شعرنة الرواية

حجم الخط
2

يحتج بعض الروائيين الذين يكتبون الرواية بفائض شعري بكون الفعل الروائي جنسا أدبيا فضفاضا يقبل أي شكل من أشكال المقاربة الكتابية. وهي ظاهرة متفشية اليوم في العالم العربي، الذي يستقبل موجات هائلة من الخواطر الكتابية التي لا تنتمي إلى مفهوم الرواية كخطاب هدمي بنائي. بقدر ما تحتمي بآخر صرعات الحداثة والتجريب التي تقول برواية اللارواية. على اعتبار أن التقاليد الروائية – عربياً – ما زالت في طور التكوين. وكأنها تسقط بلاوعي في هاجس الشفاهية، المحتّم بلغة التخاطب العصرية.
وقد ساعد على تمادي هذه الظاهرة وجود قارئ لا يعنيه من الرواية سوى التقاط عبارات شاعرية دالّة لاستخدامها في التخاطب اليومي أو توظيفها في مواقع التواصل الاجتماعي، حيث تعمل هذه الروايات المحتقنة بالطاقة الشعرية على تحويل انتباه القارئ من جوهر الأحداث والشخصيات والسياقات والحوارات إلى التصميم الفني واللعب اللغوي المتمثل في سيل من الصور الشعرية، التي تنتصر للبنية الشكلية على حساب البنية الدلالية، ولا تأخذ في الحسبان كون الرواية بناء معقدا، متعدد الجوانب ولا تمثل اللغة إلا جانباً من جوانبه.
على هذا الأساس صارت تُكتب الروايات، أي بدون مواضعات جمالية مراعية للجنس الأدبي. بحجة المغامرة في أرض غير مأهولة سردياً، أو تثوير الفعل الروائي، باتجاه محكي الذات، حتى إن كانت تلك الذات الساردة، لا تمتلك ما ترويه من التجارب والخبرات الكفيلة. الأمر الذي جعل معظم التجارب تسقط في (اللغو) عوضاً عن التحليق الشاعري بتعاليات (اللغة). كنتيجة طبيعية لتسرب الفيض الشعري إلى البنية السردية بمنسوب يفوق احتمال بنائية النص، والاتكاء على الجانب الاستعراضي التزييني، فيما ينبغي أن يتم التعامل مع اللغة من منظور كلي وعضوي.
وهذا ما جعل الروايات المشعرنة عُرضة للتلفيظ والانبساطية المخلّة. بالنظر إلى أن النص الشعري ينهض على الذاتية الفارطة واللاتماسك مع فائض من المادة الحُلمية، فيما يتأسس النص السردي على التلازم البنيوي مع الزمان والمكان. والتفريق هنا ليس إجرائياً وحسب، بل وظيفياً أيضاً. إذ لا يوجد ذلك الجدار الفاصل ما بين الشعر والسرد، إلا أن السماح للغنائية بصيغتها الشعرية، للاستحواذ على النص تنهكه وتقوض أركانه السردية.
إن القراءة الصحيحة للرواية الشعرية تتطلب المعرفة الوثيقة بها، وقبل ذلك يتطلب الأمر معرفة عميقة باللغة وبمحطات إنشاء الكلام وتطويره، وهو إجراء يستوجب درس عملية الخلق الفني وشروطها المعقدة والمتشابكة، وبالتالي فإن كل ما يُكتب اليوم تحت هذا العنوان، بحاجة إلى فحص الوظيفة الشعرية المتحكمة في بنائية النص، إذ يلاحظ أن معظمها تدفع النص للتمحور حول الوظيفة الشعرية تمحوراً جمالياً محضاً، وتبالغ في الانشغال بالنسيج اللغوي، واختيار القاموس، على حساب الموضوع، الأمر الذي يعطل انفتاح النص الروائي على الخارج، ويستبقي كل العناصر حبيسة في الذات، وكأنها منذورة لوصف حالة أو موقف فقط.
ولأن حلقة إنتاج الروايات المشعرنة في العالم العربي على درجة من الاكتمال، أو الانغلاق بمعنى أدق، يتم تبرير انفلاتاتها كونها علامة من علامات النزعة الثورية للرواية الحديثة، حيث تعمل الجرعات الشعرية الزائدة في هذا الصدد، ومن منظور كُتّابها، على ترقيق البنية القصصية، والحد من الموضوعاتية، وتمرير الثيمة المركزية في دفقة شعرية كفيلة بتذويب الأفكار الكبرى في بنيات شعرية صغيرة تصب في استراتيجية النص الروائي.
وربما يبدو هذا التبرير منطقياً ومقبولاً عند قلة من الروائيين، أي أولئك الذين يعملون بوعي وحذر للمواءمة ما بين الشعر والرواية، وتأسيس نظرية روائية على قاعدة التضايف. بمعنى أن يمتص الخطاب الروائي من الشعر ما يحتاجه والعكس، ولكنها قاعدة منتهكة عند الروائيين الذين يجعلون من الرواية منطقة مفتوحة على اتساعها للاستباحة الشعرية، بحيث يتم تغييب الجانب القصصي الذي تنبني عليه مستوجبات السرد، بدعوى التجريب في رواية اللاحدث، أو اللاوعي، أو تفتيت الزمن، وتمزيق الموضوع وإنتاج رواية بشخصية تأكل نفسها.
الحداثة لا يمكن اختصارها في التكنيك التعبيري، أو في ما يُعرف بالتدمير الخلاق. لأنها حالة مركبة وكلية تماماً كما هي العلاقة بين الشعر والرواية، التي تقوم على التكامل، الذي يشبه التضاد الخلاق، الذي يسمح بالتفاعل النصي. بمعنى أن تأخذ الحكاية، باعتبارها وجهاً من وجوه الرواية، شكلاً هلامياً، أشبه ما يكون بالشكل المنفرط للنص الشعري، مع شيء من الغموض الذي يعادل تهويمات الشعراء. والإبقاء على الجانب الخبري في النص، والقبض على الخيط السردي، وتأطير ذلك كله في مدار زمني واضح المعالم. بمعنى أن تكون هذه المحصلة الحداثية نتيجة لتراكم تجريبي تاريخي طويل، وليس من منطلق نزوة إتّباعية.
ولكن الملاحظ أن الرواية المشعرنة تُكتب على أساس كونها محاولة للإنشاد عند شُباك الحبيبة، أو العويل على صدر الحبيب، في مونولوج حسّي مسترسل تغلب عليه الاستعادات اللفظية، مع انتباهات حوارية ساذجة لا تمت إلى لغة التخاطب الواقعي بصلة، حيث تبدو الرواية بمجملها وكأنها لوحات متلاصقة، يتم في كل مقطع منها التنويع على الموقف المراد وصفه أو الاستنقاع الشعوري فيه. الأمر الذي يوهم القارئ بأنه بصدد قراءة رواية ذات بنية وموضوع وشخصيات وأحداث، فيما هو يمارس أداء فروض صلاة تتشبّه بالرواية للهروب من الموضوعات الوعرة.
الرواية بمعناها الهدمي البنائي لا بد أن تحتوي في ما تحتويه على خيط سببي يشد إليه كل عناصر السرد. وتُستحضر بموجبه الوحدات السابقة ليتم ربطها في المشاهد اللاحقة. وهذا هو ما يعزز في الرواية محورها السياقي ويمنحها هويتها الجمالية، إذا ما تمت إزاحة هذا المحور عن صرامته وتحويله إلى محور إبدالي استعاري، فيه من مجازية الشعر، التي تعتمد على التكرار بمعناه المتحرك إلى الأمام، وكأنه يحفظ للسرد طزاجته، إلا أن إصرار معظم الروائيين على إثقال السرد بالمفردات الرنانة، والتوصيفات البليغة يصيب ذلك الخيط بالترهل، ويجعل من الرواية منصة للغناء.
وعندما ينصرف الروائي إلى التغني الشاعري بالحبيب، فهو لا يكتب رواية بقدر ما يشيّد تمثالاً لغوياً لشخص يحبه ببراعة شكلية. وهو فرض يمكن أن يؤدى شعرياً. أما الرواية فهي لا تقبل الصيغ الهلامية، بقدر ما تتأسس على العبارات الإشارية الدالّة. فاللغة في الرواية لا تعتمد على الفخامة والتجنيح بقدر ما تتوهج عندما تكون دقيقة في توصيفاتها والتصاقها بالحدث والشخصيات داخل مكوّن بنيوي، بمعنى أن الشخصية الروائية لا تبدو مقنعة أو فاعلة إذا ما تم استخدامها كقناع، كما يحدث في الحالة الشعرية، بالإضافة إلى أن الإفراط في تمزيق مفاصل الحدث من منظور شعري، قد يؤدي إلى وجود فجوات واسعة في القص. وهنا يمكن ملاحظة الجهد الذي يبذله الروائي لطمر تلك الفجوات بركام من العبارات الشعرية التي تنهك البنية السردية.
إن الاستغراق اللغوي في الأجواء التأمُّلية الصوفية، والانغماس الهذياني في المتعة البيانية، لا يصنع رواية، إنما يحط الفعل الروائي من مستوى الكتابة إلى عادية الكلام، خصوصاً إذا صاحب ذلك الدفق التصويري استثارة للعواطف، من خلال استعارات تهييجية، حيث يؤدي كل ذلك إلى طمس الموضوع أو إلغاء فاعليته. وحينها يمكن أن ينجرف النص إلى حافة الشهوي، وبذلك تنتفي عنه الصفة الفكروية. فيما يرتفع فيه منسوب الشبق والتباكي والتفجّع والتمني والرثاء. وهو أداء لا ينتج رواية ذات طابع شعري محقونة بنسيج لغوي شفاف وإيحائي، لأنها ناتجة عن ذات لا تجيد التعامل مع الأنساق الجمالية المختزنة في الشعر أو الرواية، ولا تعي الطريقة التي يتم بها استدخال الشعر في البنية الروائية.

* كاتب سعودي

محمد العباس*

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول سعيد ، فلسطين:

    كلام دقيق يا أستاذ محمد العبّاس …ولكنّ الروائي العربي اليوم يجد نفسه مضطرّاً إلى ذلك …على قاعدة ما قيمة الرواية …وما قيمة العمل الأدبي بالمجمل إذا لم يحصد عدداً كبيراً أو على أقل تقدير كافياً من القرّاء ….
    ما رأيك في رواية الكتّاب الشباب ؟ ..وما رأيك بالرواية التجاريّة ؟ ..
    وما رأيك بدور النشر اليوم ..التي لا تخفي طابعها التجاري ..وباعتقادي الشخصي أن كتّاب الرواية العرب لا يفتأون يفكرون بالحبر الذي سيغدق على ما سيكتبون ..وكم من الاقتباسات ستنشر على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي لأعمالهم …ولا يقترب من تفكيرهم : هل سيقدمون بأعمالهم الجديدة اختراقاً و طرحاً جديداً على مستوى الشكل والمضمون ؟
    أتمنّى عليك يا أستاذ محمد العبّاس أن تطترق في مقالاتك عن رواية الكتّاب الشباب …أو تجارة الرواية إن جاز التعبير

  2. يقول أحمد محمد سلطنة عمان:

    من أجمل ما قرأت في هذا المجال.. مقال عميق وممتع.

إشترك في قائمتنا البريدية