نجح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في منتصف تسعينيات القرن الماضي في إقناع القيادة السياسية الأمريكية ان مفهوم الإرهاب يجب ان يشمل إرهاب الدول، وخصوصاً العربية والإسلامية. ونشر نتنياهو «إنجازاته» هذه في كتاب مؤكدا نجاح مهمته.
ومَنْ يقرأ كتاباً صدر مؤخرا بالفرنسية بعنوان «العالم حسب ما يراه كارلوس» ويشمل مقابلات أجراها مؤلفه لازلو ليزكاي مع كارلوس (ايليتش راميرز ـ سانشيز) الملقب بالثعلب أو أبن آوى، بعد مرور أكثر من عشرين سنة على سجنه في فرنسا، والذي وردت فيه معلومات مفصلة عن علاقة هذا الإرهابي الفنزويلي الأصل مع قادة وأجهزة استخبارات عربية وأوروبية شرقية شيوعية منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي وحتى اعتقاله في آب/أغسطس عام 1994 يدرك أن مشروع نتنياهو ما زال مستمراً بشكل أو بآخر.
كل ما ذكر أن الكاتب صحافي من أصل مجري كان مهتماً في قضية كارلوس منذ مطلع التسعينيات، وكتب عنه أول كتاب عام 1992 ثم اتبع ذلك بكتاب عن القائد الليبي السابق معمر القذافي عام 2011 وعن مارين لوبن زعيمة «الجبهة الوطنية الفرنسية».
أما كارلوس، فيبدو انه اعتبر ان عليه ان يُبلغ مؤلف الكتاب كل شاردة وواردة فعلها في عملياته الإرهابية في أوروبا والشرق الأوسط وكل اتفاق أو لقاء أجراه مع مسؤول سياسي أو استخباراتي في العالم العربي وأوروبا الشرقية وكأنه يريد ان يسجل التاريخ له «الإنجازات العظيمة» التي حققها والتي قتل نتيجتها مئات الأبرياء فقط لوجودهم في الأمكنة التي نُفذت فيها هذه التفجيرات.
ومع ان كارلوس حاول إظهار ذكائه وقدرته على تنفيذ العمليات الخطيرة، فإنه يساهم بما قاله في الكتاب في تحريض أمريكا والدول الأوروبية على ارتكاب جرائم بحق الشعوب العربية في العراق وليبيا وغيرهما من دون ان يكون له الحق في الدفاع عن مواقفه والرد عما أورده المؤلف في هذا الكتاب الذي يشعر أي قارئ له بالقرف من العرب وقادتهم ووحشية أنظمتهم، وبالتالي يتأثر بنظرية نتنياهو بان إسرائيل هي الديمقراطية الوحيدة في هذه المنطقة.
ففي الفصل الثامن وعنوانه «عملية الحصار في فيينا» يتطرق إلى احتجاز وزراء النفط العرب في فيينا والتهديد بقتلهم إذا لم تُنفذ مطالب كارلوس ومجموعته (التي نُفذت في كانون الأول/ديسمبر عام 1975). يقول «الثعلب» أن ممول العملية كان العقيد معمر القذافي وانه وعد بدفع خمسين مليون دولار لمنفذيها إذا نجحوا في قتل وزير النفط السعودي (آنذاك) احمد زكي اليماني، وان القيادة الفلسطينية في تلك المرحلة دعمت القرار لأن الرئيس ياسر عرفات شكك في ان اليماني سهّلَ عملية اغتيال الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز على يدي ابن شقيقه عبر مرافقته للقاتل الأمير فيصل بن مساعد عندما دخل لتهنئة عمه، ثم اغتاله. وبما ان الملك فيصل كان حليفا للقضية الفلسطينية، فإن عرفات اعتبر ان عليه الثأر لاغتياله، حسب كارلوس.
وذكر كارلوس أيضا أن الملك فهد بن عبد العزيز عرض عليه مبلغا موازياً لما عرضه القذافي لكي يمتنع عن اغتيال اليماني في تلك العملية وان «الثعلب» منع أحد معاونيه من ارتكاب عملية الاغتيال، وان الرواية برمتها تصلح لفيلم «جيمس بوندي» ويخرج القارئ بشعور أن القادة العرب كانوا يزايدون مالياً على حياة أو موت مسؤول عربي وكأنه سلعة في مزاد علني.
ويذكر المؤلف في أكثر من مناسبة، وعلى ذمة ما قاله له كارلوس، أن المحرك الأساسي للإرهابي الدولي (أي كارلوس) ولعملياته كان القائد الفلسطيني الراحل وديع الحداد الذي انفصل عن «الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين» بقيادة الدكتور جورج حبش لرفضها استمرار العمليات التي قد تودي بحياة الأبرياء ولا تحقق النتائج المرجوة كخطف الطائرات والسيارات المفخخة ورمي القنابل في أماكن يرتادها المدنيون الذين لا دخل لهم بالإجرام الصهيوني، بل قد تضر بالقضية الفلسطينية.
وفي الصفحة (134) يقول المؤلف (على لسان كارلوس) ان مسؤولاً كبيراً في الاستخبارات السورية زار بغداد في عام 1978 حيث كان كارلوس مقيماً وطلب منه المساهمة في عمليات تدعم الوجود السوري السياسي والعسكري في لبنان آنذاك وان هذه العلاقة تطورت لاحقا واثمرت عن انتقال كارلوس وزوجته ماغدالينا كوب (ليلي) إلى سوريا حيث أقاما بين منتصف الثمانينيات وحتى الانتقال إلى الخرطوم في مطلع التسعينيات، البلد الأخير الذي أقام فيه قبل أن يسلمه النظام السوداني إلى المخابرات الفرنسية.
ويوضح كارلوس لمحاوره ان علاقته كانت جيدة بالنظام العراقي بقيادة الرئيس احمد حسن البكر في أواخر السبعينيات، ولكن صعود صدام حسين إلى السلطة في تموز/يوليو 1979 اضطره إلى مغادرة العراق لان صدام طرد جميع المنظمات الفلسطينية والمتعاملة معها (المؤيدة لسوريا) من البلاد، وحلت مكانها منظمات مقربة منه ومن نظامه.
يعترف كارلوس في الصفحة (170) بأن منظمته نفذت تفجير مركز صحيفة «الوطن العربي» في باريس (فرنسا) في نيسان/ابريل 1982 بسبب نشرها مقابلة «مزعومة» معه أجراها الصحافي عاصم الجندي ونشرت من دون إذنه. كما انفجرت سيارة مفخخة في سفارة فرنسا في بيروت لأن الحكومة الفرنسية لم تفرج عن صديقته ماغدالينا كوب (التي أصبحت زوجته لاحقاً).
وفي كانون الثاني/يناير (1984) نفذت مجموعة كارلوس تفجيرات في محطة للقطارات (TGV) في مرسيليا (فرنسا) وفي «المركز الثقافي الفرنسي» في طرابلس (لبنان) وفي مقر شركة (ايروسبسيال) في باريس، أدت إلى مقتل وجرح عدد من الأشخاص، واعتبرها كارلوس بمثابة رسالة إلى الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران لتدخله في افساد علاقته الجيدة بالنظام الشيوعي عموماً وفي المجر واضطراره للانتقال إلى سوريا بعد أن كان مرتاحا في بودابست.
ويشير الكاتب ان كارلوس، خلال هذه العمليات كان ينسق مع الاستخبارات السورية مما يفسر ذهابه إلى سوريا بعد تأزم علاقاته بدول أوروبا الشيوعية ودول عربية أخرى، وبعد وفاة ليونيد بريجنيف قائد الاتحاد السوفييتي الشيوعي وتسلم يوري اندروبوف القيادة (في عام 1983) الذي أوعز إلى الدول الأوروبية الشرقية الشيوعية بعدم استقبال كارلوس ومجموعته لدعمها الإرهاب. ونفذ هذا الأمر عام 1984 من جانب جميع بلدان أوروبا الشرقية التابعة لحلف وارسو.
ويشير الكتاب إلى ان كارلوس، وفي رغبته استقطاب التمويل لعملياته (الذي بدا وكأنه دافعه الأول) عرض على القذافي في عام 1981 تنفيذ عمليتي اغتيال إحداهما للرئيس الأمريكي رونالد ريغان، الذي كان قد وصل لتوه للرئاسة والأخرى للرئيس المصري أنور السادات الذي ارتبط بمعاهدة مع إسرائيل، مقابل مئة مليون دولار. وقد استاء «الثعلب» كثيرا عندما اغتيل السادات في 1981 على أيدي مجموعة إسلامية متشددة وبالتالي أحبط مشروعه.
ويشعر القارئ لدى قراءة الكتاب أن كارلوس كان يفتش عن العمليات الإرهابية المدعومة بتمويل ضخم من قادة عرب وكأنه شخص جشع للمال أو «سمسار للقتل» وليس كما يدعي أنه الثوروي الملتزم الحريص على الدفاع عن قضايا الشعوب العربية عموما في طليعتها قضية فلسطين.
في الصفحة (188) يقول الكاتب (هنا أيضا على لسان كارلوس) ان في أواخر الثمانينيات قرر صدام حسين استخدام مجموعة أبو نضال (صبري البنا) بدلاً من كارلوس، وكذلك فعل القذافي.
وأشار كارلوس إلى الكاتب انه اعتبر صبري البنا (أبو نضال) مجنونا ورفض التعامل معه مع ان معلمه وديع الحداد لم يعارض هذا التعامل. ورأى ان الشخص المقاوم الذي يقتل معاونيه ورفاقه السابقين في النضال والمقاومة هو شخص موتور ومريض.
واتجه كارلوس نحو عمليات اختطاف الأثرياء العرب لاستقطاب الفدية المالية تلو الأخرى، ولكنه فشل في معظم هذه المحاولات. فعندما حاول ابتزاز تاجر السلاح السوري منذر الكسار اضطر إلى التراجع عندما تبين له ان الكسار كان مقرباً من أبو العباس، قائد «جبهة التحرير الفلسطينية».
كما حاول «الثعلب» تنظيم اختطاف نجل الثري السوري أكرم العجة ثم عَدَل عن هذا عندما علم بانه متزوج من ابنة العماد مصطفى طلاس ناهد فساوم وقبل بالحصول على مبلغ ضخم من المال لتوقيف العملية. (قال الكاتب انه 7 ملايين دولار ولكن كارلوس صححه قائلاً انه عشرة ملايين دولار).
وخلال سكن كارلوس في حي المزّة في دمشق منذ 1985 وحتى انتقاله إلى الخرطوم بعد ذلك بتسع سنوات، كان جاراه نجلي القائد الباكستاني الراحل ذو الفقار علي بوتو الذي أعدمه قائد الجيش الجنرال ضياء الحق وحل مكانه رئيساً لباكستان. وقد ساهم كارلوس في تدريب الشابين (مرتضى وشاهنواز) للانتقام لوالدهما ما أدى إلى نجاحهما في تأليف مجموعة اغتالت ضياء الحق عبر استخدام قائد طائرة مروحية كان ضياء يستخدمها فجرّ نفسه وقُتل هو وضياء الحق. كما ساعد كارلوس هذين الشابين مسهلاً دخولهما إلى دمشق حيث نظما عملياتهما بالاشتراك مع والدتهما نصرت بوتو. ولكنهما قتلا (بعد الانتقام من ضياء الحق) في ظروف مريبة، أحدهما في فرنسا والآخر في باكستان.
وحسب الكتاب، فالسبب الذي أدى إلى مغادرة كارلوس سوريا في مطلع التسعينيات كان تعاون الرئيس حافظ الأسد مع التحالف الدولي لإخراج صدام حسين من الكويت عام 1991 وتقربه آنذاك من القيادة الأمريكية (جورج بوش الأب) التي طالبت بتنظيف سوريا من الإرهابيين. ونفذ قائد الاستخبارات السورية في تلك المرحلة قرارات الرئيس وانتقل كارلوس إلى الخرطوم. ولكن الضغوط الفرنسية الرسمية على القيادة السودانية كانت كبيرة فرضخت وسلمت كارلوس إلى فرنسا عام 1994 وحُكم عليه بالسجن المؤبد رغم استئنافاته الحكم.
وفي رأي كارلوس الوارد في خاتمة الكتاب انتقل الإرهاب إلى مرحلة أشد عنفاً واستخدم الإسلام وهُمشت المنظمات الثورية الماركسية اللينينية وقرر الغرب ان الإسلام الراديكالي عدوها الأول رغم ان الدول المستعمرة هي التي انتجت الإرهاب الذي يناسب مشاريع إسرائيل في المنطقة، علماً ان أحدها هو مشروع نتنياهو في تحذيره أمريكا والغرب من إرهاب بعض الدول العربية وضرورة ضربها عسكرياً.
Laszlo Liszkaï: «Le monde selon Carlos»
Erick Bonnier, Paris 2017
219 pages