من الكتابات التي أعتبرها مهمة للغاية، وتضيء كثيرا من العوالم الغامضة، تلك التي تتحدث عن بيئات غير معروفة، أو تأتي في شكل سيرة ممتدة لشخصية تعيش في مكان ما، وتجتذب مفردات البيئة من حولها، وكذا نلم بما كنا نجهله، من دون أن تضطرب الشخصية أو يضطرب حكيها، أو تتوه القصة عن الذهن.
انطلاقا من ذلك، كانت معظم روايات الكاتب الليبي إبراهيم الكوني عن الصحراء مهمة، رواية مثل «سلطانات الرمل» للسورية لينا هويان الحسن، مهمة، روايات إبراهيم إسحق عن منطقة دارفور في غرب السودان، مهمة، وروايات الكتاب الأجانب عما شاهدوه، وعرفوه في الصحارى، والبيئات العربية المختلفة، مهمة جدا، لأنها توثق عالمنا بنظرات مختلفة تماما.
والآن ومنذ وقت قريب، نشرت الكاتبة الفلسطينية التي تقيم في مونتريال في كندا، نوال حلاوة، روايتها الملحمية «الست زبيدة»، لتنضم إلى روايات المعرفة تلك، ولتأتي في شكل سيرة، أو مجموعة سير، توثق للأسى الفلسطيني قبل النكبة وبعدها، بخلفية ناعمة، هي خلفية الست زبيدة، بطلة الحكاية الأم، وحاملة حبل الحكي، تقطعه حينا وتعيد ترتيقه، ونظل نتتبع ما يحدث.
منذ البداية، ومنذ الصفحات الأولى للرواية، أحسست بأنني أمام سيرة روائية، ربما هي سيرة المؤلفة نفسها، وربما هي سيرة متخيلة لشخصية عاشت في الزمن والظروف نفسها، ولن تكتب سيرتها إلا بهذه الطريقة.
كانت يافا هي المكان الأول، مكان المولد، مكان الشهقة الأولى والدهشة الأولى، الذي لا بد سنتعرف إليه جيدا، عن طريق تلك البطلة الصغيرة، التي لم تسم زبيدة أو الست زبيدة، بلا هدف ولكن نتيجة رؤيا حلمية من والدها التاجر، ولإعجابه الشديد بزبيدة زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد، وكيف شهد زفافها إليه في الحلم، واضطرب من فخامته واستيقظ بعد ذلك على أنين زوجته التي كانت في لحظة المخاض، حيث ولدت زبيدة في ذلك اليوم.
إنها فقرة من مصادفات الحكاية، أن تشاهد رؤيا حلمية لشخصية ما، وتولد في اللحظة نفسها أو في اليوم نفسه، أنثى ستحمل اسم تلك الشخصية كما كان يتمنى والدها، لكنها مصادفة مشروعة بلا شك، ولطالما كانت في الروايات مصادفات كثيرة، أشد غرابة.
لقد اعتمدت المؤلفة اسم زبيدة الذي يبدو لي غير مألوف في منطقتها، وربما أيضا لم يكن عصريا، في زمن ولادة الست زبيدة، أو الساردة. ولا صيحة من صيحات الموضة كما يحدث لبعض الأسماء حين تقفز فجأة، من ركود طويل لتصبح موضة يسميها الجميع، كما يحدث في هذه الأيام بعودة اسماء مثل آدم وحواء إلى السيطرة على أسماء المواليد الجدد. لذلك أسهبت المؤلفة كثيرا وأفردت صفحات عدة، لتعطي الاسم الغريب مبررا كافيا، حتى يمر إلى أذهان القراء، ولم يكن ذلك مطلوبا في رأيي، فقد مر الاسم سلسلا وكان مناسبا جدا للشخصية المرسومة ويشبهها كثيرا، ولطالما ذكرت في كتابات لي من قبل، أنني أؤمن بأن الأسماء تشبه الشخصيات في الكتابات الحقيقية والمدهشة، ورواية السيدة زبيدة منها.
قلت إننا عن طريق تلك البطلة الطفلة، التي ولدت كأول فتاة وسط صبيان البيت، استطعنا تتبع عشرات الحكايات، بعضها يرويها الأب التاجر، الذي يسافر كثيرا ركضا وراء تجارته، وكان يصطحب معه الراوية دائما، بوصفها جالبة الحظ عنده، وأيضا يستشيرها في بعض الصفقات ودائما ما يكسب بمشورتها. بعض الحكايات ترويها الأم التي عكفت على الإنجاب بغزارة، وتوزيع الأمومة على صغارها باجتهاد ودأب، من دون تدخل في عمل الأب أو حتى مجادلته في أي شأن من شؤون الأسرة إلا نادرا، حين كانت لا ترضى اصطحابه لطفلته في أسفاره المضنية من أجل التجارة. العمة التي أقامت مع الأسرة فترة، لها حكايتها المؤسفة التي ترويها باستمرار مواز لحزنها على ولد مات من سقطة فرس في زمن بعيد. الجدة تروي ما استطاعت لمه من التاريخ، والعم يروي، وكذا معظم من تلتقيهم في النص، يروون، وتنفلت الحكاية من لسان للسان آخر، يروي للبطلة، وهي توزع الأدوار وترتب الحكايات.
الذي حدث وكان جيدا للغاية، أن تقاليد فلسطين القديمة، بكل ما فيها من جمال أو غير ذلك، كانت موجودة في الرواية، ويمكننا ملاحظة نموذج واضح للمجتمع العربي آنذاك، حين كانت المرأة لا أحد في أوقات كثيرة، وحتى الميراث الشرعي لم يكن يوهب لها من إخوتها الرجال.
نتعرف جليا، على الأكل والشرب وعادات الولادة والأعراس، ونتعرف على الحرب التي نشبت واللجوء وفقدان الاستقرار الذي حدث، وتأتي سنوات النكبة، ليفقد كل ذي حق حقه، ولتضيع تجارة الأب وتضيع أحلام أسرته الكبيرة التي كونها بتأن، وينضم الجميع إلى سكك اللجوء الصعبة التي لن تؤدي بهم إلى استقرار جيد كما كان.
رواية «الست زبيدة»، أو «سيرة الست زبيدة»، كما ذكرت في البداية، كتبت بتأن في رأيي، لا لتحكي أحداثا معينة حدثت في زمن مختصر وينتهي الأمر، ولا لتصف سيرة امرأة اضطلعت بدور الحكي، وتلقف الحكي من آخرين وإعادة حكيه، في كتاب ملحمي، بل لتصف بلادا كبرى منكوبة، تصفها بكل ما فيها وما كان فيها وضاع، مثل ذلك البيت العتيق الحامل لكل الذكريات، الذي تحرص البطلة على تفقده عند عودتها بعد هجرة طويلة، لتجده قد انتهى، لكن بالمقابل، تجد الأزهار التي غرستها ما تزال موجودة وتحييها.
لن أتحدث عن لغة استعارات أو غموض مجازي، فالقصة السيرة، حدثت ببساطة شديدة في الواقع كما أتصور، وبذلك لن يكون تنقلها على الورق إلا بتلك البساطة، ولطالما نوهت بأن أي عمل له توابله الخاصة به، والتي ليست بالضرورة توابل حارة أو حارقة.
«الست زبيدة» كانت بتوابلها البسيطة، مشبعة إلى حد كبير.
أمير تاج السر
وسط الاحداث الطاحنة التي يمر فيها العالم العربي ، نحتاج الى روايات تُكتب عن قضايا العصر والواقع الذي نعيشه .لأن ممكن أن تكون الرواية مرجعا للذاكرة حينما تُدَون فيها احداث تأريخية وثقافة وتراث انساني من صنع البشر كما هو في رواية “الست زبيدة “. حيث اخذتني الرواية في رحلة تأريخية عمرها الاف السنين ، في ارض فلسطين ، واستعادت فيها اشباح الماضي في رحلة مملوءة بالألم والأمل في العودة ، كحلم كل مهاجر ترك موطنه قسرا .
شكرا للاستاذ أمير تاج السر على تعريفنا بالروائيين المذكورين وانتاجهم الأدبي .
الرواية الموسومة ب الست زبيدة عند قراءتنا الاولى يحيلنا الاسم على سيدة عظيمة زبيدة فتحيلها على فلسطين المحتلة زبيدة البغدادية والبطلة اليافية
هناك تعارض منذ قراءة الصفحة الاولى يافا وبغداد والحقب الزمنية المختلفة وهناك تشاكل في قراءة مجتهدة هي طرح قضية احتلال بغداد واحتلال فلسطين في الزمن المعاصر
نتساءل ونحن نلج السطور الاولى من الرواية لنعلم ان الأب يسمي ابنته الست زبيدة تبركا واعتزازها ويصر ان يكن الاسم ملحق ب الست ، ليجعل من فلسطين شموخا وقوة فتعود بِنَا الذاكرة الى سيدة عظيمة كان لها حظور قوي في العصر العباسي لقد قرأت وما زلت اعبد قراءة الصفحة الاولى من رواية الست الزبيدة التي تغري بالقراءة المجتهدة في مكاشفة شبيهة بمكاشفة الناقد المتمرس والرواءي المتمكن أمير تاج السر
الست زبيدة هي اعادة قراءة التاريخ تكرار احتلال العراق الشبيه باحتلال فلسطين
رواية الست زبيدة للكاتبة نوال. حلاوة تستحق قراءات متعددة بزخمها المعرفي وهي قضية فلسطين في تظاهرة جديدة وبطرح سردي انيق
قراءة مجتهدة تحيلنا على احتلال بغداد الشبيه باحتلال يافا
ولادة جديدة الست زبيدة