إذا كان تاريخ اليسار الأوروبي منذ منتصف القرن العشرين حتى مطلع الثمانينيات تاريخ أزمات تغري بالخيانات، فإنه قد تحول في العقود الثلاثة الأخيرة إلى تاريخ خيانة رسمية محصنة براحة الضمير. أما البراعة الفائقة لدى من ينعتون بالمجددين، وعلى رأسهم سيىء الذكر توني بلير، فقد تمثلت في الإيهام بأن الموجود إنما هو واجب الوجود، أي في إظهار الاختيار السياسي المحسوب مظهر الاضطرار الانتخابي القاهر.
ولكن رغم تواتر الخيانات، التي كان من المفترض أن تحل إشكالية القدرة على الفوز بالانتخابات أولا وإشكالية قابلية الاستمرار في الحكم ثانيا، فإن أزمة اليسار الأوروبي لا تزال مستمرة منذ أكثر من ثلاثة عقود. حيث أن تجارب اليسار في الحكم كانت مخيبة للآمال، سواء في إيطاليا التي كانت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى أوائل هذا القرن معقلا لأكبر حركة يسارية في أوروبا بحكم شعبية الحزبين الشيوعي والاشتراكي، أم في فرنسا التي انتظر فيها اليسار طويلا قبل الوصول إلى السلطة أول الثمانينيات ولكنه سرعان ما تنكر لقيمه حتى قبل أن يضطر إلى تجربة «المساكنة» بين رئيس دولة من الحزب الاشتراكي (ميتران) ورئيس حكومة من الحزب الديغولي (شيراك، ثم بالادور).
ولكن ما حصل في اليونان وإسبانيا هذا العام وفي بريطانيا منذ شهر يؤكد أن أنباء موت اليسار هي أنباء موت مبالغ فيها، حسب قولة مارك توين الشهيرة. هذا رغم أن مسلّمات «الثورة المحافظة»، التي انتصرت بوصول مارغريت تاتشر ورونالد ريغان إلى الحكم، لا تزال هي الحاكمة الفعلية في الدول الغربية، بصرف النظر عن هويات الحكومات المتعاقبة، لأنها لا تزال تتحكم حتى الآن في شروط الفعل السياسي والاقتصادي بحكم ارتباطها العضوي بالمنظومة المالية المعولمة التي استلب الاقتصاد الإنساني بأسره لصالحها.
أما الحقيقة البسيطة، والمنسيّة، التي تفسر استمرار هذا الوضع منذ خمس وثلاثين سنة، فهي أن اليسار قد صار يفتقر إلى الأفكار افتقارا مزمنا ألجأه إلى إسلام أمره لإرغامات الوضع القائم، أي إلى التكيف مع فكر الرأسمالية المتوحشة السائد – الفكر الذي سمته «لوموند ديبلوماتيك» منذ بدء التسعينيات «الفكر الأوحد». فليس غريبا إذن أن يجد اليسار نفسه غريبا في عالم يمور بالتحولات العظمى التي لم تنقطع منذ أن «انتقمت القوميات من الإيديولوجيات» وانتصرت قيمة الحرية على فريضة المساواة. عالم لم يعد فيه متسع لمعارك القرن التاسع عشر، أولا لأن المنطق الحضاري ذاته تغير، بسبب تقلص أهمية الصناعة في الاقتصاد المعاصر وتحول المجتمعات الغربية إلى مجتمعات ما بعد صناعية. وثانيا لأن خطوط الفرز الاجتماعي تحركت حراكا كبيرا بسبب تقلص الشرائح العمالية وتناقص فعلها (بل، وفي بعض الحالات، تناقص وعيها) النقابي والسياسي.
ولكن رغم كل هذا، فإن هنالك ثلاثة معطيات هامة تفسر نجاح اليساري الأصيل جريمي كوربين في الفوز بزعامة حزب العمال في بريطانيا. المعطى الأول هو أن الديمقراطية الاجتماعية، التي شاع تسميتها بـ«الديمقراطية الاشتراكية»، قد صارت قيمة أساسية فاعلة في تشكيل الثقافة السياسية في جميع بلدان أوروبا الغربية. أي أنها تحولت مطلبا شعبيا حقيقيا مؤداه أن الاقتصاد الحر هو المجال الطبيعي للنشاط الإنساني ولكن بشرط ضمان الموازنة بين رأسمالية المجتمع ومسؤولية الدولة، وذلك باضطلاع السلطات العامة بواجب تأمين التكافل الاجتماعي. المعطى الثاني هو أن بريطانيا صارت تمثل منذ العهد التاتشري أسوأ حالة، في أوروبا الغربية، من حالات التفاوت واللا ـ مساواة بين الشرائح الاجتماعية، حيث ما تنفك الهوة تتسع بين أغنياء يزدادون غنى وفقراء يزدادون فقرا. بل إن البلاء عظم أثناء حكم «حزب العمال الجديد» بزعامة توني بلير. فقد أوغل بلير في ما سميناه «الخيانة الرسمية المحصنة براحة الضمير» إلى الحد الأقصى. ولهذا كان المحتجون يرفعون لافتات كتب عليها «توري بلير» (وتوري هو الاسم الشعبي لحزب المحافظين).
أما المعطى الأخير، فهو أن هنالك «طلبا» يساريا حقيقيا في البلاد، خصوصا لدى الشباب، وأن هذا الطلب قد وافق «عرضا» مقنعا، بل موقدا للأمل. ذلك أن جريمي كوربين، «ناسك حزب العمال» كما وصفته لوموند، قد أفلح في قلب صورة السياسي عند الناس: فقد اكتشفوا رجلا لا أثر في كلامه للنفاق. يسأل فيجيب صدقا. مناضل سياسي اتخذ الثبات على المبدأ موقفا وانعدام الحيل أسلوبا.
٭ كاتب تونسي
مالك التريكي