سيميائية موت العلماء

ريتشارد ماريت مونتاغ (1930-1971) عالم رياضيات وفيلسوف أمريكي تناولت أبحاثة علاقة المنطق باللغة الطبيعية. ولقد سعى إلى أن يبين بأنه لا فرق بين دلالة اللغة الطبيعية ودلالة اللغة الصورية، بمعنى أن لغة طبيعية كاللغة العربية يمكن أن توصف باستعمال تقنيات المنطق الرياضي.
أسس مونتاغ ما بات يعرف بعد موته بنحو مونتاغ؛ وهو نحو تحدى به هذا الفيلسوف نحو شومسكي التحويلي التوليدي، باعتبار أنه نظرية نموذجية أكثر تفاؤلا في ملامسة اللغة من نظرية شومسكي النموذجية. ويعرف نحو مونتاغ أيضا بعلم دلالة مونتاغ. مات مونتاغ مقتولا في ظروف غامضة في منزله في لوس أنجليس وظلت جريمة قتله لغزا بلا حل إلى اليوم، واستنتجت الشرطة في ذلك الوقت بعد أن وجدته مخنوقا في حمام منزله، أن الجريمة ارتكبها مثليون جاء بهم مونتاغ إلى منزله ثم قتلوه بعد أن سرقوا بيته.
آرفريك كامبال روائية أيرلندية كانت طالبة في اللسانيات في جامعة غوتنبارغ السويدية كتبت رواية مستلهمة من نهايته المأساوية سمتها Semantics of murder The أي علم دلالة جريمة القتل» (صدرت عام 2008) وكان مونتاغ شخصية من شخصياتها. وأن يصبح موت مونتاغ موضوعَ خيال فهذا لا يدخل في باب المبحث الدلالي أو السيمنطيقا، بل في باب العلامية أو السيميوطيقا. هذا ما يمكن أن نستفيده من بعض آراء غرايماس.
في كتابه مع فونتاني عنوانه «سيميائية المواجيد من حالات الأشياء إلى الحالات الذهنية « يذكر غريماس أن التحليل السيميائي يمكن أن يتسع إلى عالم المشاعر مع نزوع إلى بناء نحو لها ذي صيغ معلومة لكل صيغة منها دلالة. غير أن نحو المشاعر هَذا لا بُد أن يُسبق بفحص للمواجيد يوقفنا على ما يسمى بالعرفان المسبق وهي معرفة مسبقة تخص أحداثا مستقبلية بالاعتماد على صيغ لا يمكن تفسيرها علميا في الوقت الحاضر. هي جزء من المدركات المجاوزة للحس تلك التي تدرك من غير حواس وخارج الحس. مهمة السيميائية في هذا الإطار أن تكون مكونا أساسيا في فهم الإنسان بما هو كائن لغوي ولكن أيضا بما هو كائن حساس واجتماعي. بالنسبة إلى قريماس العلامة وحدها لا تؤدي إلى بعيد هي نقطة انطلاق لا غير قال غرايماس في مقال في جريدة «لوموند» الفرنسية (1974): «خلف العلامات تختفي لعبة الدلالات والتحليل الأعمق يقود إلى تدمير وتحلل بنية العلامة من أجل إحداث أكوان المعنى. بعبارة أخرى عمل السيميائية هو الوصول إلى الهياكل المنطقية المجردة التي تختفي وراء تفوق المعايير الرمزية التي تحيط بنا».
وانطلاقا من أن الشيء في ذاته يمكن أن يكون حاملا للدلالة التي نربطه بها وأن كل شيء يمكن أن يقبل السردنة، فإن الموت يمكن أن يصبح علامة مُسردنة ذات قيمة دلالية تقرأ في سيرورة حياة الشخص وبعض خصوصياته. فعلى سبيل المثال بدا كون مونتاغ عالم دلالة في حياته شيئا قابلا للسردنة، وعلامة يمكن أن تحمل دلالة متجددة على موت غامض. ماذا يمكن أن يكون علم دلالة الجريمة غير أن يقتل المجرم الفيلسوف خنقا. هذا ليس علم دلالة هذا دلالة علم الدلالة ؛ وحين يصبح علامة مولدة للقص ينبغي أن يجعلنا نبحث في ذهن المجرم، لا عن الأسباب التي دعته إلى القتل، بل عما سميناه ما قبل عرفان، أي الحدوس التي لا يثبتها علم الجريمة ومع ذلك يمكن أن يؤكدها باحث العلامة.
يسجل الشرطي الجريمة ضد مجهول شبه أبدي، لكن سردنة العلامات لا تكشف الجاني بل ما يمكن أن يكون دعاه إلى أن يكون مجرما. حين نفترض مثلا أن المجرمين مثليون فلنا أن نسأل: ماذا في المثلي من دلالات حتى يجعله قاتلا؟ يبدو الإجرام في موضوع علم الدلالة محكوما بصيغة مجردة أو بخطاطة لم يعرفها عالم الدلالة الصورية مونتاغ: تبدأ بالاتفاق على الثمن ثم إنجاز المهمة وبدلا من أن تنتهي بتسليم المقابل يحدث شيء غير منتظر، ولكنها قابل للسردنة تفاجئ عالم الدلالة هي القتل والسرقة بدلا من اللذة والانصراف. علاماتية الجريمة هي ليست دلالية الجريمة: الدلالية تسير وفق نظام مجرد ونظام منتظر ولكن العلاماتية هي التي تسردن ما لا ينتظر.
سردنة الموت بالنسبة إلى الأعلام العظماء يمكن أن تحدث حتى لو كان الموت عاديا: هم يتصرفون في موتهم كما يتصرفون في تفاصيل سردهم لحياتهم. فإمام النحاة العرب سيبويه سردنوا موته وجعلوه مأساويا. فعلى خلاف الأسطورة التي تقول إنه مات وفي نفسه شيء من حتى، أي شيء من النحو لم تفك ألغازه، تقول حكاية أخرى إنه حين التقى الكسائي في قصر هارون الرشيد وغلبه في المسألة الزنبورية غادر كسير النفس عائدا إلى فارس ومات في الطريق. أعادته الحكاية إلى بلاده منهزما هو الذي جاء منها لينشئ النحو ويكتب أم الكتب فيه. أريد بهذه القصة أن تكون علامة على موت النحوي الذي يبغضه الناس ويبغضه من يضع له التراجم. سيميائية الموت جعلت منه عنصرا للتشفي المذهبي أو العرقي في فارسي بلانا بعلم النحو. نحوي آخر يقضي بطريقة عجيبة هو أبو جعفر النحاس فقد روي أنه لما كان يجلس» على شاطئ النيل يقطع بعض أبيات من الشعر، رآه أحد العامة فظن انه يسحر النيل حتى لا يزيد فتغلو الأسعار فدفعه وسقط في النهر فلم يوقف له على خبر» (ابن خلكان، وفيات الأعيان1/82). في هذه الحكاية يصبح موت النحوي / العالم حلا لتوازن الطبيعة: فإن يجلس أمام النيل ويخط علامات فإن تلك العلامات سُردنت وأعطانا تأويلها قصة موت بشع. وهناك علامات تمشي بالتوازي لتصنع سردا مميزا للموت: هي الشعر في كون العالم يوازيه السحر في عالم العامي والبحر العروضي في كون العالم يوازيه شاطئ النيل في عالم العامي وتقطيع الشعر في عالم الأول يوازيه قطع منابع الماء وبالتالي غلو الأسعار في عالم الثاني؛ وعلى العموم كون العالم شعري وكون العامي يومي؛ هذا التقابل المرير أدى إلى التأويل المذموم والقاتل: حتى يعيش العامي لا بد أن يموت العالم المشعوذ الذي ينذر بغلاء الأسعار.
سردنة الموت بالمعنى الذي ذكره غريماس تعني شيئا من عناية الناس المفتوحة بكتابة جزء من تاريخ الأحياء وهو الموت؛ يصبح للحياة بأسرها قصة وللموت القصير قصة موازية لا تقف عند الدلالة بل تصبح في ذاتها شبكة من العلامات تدل على محيطها الثقافي. فمثلما خرج مونتاغ عن سياق نشاطه المنطقي المميز بأن أشركت الروائية بين شيء من نشاطه والجريمة المسجلة ضد مجهول؛ وخرج سيبويه عن نشاطه النحوي المميز بأن جمع من ألف قصة موته بين النحو وأصل نسبه الفارسي وهزيمته على يد الكسائي وهو على مائدة البرامكة بني عمهم قبل أن يقضي عليهم الرشيد. تشاء «القدرة السردية» في سردنة قصص الموت أن تكون مثلما قال غريماس «شكلا من الذكاء النسقي».

٭ أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

سيميائية موت العلماء

توفيق قريرة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    من وجهة نظري عنوان وتحليل يمثل لغة دولة الحداثة، التي ليس لها علاقة بلغة القرآن، ولا بلغة العولمة والاقتصاد الإليكتروني، السؤال هنا لماذا؟
    أولا لأن لغة القرآن هي اللغة الوحيدة التي لا تقبل الترجمة، لفهم واستيعاب ومن ثم اصدار أي حكم عليها من اللغة المترجم إليها.
    ثانيا لأن في لغة العولمة والاقتصاد الإليكتروني لا يجوز الترجمة بواسطة النقل الحرفي كما هو حال مصطلح البيروقراطية، بل يجب توطين أو تعريب المصطلح من خلال إيجاد جذر وصيغة بنائية من الصيغ الللغوية التي وردت في لغة القرآن.
    عندما تم تأسيس دول وكيانات سايكس وبيكو في بداية القرن الماضي، لم يتم تأسيسها على أسس اقتصادية، والدليل مشكلة طريقة حساب الرواتب في أي وظيفة أو مهنة، ليس لها علاقة بالزمن ولا الجهد أو العائد الاقتصادي من المنتج عند عرضه في أي سوق حر، فالاتحاد السوفييتي تم انهياره بسبب الفساد/التقصير من قبل الموظف في الدولة عام 1991، ولمنع انهيار الاقتصاد العالمي طرحت أمريكا الشابكة/الإنترنت، تماما كما طرحت مشروع مارشال في عام 1945، وكلاهما يمثلان ركني أساس العولمة والاقتصاد الإليكتروني.
    الآن هناك تحديات حقيقية، على مناهج التعليم والتدريب والتأهيل، لكيفية تكوين مناهج تنتج إنسان يستطيع منافسة والفوز على الآلة (الروبوت) بعقد الوظيفة في الحكومة الإليكترونية، وإلاّ سيفلس الجميع، لأن ببساطة الآلة (الروبوت) لا تدفع ضريبة أو رسوم، ولذلك نحن نقترح ابدال اقتصاد الفرد باقتصاد الأسرة (مشروع صالح التايواني)، لتكوين أم الشركات لتفريخ شركة لمن يتم احتضانه من أصحاب المبادرات الريادية لإنقاذ الاقتصاد، شراكة ما بين القطاع العام كسوق 40% والقطاع الخاص كمستثمر 40% مع تقنياتنا 20% لتطويع التقنية حسب رؤية الموظف المُبادر لزيادة الإنتاج ومن ثم دخل الجميع، لنتجاوز مفهوم المقاولات وعروض المناقصات فهي مدخل الفساد/التقصير في النظام البيروقراطي، لتحوسل عقلية الموظف من عقلية المقاول إلى عقلية رجل الأعمال، يُجيد بسبب (طريقة صالح) أكبر عدد من لغات العالم والترجمة بينهم ومن ضمنها لغة الآلة لتسخيرها والاستفادة منها في العولمة وتقنية أدواتها، بأركانها الخمس: الحوكمة (الشفافية والحاجة أم الاختراع)، ولوحة المفاتيح (اللامركزية والأتمتة)، والحرف (الحاضنة والأصوات والموسيقى)، والكلمة (معنى المعاني)، والجملة (التواصل والحوار والتكامل مع لغة الآخر)

  2. يقول S.S.Abdullah:

    من وجهة نظري عنوان وتحليل يمثل لغة دولة الحداثة، التي ليس لها علاقة بلغة القرآن، ولا بلغة العولمة والاقتصاد الإليكتروني، السؤال هنا لماذا؟
    أولا لأن لغة القرآن هي اللغة الوحيدة التي لا تقبل الترجمة، لفهم واستيعاب ومن ثم اصدار أي حكم عليها من اللغة المترجم إليها.
    ثانيا لأن في لغة العولمة والاقتصاد الإليكتروني لا يجوز الترجمة بواسطة النقل الحرفي كما هو حال مصطلح البيروقراطية، بل يجب توطين أو تعريب المصطلح من خلال إيجاد جذر وصيغة بنائية من الصيغ اللغوية التي وردت في لغة القرآن.
    عندما تم تأسيس دول وكيانات سايكس وبيكو في بداية القرن الماضي، لم يتم تأسيسها على أسس اقتصادية، والدليل مشكلة طريقة حساب الرواتب في أي وظيفة أو مهنة، ليس لها علاقة بالزمن ولا الجهد أو العائد الاقتصادي من المنتج عند عرضه في أي سوق حر، فالاتحاد السوفييتي تم انهياره بسبب الفساد/التقصير من قبل الموظف في الدولة عام 1991، ولمنع انهيار الاقتصاد العالمي طرحت أمريكا الشابكة/الإنترنت، تماما كما طرحت مشروع مارشال في عام 1945، وكلاهما يمثلان ركني أساس العولمة والاقتصاد الإليكتروني.
    الآن هناك تحديات حقيقية، على مناهج التعليم والتدريب والتأهيل، لكيفية تكوين مناهج تنتج إنسان يستطيع منافسة والفوز على الآلة (الروبوت) بعقد الوظيفة في الحكومة الإليكترونية، وإلاّ سيفلس الجميع، لأن ببساطة الآلة (الروبوت) لا تدفع ضريبة أو رسوم، ولذلك نحن نقترح ابدال اقتصاد الفرد باقتصاد الأسرة (مشروع صالح التايواني)، لتكوين أم الشركات لتفريخ شركة لمن يتم احتضانه من أصحاب المبادرات الريادية لإنقاذ الاقتصاد، شراكة ما بين القطاع العام كسوق 40% والقطاع الخاص كمستثمر 40% مع تقنياتنا 20% لتطويع التقنية حسب رؤية الموظف المُبادر لزيادة الإنتاج ومن ثم دخل الجميع، لنتجاوز مفهوم المقاولات وعروض المناقصات فهي مدخل الفساد/التقصير في النظام البيروقراطي، لتحويل عقلية الموظف من عقلية المقاول إلى عقلية رجل الأعمال، يُجيد بسبب (طريقة صالح) أكبر عدد من لغات العالم والترجمة بينهم ومن ضمنها لغة الآلة لتسخيرها والاستفادة منها في العولمة وتقنية أدواتها، بأركانها الخمس: الحوكمة (الشفافية والحاجة أم الاختراع)، ولوحة المفاتيح (اللامركزية والأتمتة)، والحرف (الحاضنة والأصوات والموسيقى)، والكلمة (معنى المعاني)، والجملة (التواصل والحوار والتكامل مع لغة الآخر).

  3. يقول S.S.Abdullah:

    أرجو المعذرة ونشر المداخلة الثانية بدل الأولى لوجود بعض الأخطاء فيها والتي قمت بتصليحها في المداخلة الثانية مع الشكر مقدما

إشترك في قائمتنا البريدية