إن فكرة الموت في الإبداع البشري عموما، أدبا كان أم فلسفة أم فنا من الفنون، هي فكرة قديمة قدم الإنسان؛ إذ نجدها ثاوية في أول نص إنساني، سعى فيه الإنسان للتخلص من ربقة الخوف من النهاية ببحثه الدؤوب عن نبتة الخلود، أو ما تعارف عليه فلسفيا بإكسير الحياة.
أفكر هنا تحديدا في «ملحمة جلجامش»؛ هذه الشخصية الأسطورية التي حولت الأرض إلى مباءة تنضح فسادا، فاشتكاها الناس لكبير الآلهة، فكان أن خلقت الآلهة أورو شخصية قوية اسمها إنكيدو، وأمرتها بمواجهة جلجامش. لكن العلاقة بينهما، ستتحول ، فيما بعد، إلى صداقة حميمية ستنتهي بصدمة جلجامش، ذات صباح، وهو يفاجأ بموت إنكيدو، إذ سيخاطبه بهذه اللهجة الخائفة قائلا: «أي نوم هذا الذي غلبك وتمكن منك؟ لقد طواك ظلام الليل فلم تعد تسمعني، وإذا ما متُّ أفلا يكون مصيري مثل مصيرك؟ ملك الحزن والأسى روحي وها أنا ذا أهيم في القفار والبراري خائفا من الموت»، لينطلق بعد ذلك، سائرا في اتجاه المجهول، بحثا عن نبتة الخلود، إذ مباشرة بعد عثوره عليها، سيفقدها إلى الأبد، بعد أن سرقتها منه الحية عند النهر. في هذه اللحظة بالذات، فوجئ الإنسان، بفكرة الموت، ورهقه الخوف منه؛ وفي المقابل، انطلقت من ثم جذوة البحث عن الخلود، إلا أن فكرة الموت، ستتخذ على امتداد الزمن السيار، لبوسات مختلفة ومتباينة، تراوحت بين الموت كمشكلة فلسفية تارة وكفكرة ميتافيزيقية تارة ثانية وكتجربة وجودية معاشة تارة ثالثة. فالإنسان مثلا بالنسبة لهايدغر، هو «كائن من أجل الموت». والموت هو ذاك الموجود هناك، أو هو طريقة لوجود مضمر في الآنية، وليس نهاية للحياة. الموت هو «نهاية الكائن، من حيث هو دازين*». ونهاية الكائن «هي بداية هذا الكائن من حيث هو مجرد شيء قائم» (هايدغر). إن الموت في رحاب الفلسفة الهايدغرية، هو انصراف الكينونة نحو النهاية، أي نحو إمكانية ما. والكينونة نحو إمكانية ما، هي «الكينونة الخارجة إلى ممكن ما من خلال الانشغال بتحقيقه» كما يقول هايدغر. والأكيد، حسب هذا المفكر دائما، أن ما يطبع الموت، كحدث واقعاني، هو الفردية، ذلك أن كل شخص، يعيش هذه التجربة لوحده، ولا يمكن البتة « لأي دازين٭٭ «كينونة» أن يُناب فيه مطلقا».
ولما كان الموت، بالنسبة للمبدعين، قلقا يخوضونه بشغف، بالسير أفقيا، في اتجاه وجود الـ(هناك)، وذلك بمواجهة هذا الكائن المارد ـ الموت ـ والإقبال عليه، كمشكلة، لا الخوف منه، فإن السعي وراء الجمال والإبداع، حسب البعض، هو أفضل طريق إلى ذلك ( ألبير كامو).
إن الحديث عن الموت، في مجال الإبداع (فلسفة وأدبا)، هو أشبه ما يكون بالحديث عن الشمس، التي أشرقت، ثم غربت، فأشرقت في مكان آخر. الموت غياب وحضور. غياب هنا، وحضور هناك. إنه، بعبارة أخرى، انتقال من الألفة إلى الغرابة والاغتراب. والمرء «المغترب يتجدد بانتقاله إلى مكان غير مألوف. لأنه في هذه الحالة يستعير ثوبا جديدا يجعله يبدو في منظر غير معهود» (عبد الفتاح كليطو). ولا مراء في أن للاغتراب، علاقة وطيدة بالبعد، مثلما أن الألفة «ترتبط ارتباطا قويا بالقرب « (كليطو).
واستنادا إلى رأي ألبير كامو أعلاه، يمكن القول إن النظرة الإبداعية، في إدراكها للموت، هي نظرة إيجابية، تنظر إليه باعتباره وجودا هناك.. ولا تنظر إليه باعتباره شرا مخيفا، مثلما كان الأمر مع النظرة الأخلاقية. السبب في ذلك، هو سعي المبدعين الدؤوب، إلى الوجود المضمر في الآنية، الـ(هنا) والـ(هناك). فالوجود إمكانيات، غير ذاك المتجلي أو الظاهر فقط. لذلك كُنْت تجد المبدعين، دائما، يؤثثون أفضية عوالمهم هناك، قبل موتهم، بما تيسر من الشجاعة.
في الشعر العربي، نلقي حضورا قويا، لفكرة الموت، منذ أن تلبّد الشاعر الجاهلي بوحشة الصحراء، وتوالجَ في استعارات الخوف من الموت ومواجهته. فالشاعر الجاهلي ما فتئ ينظر إلى الحياة، ككنز في تناقص متزايد، مثلما نجد عند الشاعر طرفة بن العبد حينما يقول:
أرى العيش كنزا ناقصا كل ليلة
وما تنقص الأيام والدهر ينفد
وستتجلى هذه الفكرة أكثر، في تجربة الشعراء الصعاليك، خاصة عند عروة بن الورد، والشنفرى، وديك الجن.
وتبقى تجربة الشاعر مالك بن الريب، في اعتقادنا، وهو يواجه الموت، أقوى لحظة شعرية وجودية، في الشعر العربي، استطاعت أن تضع الموت والحياة، على حدّ مأساوي. لنتأمل هذه الأبيات التي تختزل فلسفة كاملة في قضية الموت كموضوعة أنطولوجية معاشة يقول:
ولما تراءت عند مرو منيتي
وخلّ بها جسمي، وحانت وفاتيا
أقول لأصحابي: ارفعوني، فإنه
يقرّ بعيني أنْ سهيل بدا ليا
فيا صاحبي رحلي، دنا الموت
فانزلا برابية، غني مقيم لياليا
وقوما، إذا استل روحي، فهيئا
لي السدر والأكفان، عند فنائيا
وخطا بأطراف الأسنة مضجعي
وردا على عيني فضل ردائيا
خذاني، فجراني بثوبي إليكما
فقد كنت، قبل اليوم صعبا قياديا
في الشعر العربي الحديث، قليلة هي التجارب التي طرقت هذا الموضوع بعمق فلسفي، ورؤية وجودية مختلفة ومغايرة تماما عما هو رائج وسائد. يمكن أن أذكر على سبيل التمثيل لا الحصر، تجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، خصوصا في طورها الأخير، كذلك تجربة الشاعر السوري أدونيس، وإن بشكل رمزي مختلف عن تجربة درويش، وفي المغرب أذكر بالخصوص، تجربة الشاعر صلاح بوسريف، في عمله الكبير والبهي، وهو بالمناسبة عبارة عن تخييل ذاتي (سيرة شعرية ذاتية) موسوم بـ«شرفة يتيمة»، خصوصا في جزئها الثالث المعنون بـ«لا يقين في الغابة».
والملاحظ، أن فكرة الموت، في الشعر العربي ككل تميزت بالرفض والتصدي لها حينا، وبالإقبال عليها بشغف كبير، حينا آخر، إسوة بأورفيوس الذي اختار مهاوي الهبوط إلى العالم السفلي.. عالم الأموات عن طواعية من أجل معشوقته يوريكيدي.
ولن أجد خيرا من هذه الأبيات، لختم هذا المقال، وهي للشاعر الملك المعتمد بن عباد قالها وهو يحتضر بمنفاه بقرية أغمات جنوب المغرب، تتضمن شجاعة كبيرة في مواجهة الموت. وقد كتبت بعد موته على شاهدة قبره. يقول فيها:
قبرك الغريب سقاك الرائح الغادي
حقا ظفرت بأشلاء بن عباد
نعم هو الحق وافاني به قدر
من السماء فوافاني لميعادي
ولا تزال صلاة الله دائمة
على دفينك لا تحصى بتعداد
٭٭ الدازين هو مفهوم للفيلسوف الألماني هايدغر
ويعني به الكينونة أو الوجود المنكشف
٭ كاتب مغربي
محمد الديهاجي