لم يكن أحد من سكان ذلك الشارع الكائن في حي شبرا القاهري العريق، يغضب حين يؤدي سعيد أذان صلاة الفجر، من فوق سطح بيته، بكلمات أغلبها مبتور، وبتقديم وتأخير عبارات الأذان، لأن سعيد مسيحي الديانة، كان عقله خفيفاً وعلى قده.
لم تكن تلك الأيام قد شهدت صعود السلفيين وانتشار التطرف الديني والأزمات الطائفية، ولذلك كان الجميع يتسامحون مع قيام سعيد بسب الدين حين يتعرض لمضايقات شديدة من البعض، فليس على سعيد حرج. كانت النصيحة واللوم يوجهان إلى من يضايق سعيد، خصوصاً إذا لم يكن قد استمع إلى ما يروى عنه من حكايات عجائبية، مثل أنه سقط مرة من سطح بيتهم البالغ ارتفاعه أربعة أدوار فلم يصبه سوء، أو أنه دعا على الشيخ محسن البقال بعبارات غير مفهومة، حين ضايقه ولم يعطه قطعة حلوى «فُنضام» طلبها منه، فلم ينم الشيخ ليلتين كاملتين لشعوره بأن النمل يأكل جسده، رغم أنه أخذ حماماً بصابونة (نابلسي شاهين) ثم صابونة فينيك، ثم دعك جسده بقشر البطيخ كما نصحوه، ولم يتوقف النمل عن أكل جسده، إلا بعد أن ذهب إلى سعيد وألح عليه في قبول خمس «فُنضامات» مرة واحدة.
حكاية سعيد وغيره من الشخصيات الشبراوية التي تبحث عن مؤلف، يرويها الشاعر والكاتب يسري حسان في أحد فصول كتابه «خلطة شبرا» الذي يسجل فيه ملامح الحياة التي عاشها في حي شبرا، قبل أن تتغير الدنيا، راسماً بقلمه صوراً لشخصيات مثيرة للتأمل والإعجاب، ليصبح أكثر من كتاب شخصي ينتصر فيه كاتب للحي الذي ولد وعاش فيه، وتعطي الحكايات لكتابه طعماً يمتع حتى الذين لم يعرفوا حي شبرا، فما بالك بمن عرفه وعاش فيه أياماً جميلة مثل حالاتي، وهو ما جعلني أتسامح مع حرص يسري المبالغ فيه على تأكيد فرادة شبرا وخصوصيتها، وهو ما نزعم مثله نحن أهل الإسكندرية، مناكفين أهل غيرنا من المدن المصرية، ويزعمه أبناء عدة أحياء إسكندرية متباهين بخصوصية أحيائهم، بل أحياناً شوارعهم، وهو ما يفعل مثله أبناء الجيزة والسيدة زينب والجمالية، بل أبناء أحياء أحدث عمراً مثل العباسية والزيتون والمطرية ومصر الجديدة، ومن يدري ربما شهد أبناؤنا وأحفادنا مع تدهور الأحوال المتصاعد، أياماً تُكتب فيه الكتب في الحنين إلى فرادة وخصوصية الحي العاشر وأول فيصل والتجمع الخامس وشارع الثلاثيني، لا سمح الله.
لم يحكِ يسري حسان كثيراً عن الشيخ سرور خادم مقام سيدي الحِلِّي، لكنه حكى عن حسنين المجنون ابنه، الذي كثيراً ما أحدث ارتباكات مرورية في روض الفرج، كلما ضايقه أحد خلع جلبابه الذي كان يرتديه على اللحم صيفاً وشتاءً، ونام على شريط الترام، ولم يكن يجرؤ أحد على إبعاده، لتتوقف عربات الترام وتسد مدخل السوق الكبير، الذي كانت عربات النقل المحملة بالخضر والفاكهة تأتي إليه لتطعم القاهرة، قبل أن يتم نقله في حركة وصفتها الحكومة بأنها حضارية ومشرفة، لكنها ساهمت في إطفاء بهجة الحي، بشكل لن يعرفه إلا الذين حضروا السوق قبل نقله.
ذكّرني حسنين الشبراوي، بشخصية صنفر ابن شارعنا الإسكندري، الذي كتبت عن هوايته في تعطيل ترام الإسكندرية، بعد تشريح نفسه بالموسى على شريطه، ليستعرض موات قلبه، حتى يغمى عليه من شدة النزيف، وهو ما يفرقه عن حسنين، الذي كان يستجيب للبعض حين يجبر خاطره بسيجارة أو ما شابه، فيقوم ليرتدي جلبابه وينصرف كأن شيئاً لم يكن، وحين حاول أحد الغرباء عن الحي مرة سحبه بالقوة من على شريط الترام، لم يستطع، رغم قوته، زحزحة حسنين مليمتراً واحداً، كأنه التصق بالأرض، وهو ما فسّره البعض بأن والده الشيخ يحميه بتلاوة مجموعة من العزائم كل صباح، تمنع عنه أي شرور، ولذلك كان الكثيرون يقبلون على شراء بواقي الخضروات التي يأخذها من عنابر سوق الخضار، ويبيعها بالواحدة، بأسعار غالية لا تقبل الفصال، بدون أن يعدم من يشتريها منه، زاعماً أنها تختلف في لذاذة طعمها عن كل الخضروات الموجودة في السوق.
يحكي يسري حسان عن الشيخ سعيد الذي كان البعض يستأجرونه لقتل خصومهم، مع أنه لم يستعمل سلاحاً في حياته، بل كان يستخدم براعته في التسلل إلى أي مكان، وحين يصل إلى الشخص المطلوب يخنقه حتى يزهق روحه، وكان له أغرب مقهى يمكن أن تشاهده في حياتك، حيث كان مخصصاً للعب القمار بالكوتشينة أو الدومينو، مقابل حصوله على ربع المكسب، ولم يكن لديه في المقهى عمال، فإذا أردت أن تشرب شاياً قال لك: قم إعمل لنفسك، وإذا أردت شيشة طلب منك رص المعسِّل براحتك. وحين قام رئيس مباحث ذات يوم بمداهمة المقهى وحبس من فيه في غياب سعيد، فوجئ الناس برؤية المقهى مفتوحاً في اليوم التالي، فقال بعضهم إن سعيد تسلل إلى بيت رئيس المباحث عبر مواسير المجاري حاملاً كوتشينة، وأجبر الضابط على ملاعبته وكسب منه عشرة جنيهات، كانت كل ما معه، وهدده بأنه إذا لم يفرج عن المحبوسين سيقتله وأنه إذا فكر مرة أخرى في المرور أمام المقهى سيكون آخر يوم في حياته، واستجاب رئيس المباحث. في حين قال آخرون إن سعيد في الماضي كان عبداً لأسرة أغلبها من المسؤولين الكبار، وأنهم أعتقوه وتركوه يعمل تحت حمايتهم واستخدموه في تصفية خصومهم، لكن إجرام سعيد لم يستمر، فقد انجذب وأغلق المقهى وبدأ في إقامة حلقات ذكر عقب صلاة كل جمعة، انضم إليها عشرات المجاذيب، أما بقية أيام الأسبوع فكان يحمل فيها شومة ويطوف بالحارات ليحطم زينات الأفراح بدون أن يقف في وجهه أحد.
كانت نهاية سعيد مختلفة عن نهاية أبو حلاوة، أشهر لصوص شبرا، الذي كان يمتلك قوة خارقة، لأنه كما تقول الأسطورة الشبراوية، شرب من ماء النيل وهو نائم، لأن هناك لعلمك الخاص لحظة ينام فيها النيل أو البحر كما يسميه الشبراوية، لا أحد يعرف موعدها، لكن إذا أتيح لأحدهم أن يشرب منه وقتها، منحه الله قوة خارقة، وهو ما حدث لـ«أبو حلاوة» الذي كان يبتلع الزجاج المكسور، ويضع عملة النصف فرنك على عينه فإذا أغمضها انثنت القطعة، وكان يكِنّ في عشته بالشهور، فإذا نفدت أمواله ومؤنه خرج إلى الشارع ممسكاً بحربة يرشقها على الأسفلت صائحاً: «خراب يا شارع التروماي»، فتغلق المحال أبوابها، ويقوم صاحب محل بالمرور ليجمع ما فيه النصيب، فيأخذه أبو حلاوة ويختفي، ليستمر ذلك حتى يشم جيرانه رائحة عفونة تنبعث من عشته، فيجدوا أبو حلاوة جثة هامدة، ليبعث يسري حسان الروح في سيرته، وهو يحكي عن صعاليك ونبلاء وفتوات وفنانين وموهومين وعربجية وحلنجية وبائعات محشي وشيالين وبقالين وكباتن وجدعان وجمالات وصيادين وألعاب وسينمات، مجدداً بحكاياته حنينه إلى دنيا شبرا، التي يعود إليها كلما ضاقت به السبل، ومعلناً بدون خجل فرحته بالوقوف على أطلالها حتى لو تألم، ومؤكداً مواجهته لقسوة تغير أحوالها «بالإصرار على ممارسة البهجة حتى لو كانت ممزوجة بالألم، بالعِند في الزمن وأفاعيله».
…
ـ «خلطة شبرا» ـ يسري حسان ـ منشورات بتانة.
٭ كاتب مصري
بلال فضل
يمكن التندر بحكايات القديم و التلذذ باساطيرها بل و التفنن في اعادة صياغة تلك الاساطير مع الاختتام بالحسرة على الزمن الجميل الذي فات.
الحقيقة المؤلمة ان كل ما قيل يدلل على عمق التخلف في ذلك الزمان، و المعاناة الشديدة الناتجة اساسا عن الجهل، و على الكفاح الشاق الذي بذله اباء هؤلاء الكتاب لاخراجهم من الظلمات الى بعض النور. و ما زال الطريق طويلا و شاقا