لم ألتقِ شكري سوى مرّات قليلة جدّا، أقدمها في التسعينات في ملتقى «مدنين» الشعري، وكنت في رحلة إلى الجنوب مع الراحل الكبير عبد الوهاب البياتي. وآخرها مصادفةً في مطعم البوليرو في تونس في يونيو/حزيران 2012، قبيل استشهاده بحوالي ثلاثة أشهر؛ إذْ قمت حالما لمحته جالسا إلى بعض أصدقائه؛ وسلّمت عليه وبادلته ـ وهذا طبعي مع الذين أحبّهم ـ بعض كلمات المزاح عن حكّام تونس الجدد.
قلت له إنّي أفكّر في إعادة صياغة نصّ، عن «ليلى» أو «مندورا» التي هجرتْ عالم السيرك؛ لتدخل قصر الامبراطور الروماني جستنيان، حاقدة على الجوع ؛ وقد ذاقت مرارته. فقامت بتجويع شعبها الذي تجمهر أمام شرفتها؛ يسأل الخبز، وحشرته في ساحة عامة؛ ليأكل للمرة الأولى والاخيرة في حياته ما لذّ وطاب، ثم أمرت الجنود فأرْدوا الجياع بعد شبع بسهامهم في مجزرة جماعيّة.
في البداية التزم الصمت، بل نظر إليّ باستغراب؛ حتى إذا أدرك أنّني كنت أمزح، ضحك. كنت أتابع نضاله، وأفرح وأنا أراه يكتسب صفة المناضل العقلاني الواقعي، ويتحرّر من سطوة الإيديولوجيا، فقد تربّينا ـ وإن التحقت بالجامعة قبله بزمن طويل (1968) ـ في وسط يساريّ دغمائيّ «منغلق إيديولوجيّا» على نفسه، إذْ بهرتنا ونحن شباب، أحداث مايو/ايار 1968.
كان شكري، في الأشهر القليلة التي سبقت رحيله، جزءا من المعارضة العقلانيّة التي تقدّر المكاسب التي تحقّقت منذ بناء دولة الاستقلال، وتعمل على حمايتها وتطويرها، وتأخذ بالاعتبار قيمة التبادل الرمزي أو البعد الثقافي النوعي في ديناميّة الاستقطاب العالمي. كنت أقول صار لزاما علينا الآن أكثر من أيّ وقت، أن نتقبّل فتوحات الحداثة، حتى ونحن نسبح في مياه ثقافتنا، من أجل أن لا يبتلعنا الليل مثل الأساطير.
قلت عندما التقيت بزوجته بسمة في حاجب العيون، هي ورفاقها من حزب»الوطد»؛ عزاؤنا أنّ الحياة التي سلبوه وهو في عزّ كهولته، هي ـ على جلالها ـ فترة قصيرة. ربّما ليس فيها تلك الأعماق السحيقة التي يسترهبها الشعراء، ولا تلك الأبعاد الفسيحة التي يضلّ فيها الفلاسفة، كما قلت مرّة عن محمود درويش. ومع ذلك فقد وهبـَها لنا جميعا، بل وهبنا تونس «المنقسمة» على نفسها الآن؛ وعلينا أن نرأب جميعا صدوعها. هو الذي لم يفقد صوته في فوضى الأصوات، الذي يلمح الأبد في ثنايا الزّمن، الذي ينادي في كتابه الشعري «أشعار نقشتها الريح»؛ على قتلته واحدا واحدا، الذي يهبط سلّم الذّاكرة وئيدا، إلى حيث يرى آثار طلقاتهم في المنزه السادس؛ وجسده في أحضان زوجته، في صبيحة أربعاء باردة،؛ على حين يهبط الضّوء وئيدا ثمّ يعتم. ولكن يكفينا قليل من الضّوء القادم من ضريحه؛ لنرى فيه وجوهنا شاحبة كالبراءة، بريئة كالنّدم!
كتبت ثمّة شجرة خضراء رماديّة مثل عمود الإشارات؛ مثل تلك التي رأيتها في رام الله منذ بضع سنين، هناك في مقبرة الجلاّز. لابدّ أنّ طيور الدّوري في تونس، لاذت بها قبل هبوط اللّيل. ولقد سمعت هذه الشّجرة تغنّي عند أوّل خيط من الشّمس، وكان الكرز يحمرّ في عسله الأخضر!
شدّتني في هذه المخطوطة ـ وقد أطلعني عليه الكاتب والجامعي شكري المبخوت، وطلب رأيي فيها؛ ولا أدري لِمَ لَمْ تنشر إلى حدّ الآن ـ أكثر من قصيدة، بلغتها الطازجة، وبلاغة اليوميّ فيها والمعيش، وبعدها عن التهويمات الاستعاريّة التي تفسد الشعر، وتجعل منه مجرّد أزهار بلاستيكيّة. قصائد استكشافيّة تروم أو تسبر أفقا، وتضيق وتتسع بحسب الموضوع الذي تعالجه، لكأنّني وأنا أقرأ هذه القصائد، أنظر إلى صورتي في المرآة وأتملاّها وهي تنظر إليّ ولا تراني.. مزيج من شفيف العين وعتمتها.
هذه المجموعة التي كنّا ننتظر أن تصدر في ذكراه العامَ الماضي، تحتاج إلى وقفة غير هذه. أمّا وقد ائتمنني صديقي عليها، فأنا لا أملك سوى أن أخصّكم بقصيدة منها؛ (كتبها 20-2-89) على أن أعود إليها قارئا حالما تصدر؛ فأشير إلى المواضع القليلة التي أعملت فيها قلمي، وهي هَناتٌ عروضيّة بسيطة. رحم الله شكري. كان أكبر من الموت، كما يقول هو نفسه في هذه القصيدة: «قليلا من الوقت/ حتّى أرتّب وحديَ أسطورتي المقبلهْ».
دفتر الغريب
قليلا من الوقتِ
حتّى أرتّب مملكتي
فأنا متعب
وبـي شغف لجنون المساءِ
قليلا من الوقت
ها أنذا أستعدّ لأن تفتحي الباب
أو تدخلي كغزال الصّحارى
على وحدتي المهلكه
قليلا من الوقت
حتّى يمدّ دمي راحتيه
ويجمع عمر النساءِ
قليلا من الوقت
يا وردة سرقت فرحي
واختفت في تفاصيلها الخائفهْ
سوف أنشدها في العذاب
وأنشدها في حضور الغياب
وأنشدها في مسيرة عمْر الخراب
وأهجو جنوني على حافة الوقت
يا وردة ذابلهْ
قليلا من الوقت
كي أغسل الروح من لحظة خائنهْ
قليلا من الوقت
كي أزرع الموت في دهشتي
وأسمّي دمي ملكا
من جديد
وأذرو إلى الريح
امرأة هالكهْ
قليلا من الوقت
حتّى أرتّب مملكتي
ها هنا جسد للخريف
هناك قرنفلة مائلهْ
وهنا نهدها ينحني
ويغادر دمع النّزيف
على شفة حالكهْ
قليلا من الوقت
حتّى أرتّب وحديَ أسطورتي المقبلهْ
* كاتب تونسي
منصف الوهايبي*
شكرا للأستاذ. نعم شكري بلعيد كان شاعرا، ولكنّ السياسة صرفته عن الشعر.. هو خسارة للأدب وللسياسة. رحمه الله