توزيع شهادات الثقة والدعم، في المجالين الاقتصادي والسياسي، التي تصدرها الدول تجاه بعضها بعضا، أو تصدرها تجمعات المؤسسات المالية الدولية والخاصة تجاه هذه الدولة ونظام الحكم فيها أو تلك، أصبحت ظاهرة موسمية في طول وعرض بلاد العرب.
لكن الشهادة تحتاج إلى إثبات مصداقيتها وموضوعيتها وفائدتها، من خلال الأسس والمعايير التي اعتمد عليها مانحو الشهادة من جهة، ومن خلال الواقع الذي سيحكم استعمال تلك الشهادة. من هنا فإن صدور شهادة ثقة ودعم لانطلاقة استثمارية إقليمية ودولية كبيرة وشديدة التنوع تستدعي الإجابة على سؤالين: أولهما يتعلق بأسس وطبيعة النظام الاقتصادي الذي سيتعامل مع تلك الاستثمارات، وثانيهما يتعلق بأسس النظام السياسي الذي سيضبط ويراقب ويقيم نتيجة تلك الاستثمارات. بالنسبة للجانب الاقتصادي لن يكفي القول بأن الاستثمارات ستتعامل مع نظام رأسمالي وكفى، فهناك أنظمة رأسمالية شتى وليس نظاما واحدا.
فاذا كانت الاستثمارات ستتعامل مع نظام رأسمالي ملتزم التزاما تاما شبه ديني بترك أمور الاقتصاد ومسيرته ونتائجه لقوانين السوق الحر، الذي لا يخضع إلا لمبدأ العرض والطلب من جهة والتنافس المنفلت من كل عقال من جهـــــة ثانــية، فإن حصيلة تلك الاستثمارات ستنتهي في مجملها بزيادة غنى الأغنياء وزيادة فقر الفقراء، ذلك أن مثل ذلك النظام الرأسمالي العولمي المتوحش الفاقد الضمير، قد أثبت خلال الثلاثين سنة الماضية من ممارسته، من دون ضبطه من قبل سلطات الدولة التي اضعفت وهمشت، ومن دون التزامه تجاه المحافظة على دولة الرفاهية الاجتماعية التي كانت حلا وسطا بين الرأسمالية والاشتراكية، عند نهاية الحرب العالمية الثانية، أثبت أنه كان طريقا لسلب القليل الذي في يد الطبقات الفقيرة والمتوسطة، ليضـــاف إلى الكثير الذي في يد مجموعات صغيرة من البشر المحظـــوظين أو الفاسدين الناهبين، بل وعلى الرغم من ادعاءات معتنقيه ومدارسه، فإنه نظام يبطئ عجلة الاقتصاد ويزيد القلق في أسواقه ويقود من أزمة إلى أزمة أكبر وأفدح.
وهذا يقودنا إلى سؤال آخر مشروع: من هم الاقتصاديون الذين ستناط بهم مسؤولية الإشراف على مسيرة ووجهة تلك الاستثمارات الهائلة؟ فإذا كانوا من الذين يؤمنون بوهم «علمية» الاقتصاد واقترابه من صرامة العلوم الطبيعية، وإذا كانوا من الذين يحملون الأكذوبة القائلة بأن الأغنياء يجب أن يشجعوا ليزدادوا غنى حتى يستثمروا أكثر في عجلة الاقتصاد، ومن ثم تتسرب أوتوماتيكيا أجزاء من ثرواتهم الهائلة إلى أيادي الفقراء، وإذا كانوا من الذين لا يؤمنون بضرورة دولة الرعاية الاجتماعية والمؤسسات الخاصة ذات الضمير والقيم وذلك من أجل توزيع أفضل للثروة، ومن أجل حماية الفقراء والمهمشين، وإذا كانوا من الذين يقللون من أهمية الاقتصاد الصناعي واليدوي الانتاجي في توليد الثروة، ويعلون إلى حد الهلوسة والقداسة لاقتصاد إنتاج ونشر المعرفة والانغماس المريض في موضة تنويع وتبديل وتغيير وسائل التواصل الإلكتروني إلى حدود الهذيان، وإذا كانوا من الذين لا يرون في إسعاد الإنسان إلا الاستجابة المتعاظمة لرغباته الاستهلاكية النهمة المليئة بالعلل، التي تخلقها ماكنة إعلانية وإعلامية هائلة، وإذا كانوا من الذين لا يرون في الفكر الاشتراكي إلا نجاسة ورجسا من الشيطان، لا يمكن الاستفادة من أي جزء منه، إذا كان الاقتصاديون الذين سيشرفون على سيرورة تلك الاستثمارات من هذا النوع، فإن بلايينها ستذهب هباء، بل وستزداد ديون الدولة التي سيتحمل في النهاية وزر دفعها الفقراء ومتوسطو الحال.
وإذا كانت الدول المستقبلة لتلك الاستثمارات تعتقد بأن بناء مدن جديدة بالغة الحداثة والجدة في مظاهرها وحركتها اليومية، ومليئة بالأبراج وناطحات السحاب ومجمعات التسوُق والتسلية، بأن بناء كذا مدن ســــيقلل من حمــــل أوزار المياه الملوثة وانتشار الأمراض والأوبــــئة، ورداءة التعليم وتخلف حياة الأرياف وموت الأطفال ولعنات الفقر وقلة الفرص وتزايد البطالة، وانتشار ثقافات التسطيح والبهرجة واللغو، فإنهم باعتقادهم هذا يرتكبون أخطاءَ فاحشة ستظهرها فترة ما بعد الاستثمار.
سيكتشفون أن مدن اليسر المتوهُم هي بدورها مدن الأوهام، إذ أن وجودها وهي محاطة بمدن الأكواخ المتهالكة والشوارع المكتظة بأطفال الفقر والجهل، وبالعمال والبائعين المنهكين الذين لا يزيد دخلهم اليومي عن دولار أو دولارين، سيقلبها إلى مدن الوهم الشهيرة (virtual Cities) التي لا ارتباط بينها وبين الواقع المرير.
أما بالنسبة للجانب السياسي فإنه منذ تفجُر ثورات وحراكات الربيع العربي أصبح حديث الناس، فالنظام السياسي غير الديمقراطي، غير الخاضع لمراقبة ومساءلة المجتمع، غير القادر على بناء مجتمع مستقر مسالم، من دون استعمال كثيف ظالم لقبضة أمنية غير منضبطة بمعايير القانون والعدالة وحقوق العباد الإنسانية، غير القادر على ضبط وتنظيم النظام الاقتصادي ليكون نظام توزيع عادل للثروة وسدُ لحاجات المواطنين المعيشية الأساسية في المأكل والملبس والمسكن والعمل والخدمات الصحية والتعليمية اللائقة، فالنظام الذي لا يلتزم بتلك المسؤوليات ولا يمارس إعطاء الأولويات المكانة الأعلى، هذا النظام لا يمكن أن يؤتمن على جعل بلايين الاستثمارات مناسبة لبناء اقتصاد عادل إنساني تنموي، بدلا من السماح لأن تكون تلك البلايين فرصة جديدة للسرقة والنهُب وبناء اقتصاد عليل فاجر.
قد توزع تلك الشهادات ولكنها ستكون شهادات مزورة.
٭ كاتب بحريني
د. علي محمد فخرو