبات والعجز عن التصرف والمبادرة حتى فيما يخص قضايانا المصيرية، ومن الظلم أن نطالب إيران بأن تقلد العرب في عجزهم وضياعهم وإيمانهم بالإله الأمريكي والجبروت الغربي، للإيرانيين ماض يحترمونه ، ومستقبل يعملون من أجله……أتساءل أحيانا لماذا لا تكون علاقات جميع دول الخليج العربي مع إيران مثلما هو الحال مع سلطنة عمان؟ لماذا لايكون التبادل التجاري بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإسلامية في إيران مثل التبادل التجاري الموجود بين إيران والإمارات العربية المتحدة ؟

إشترك في قائمتنا البريدية