قرأت مؤخرا، أن محافظة القاهرة قررت أن تطلق اسم الروائي البارز جمال الغيطاني، الذي يرقد في غيبوبة، منذ أكثر من شهر، على أحد الشوارع المهمة في منطقة الجمالية، أولا اعترافا بفضل الغيطاني على الثقافة المصرية والعربية، والمساهمة في نقلها إلى بعيد، وثانيا لأنه عاش في المنطقة نفسها فترة من الزمن، واهتم بتراثها، واستوحى منها الكثير في أعماله.
مثل هذه المبادرات، وإن كانت تأتي دائما متأخرة، أي بعد أن يكون المبدع الرمز، المراد تكريمه قد شاخ أو توعك أو رحل، إلا أنها تعني الكثير جدا، تعني أن تسمية الشوارع والقاعات الثقافية والتعليمية، وكل المنشئات التي من المفترض أن تحمل أسماء، لا ينبغي أن تكون حكرا على ساسة يأتون بطرق أو بأخرى، ويذهبون سريعا، بينما الأدب، يظل باقيا لزمن طويل، وتظل سطوته مسيطرة، خاصة إن كان أدبا جيدا ومزدهرا، وساهم في الارتقاء بالعقل والوجدان لمجتمع ما. وقد كتب جمال أعمالا كثيرة، في الرواية والسيرة، والمقال الثقافي، وفنون العمارة، وشارك باسم بلاده في مئات المؤتمرات الثقافية، هنا وهناك، وكان وجوده في صحيفة «أخبار الأدب»، لسنوات طويلة، بعد أن أسسها، وشارك في إدارة تحريرها الكاتب الفذ عزت القمحاوي، سندا كبيرا للأصوات القديمة والشابة معا، وكانت الجريدة التي تعد أول جريدة ثقافية كاملة، من نوعها، ملاذا للعديد من هواة الكلمة الجيدة، والثقافة الراقية، في جميع أنحاء الوطن العربي.
جمال يستحق أن يسمى شارع باسمه، وأن تسمى قاعات ومكتبات يتم تداول الشأن الثقافي فيها، وكذا يوجد كثير من الكتاب والشعراء، وغيرهم من المثقفين العظماء، في كل أنحاء الوطن العربي، يستحقون فعلا، أن تنتزع لأسمائهم شوارع منحت من قبل لأشخاص لم يقدموا شيئا لمجتمعهم، لكنهم تمتعوا بالصيت، الذي أدخلهم لوائح تسمية الشوارع، والمعاهد التعليمية وغيرها. ولو أنصفت الثقافة بالفعل في كثير من البلدان، لربما ذابت كثير من السلوكيات السلبية، ولما احتل العنف، ذلك المكان المرموق الذي يحتله الآن، في غياب كل ما من شأنه أن يهذب الوعي.
ولطالما نادينا بتسهيل مهمة الكتاب من طباعة ونشر وتوزيع ودعم كامل، حتى يشق طريقه إلى العقول بسلاسة، ونادينا بالتوسع في إنشاء المكتبات قرب الشواطئ والحدائق العامة، والأماكن التي فيها ساعات انتظار لا بد منها، وتزويد المدارس بالكتب المنتقاة التي يسهل هضمها والتفاعل مع موادها.
منذ سنوات عدة، وقبل وفاة الكاتبة الجنوب أفريقية، الحاصلة على جائزة نوبل للأدب، نادين غورديمر، قامت دولتها بوضع صورتها على عملة ورقية متداولة. كان خبرا جيدا فعلا، وأعتقد أن كثيرين مثلي طربوا له آنذاك، فالكاتبة التي استلمت الجانب المشرق لدولتها التي كانت عنصرية لزمن طويل، قبل أن تتعدل، تستحق بالفعل أن تكرم، وأن توضع صورتها على عملة، واسمها على شارع مهم، وأن يكون ما حصلت عليه بمثابة باب، ستليه ساحة كبيرة، تضم الكثيرين من أبناء بلادها، وحين مات غابرييل غارثيا ماركيز، ومعروف من هو ماركيز، تم تكريمه بوضع صورته على العملة الورقية، فئة مئة بيزو، في بلاده كولومبيا. هذا أيضا كان حدثا كبيرا، حين تألقت العملة بوجه ماركيز الهادئ المبتسم، أو الذي تخيلته مبتسما من كثرة ما شاهدت ابتسامة الرجل، لكن في اعتقادي أن تكريم ماركيز كان متأخرا جدا، مقارنة بما قدمه على مدى أكثر من نصف قرن من الزمان، أصبح خلالها إحدى ركائز الخيال المهمة، وأحد مراجع الكتابة الجميلة الجيدة، وشخصيا كنت أتوقع أن يكرم بأكثر من ذلك وفي فترة نشاطه الكبير، حين كان يكتب الرواية، ويكتب المقال السياسي والاجتماعي،، بأدوات الرواية نفسها، ويمتع الناس. ولو قرأنا فقط كتابه المسمى «حادث اختطاف»، الذي كان إدانة لتجارة المخدرات، التي أرعبت بلاده زمنا، جاءت بأسلوب سلس وشيق، لكان ذلك كافيا لأن يمنح كل تكريم ممكن.
أعتقد شخصيا، أن الكاتب أو المبدع عموما، مثله مثل أي كائن بشري، يحب أن يرى بصماته التي أخلص في صياغتها لزمن طويل، مرسومة أمامه، أن يرى صورته التي ترمز لإبداعه، لا وجهه فقط، مطبوعة على أوراق العملة، ولو أمكن على دفاتر الكتابة التي يستخدمها التلاميذ، وبلا شك يحب أن يمر بشارع يحمل اسمه، ويجلس في مقهى ربما يشيده أحدهم في ذلك الشارع. ومن الأشياء اللافتة، في مسألة تقدير الإبداع، أن هناك من يقدره على المستوى النظري، بمعنى أن شخصا ربما لا يكون يقرأ أو يكتب لكنه مغرم برموز مثل نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم والعقاد، ويتحدث عنهم بما سمعه من الذين يعرفونهم، بوصفهم مدعاة للفخر، وأذكر أنني تعشيت مرة، برفقة الصديق المبدع عزت القمحاوي، في مطعم في القاهرة، وكان يضع صورا لضيوف كثيرين، أكلوا على موائده، ذات يوم، وكان فيهم أدباء وعلماء ومغنون وممثلون ولاعبو كرة. وقد شاهدت صورا لأحمد زويل، ونجيب محفوظ نفسه، والطيب صالح والبياتي، وغيرهم. إنه احتفاء طيب بأولئك المشاهير، لكنه احتفاء نظري كما قلت، قطعا ينتهي حين يغلق ذلك المطعم أبوابه ذات يوم.
نحتاج بشدة إلى تفعيل أدوات الاحتفاء، وفي أوقات عطاء المبدع الكثيف، وقبل أن يتعقبه الزمن وينال منه، ورأيي أن وضع جوائز بأسماء مبدعين، وهم أحياء وواعون ونشيطون، وإشراكهم في اختيار الفائزين بها، أمر حيوي هو الآخر، وربما يعادل معنويا، أن يرى المبدع صورته على عملة أو اسمه على شارع مهم يستخدم بكثافة. وأتمنى أن ينهض الغيطاني من تأمله العميق هذا لنحتفل معه بشارع الغيطاني.
كاتب سوداني
أمير تاج السر
لاكرامة لنبي في قومه أو في وطنه . فكم من أدباء وشعراء منسيون في وطننا العربي ، وحتى في المجال العلمي .
لقد أُطلق اسم خليل جبران على أسم شارع في احدى مناطق مونتريال ، بالاضافة الى ان له تمثال في واشنطن والاخر في البرازيل . ففي امريكا واوربا ، كل دور سكنى مبدعيهم في الادب والفنون بأ شكالها ، تحولت الى متاحف ودور سياحية . حتى الاثاث والملابس والادوات التي كانوا يستعملونها ، تُركت كما هي ليشعر الزائر بروح المبدع .
فضرورة الانفتاح على ثقافة الشعوب الاخرى تنبهنا على القصور في أفكارنا وثقافتنا .