سيميائية الدم العربي

الطب من أقدم العلوم التي اعتمدت دراسة العلامات، فلقد استخدمها دوال على الأمراض ومعينات على الاستطباب. المهم أن في الطب الحديث عِلما يسمى السيميولوجيا الطبية، يدرس العلامات التي يمكن أن يستخدمها الطبيب في فحص المريض، وهناك فرع منها يسمى سيميولوجيا الدم. نحن لا يعنينا من كل هذا إلا أن نقترض التسمية لندرس تعامل ثقافتنا القديمة والحديثة مع الدم، علامة ونظاما علاميا في تعابيرنا اليومية وحتى الأدبية وسوف نسميها سيميائية الدم.
يشتغل الدم علاميا مُؤشرا ورمزا. المؤشر هو علامة فورية بمعنى أن الدلالة تكون فيه مجاورة للدال، فالدم الذي يسيل ويلطخ شَعر الرأس يدل على أنه مشجوج وهذه دلالة المؤشر. ويكون مؤشرا أيضا حين يكون سيلان الدم عَرضا يستعين به الطبيب ليحدد مدى الخطر في الشجة ودوائها.
لكن التعامل العلامي مع الدم لا يتوقف عند حدود المؤشر، بل يتسع استخدامه العلامي ليصبح رمزا. لنفترض أني أرى عزيزا عليّ مَشْجُوجا، فإني لنْ أتوقف عند مجرد الفهم الأول للعلامة، بل سأخاف على سلامته وعندئذ سيصبح المؤشر مؤثرا وتغادر العلامة دلالتها الأولى الحرفية والموضوعية إلى دلالة ثانية حافة وذاتية تتحدد بالوضعية وبعلاقتي الحميمة بالمشجوج. الدلالة الحافة هي مجموعُ القيم الذاتية التي يُسندها المتلقي إلى علامة وتختلف هذه الدلالة باختلاف من يؤولها والمقام الذي تُؤَول فيه. في هذه الدلالة يكون الدال الأول ومدلوله كلاهما داليْن جديديْن على معنى حادث، وتبتعد الدلالة بذلك عن قرابتها مما تدل عليه، إذْ لا تُوجد مجاورة بين الخطر والدم، كتلك التي كانت بين سيلان الدم من الرأس والشجَج. من يمنح هذه الدلالة الجديدة معناها هو المؤول وهذا يجعلها تنتقل من طبيعة المؤشر إلى الرمز.
يشتغل الدم في ثقافتنا اليومية وفي ممارساتنا الفنية علامَة رمزية أكثر مما يشتغل مؤشرا، واشتغاله بهذا الشكل يجعله مستفيدا في دلالته بما يُسنده إليه المؤول من دلالات تختلف باختلاف الوضعيات التي يستعمل فيها. قد يكون الدم رمزا للموت وللحياة، للطهر وللنجاسة، للشرف وللخسة، للوفاء وللغدر فهو رمز تقابلي بامتياز، لكن ما يعنينا منه هنا أنه رمز يرتبط في ثقافتنا العربية بعنصريْن من عناصر حياتنا الملموسة هما الماء والنار.
تعد رمزية الدم في الثقافة العربية من الرمزيات المحافظة التي لم تتغير في تاريخ تداولها إلا قليلا، ويمكن رصد هذا الثبات بالمقارنة بين رصيد ثقافي قديم من الشعر العربي الجاهلي أو الإسلامي والتعامل اليومي مع الرمز.
أول عناصر الثبات هو أن الدم كان وما يزال علامة رجالية لا تتدخل فيها المرأة إلا قليلا ، فدمها ما يزال يدور في ثنائية شرفها وعفتها وعلامة على «نقصها» الديني الذي خاض فيه الفقهاء وأهل الشريعة بما لا يُرضي التوجهَ الحقوقي الحديث. وثاني عناصر الثبات الكبرى أن الدم ما يزال يدور حول وظائف اجتماعية بعينها، فمن الدلالة على النسب إلى الدلالة على الثأر أو التعبير عن العشق أو الحرب، وهذه المواضيع هي أقطاب الرحى التي عليها يدور استخدام الدم علاميا قديما وحديثا.
لم يعمل الدم في استعارات الشعر الجاهلي الكبرى إلا مُتَخفيا مُسْتحِيا فهو يوجد تحت غطاء علامي آخر له صلة وثيقة به. فالعشق مثلا استخدم رمز الدم، دم الصيد أو دم النحر ليبني استعارة العشق صيدا أو العشق قتلا وربما كان بيت امرئ القيس التالي أقدمها إذ يقول: (ومَا ذَرَفتْ عيْناكِ إلا لتضربِي * بِسَهْميْكِ في أعْشَارِ قَلْبٍ مُقَتل). وإلى اليوم ما تزال صورة القلب المرمي بسهم تُرسم على الجدران العامة، وفي الرسائل السرية ويرسم الدم سيالا ويكون القلب مقتلا (منكسرا) .صحيح أن السهم لا يرتبط بالعين أو المقلة الرامية، لكنه في هذه الرسوم معلومُ المصدر. الإيقونة الشائعة ليست بنتا للبيت الشعري، بل هي سَليلة إدراك ثقافي بات اليوم كونيا لدم العشق كيف يُسفح سفحا مطلوبا ولقاتل تقبل يده إذْ تقتل. الدم في العشق علامة تتصالح مع الموت ويصاب فيها القلب مضخ الدم الحي في مقتل، ورغم ذلك يظل يعيش: الدم في العشق ليس رمزا للموت بالتحاق الروح بخالقها، بل هو رمز للعشق بالتحاق الروح بعاشقها.
في دم العشق تعمل العلامة بالنار الثاوية في عمقها وفي دم الحرب تعمل العلامة بالنار أيضا، ولكن أكثر عملها بالماء بما هو رمز للطهر. ولنا في بيت عمرو بن عبد الجن ما يثبت قدم هذا التصور إذ يقول: (أمَا ودماءٍ مَائراتٍ تَخَالُهَا * على قُنةِ العُزى أو بالنسْرِ عَنْدَمَا)، فالماء المائج الجاري رمز للطوفان المطهر، وفيه حضور لمشهد طقوسي متكامل تقترن فيه قربان الفِدى بالآلهة التي تتقبلها. ويقول المتنبي وارثا صورة الدماء ماء: (بناها فأعلى والقنا يَقْرَعُ القَنا * وموجُ المنايَا حولها مُتلاطِمُ) بذلك تكون الحرب دماء تموج وأرواحا تموت. لكن الفرق بين طوفان الدم وطوفان الماء أن هذا غيضٌ رباني نازل والآخر غيْضٌ بشري صاعدٌ. ليس الأمر كما يقول شكسبير «إننا لا نغسل الدم بالدم ولكن بالماء»، الأمر كما يقول الشاعر الفرنسي الكاهن جوزيف رو: «لا شَيء يغسل مثلما يغسل الدم».
وإلى اليوم ما يزال دم الحربِ في المخيال الرمزي الشعبي، يعمل مستعينا بعنصر الماء وهذا ما نجده في استعمالات كثيرة فصيحة أو عامية، في عبارات من نوع ‘سالت الدماء» أو «الدماء إلى الركب»، بل إنه يمكن في ضوء هذا التعامل بين الدماء والماء أن نفهم لمَ تقول بعض الشعوب العربية إن الدماء لا تصبح ماء، وهي تريد أن دم النسب لا يضيع هباء وهذا قول له ما في ثقافات أخرى، ففي المثل الألباني أن: «الدماء لا يمكن أن تصبح ماء».
إن الدم لا يعمل إلا متسترا لأنه عنصر لا يستقيم بذاته فهو يرتبط باللحم في استعمالاتنا اليومية ولا يعني أنه ارتباط أساسي في صناعة كياناتنا الجسدية، بل هو تعبير يعكس تصورا ثنائيا لأجسامنا. لكن هذه التركيبة الرمزية للجسد تكتسب معنى تقابليا حين ينظر إليها في سياق رباعي كما في قول زهير بن أبي سلمى (لسانُ الفتى نِصْفٌ ونِصْفٌ فؤادُهُ * فلمْ يَبْقَ لهُ إلا صورةُ اللحْمِ والدمِ). إنه لا قيمة لجسد من لحم ودم إنْ حذف منه لسان وفؤاد، لا قيمة لجسم لا يشعر ولا يفكر فيعبر. ومن هنا كانت الكتابة بالدم شكلا قديما يعبر رمزيا عن القرابة والحب والحرب. وأقرب أشكال الكتابة بالدم الوشم، بالوشم يصبح الدم مدادا يرسم على الجسد رموزا تقرأ سحرا وجمالا وعشقا وقداسة، بحسب موضع امتدادها على الجسد والثقافة التي تحــــــبرها، وإن صدقنا الكاتب التشيكي ثم الفرنسي ميلان كونديرا، فإن أول رسم بالدم كان يرمز لهزيمة الحلم، هذه قراءتنا لقولتــــه: «يسيل حين تُقتل أحلامنا الكبرى، كثيرٌ من الدم». لتشهدي يا دماءنا الفائرة كم قتلوا من حلم لنا؟

أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

 

سيميائية الدم العربي

توفيق قريرة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول د. سامي عبد الستار الشيخلي سويسرا:

    مقالكَ التحليلي بإسلوب مدارس اللغة الغربية أي الاوروبية المعاصرة مصطلحا(سيمائية..) قد لا يفهما القارئ العربي للجريدة اليومية كالباحثين به. فهو(عِلم الدَّلالة والعلامات وتنظيراتها الجديدة من مفاهيم تجديدية في التعليل!؟) فأنزلتها في التطبيق بعد شرحك في النصف الاول من المقال.فأنتّ كطبيب لغوي تعالج مريضا عربيا أمامك وأنتّ منهم (فإن أول رسم بالدم كان يرمز لهزيمة الحلم، هذه قراءتنا لقولتــــه: «يسيل حين تُقتل أحلامنا الكبرى، كثيرٌ من الدم». لتشهدي يا دماءنا الفائرة كم قتلوا من حلم لنا؟) رمزا للواقع العربي المعاصر!؟ ولكن مَنْ هو القاتل؟ ولو توسعتَ بثنائية (الماء والنار)! فيمكن إلحاقها بثنائية: الحياة والموت,الكفر والايمان , الجنة والنَّار, والفقير, والغنيّْ, والظالم والمظلوم ؛ في تطبيق التحليل الدِّلالي!؟ وما المقصود ب”. لكن الفرق بين طوفان الدم وطوفان الماء أن هذا غيضٌ رباني نازل والآخر غيْضٌ بشري صاعدٌ). فمعانية في القاموس مُتعددة وإستخدامك بدلالة تأويلية خاصة !؟ أو عامة تُفهم بمعى آخر!؟ واقعيا فهذا العلم له بُعدٌ عربي عند العرب في علم أسرار الحروف في السحر قديما وما يزال (في علم أسرار أوائل الحروف في بعض السُّور القرانية ؛ التي سبق أن التقطت جملة لتحليلها بهذا المنهج ؛ فالعلم علوم والحياة فيها أسرارا لا نهاية لفك رموزها في كل مجال خلال العلوم الحديثة..

إشترك في قائمتنا البريدية