شهداء ولكن

ربما كان توصيف (الشهيد) وكل ما له علاقة بهذه المفردة من اكثر الكلمات تداولا في بلدي، لانه بلد لم يذق طعم الاستقرار منذ عقود، حروبه متوالدة، حرب من بطن حرب، ومظالمه السابقة فرخت مآسيه اللاحقة دون فرجة أمل، ومازال كل الفرقاء يرفعون لافتاتهم وقد كتبوا عليها الآية القرآنية «ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله امواتا، بل احياء عند ربهم يرزقون» حتى بتنا من كثرة معاشرتنا وتعودنا الكلمة، لا نشعر قيمتها، بل نكاد نحس انحدار المعنى السامي لقيمتها، نتيجة تمرغها في مجانية التعميم، ولأننا نتاج واقع مأزوم طافح بالحروب والاقتتالات الداخلية والخارجية، بات محتم أن تتحول القيم الكبيرة إلى بضاعة كاسدة في صراعنا اليومي مع الموت.
كنت فتى اعيش في حي شعبي في بغداد في مطلع ثمانينيات القرن الماضي عندما اندلعت الحرب العراقية – الايرانية، وبعد ايام جاءوا بأول تابوت ملفوف بالعلم العراقي، وقالوا استشهد ابن جارنا في الجبهة، كان للكلمة وقع مهيب، وخرج الحي عن بكرة ابيه يسير في تشييع جثمان الشهيد، وحتى رئيس الجمهورية زار عائلة الشهيد وقدم واجب العزاء لهم بنفسه، حيث كانت للحروب نكهة متأتية من الذاكرة القريبة لما خضناه منها، حرب تشرين، حرب الشمال، وبعض المعارك الصغيرة هنا وهناك، والكل يتوقع نهاية الامر في غضون اسابيع وربما في اشهر لمن كان متشائما وبعيد النظر، ولم تخطر في بال اعتى الساسة المحنكين أن بلوتنا ستستمر ثماني سنوات، لتتحول فيها كلمة الشهيد إلى حروف تخط على يافطة سوداء، يتبعها اسم شخص كان يوما ما ريحانة شباب عائلته.
وتكاثرت الخرق السوداء وازدادت مع كل هجوم أو عملية عسكرية تندلع على الجبهة الشرقية، فتتغطى جدراننا بالسواد، ولم نعد نذكر الآية القرآنية، بل اصبح لزاما على الجميع أن يذكروا قول «الرئيس حفظه الله ورعاه» بهذا الشأن، حيث عممت مقولته (الشهداء أكرم منا جميعا) لتصبح شعارا موحدا يخط على خرقنا السود.
تأملت الأمر اكثر من مرة وحاولت أن ابحث في المصطلح وافككه، فابتدأت بالقواميس؛ الشهيد في قواميس اللغة صيغة مبالغة على وزن فعيل للاصل الثلاثي (ش هـ د)، ويقال استشهد أي طلبت شهادته لتأكيد خبر قاطع أو معاينة ما، ولم يأت ذكر الكلمة في أقدم نص عربي مؤكد وهو القرآن الكريم بالمعنى الذي نفهمه اليوم، انما كان دلالة الكلمة هي الشاهد، أما المعنى المستعمل للشهادة اليوم فقد جاء في القرآن الكريم بصيغة واحدة هي (الموت في سبيل الله)، كما أن (الشهيد) اسم من أسماء الله الحسنى، وبحسب اللغويين هو الشهيد لانه: الحاضِر المُشاهِد، والمُطّلِعُ على ما لا يعلمه المخلوقون إلاّ بالمشاهدة والحضور، المُبيِّنُ بالدَّلائل والشّواهد لعدلِه وتوحيده وصفات جلاله، المشهودُ له بالوحدانيَّة والعبوديَّة. لكن من جهة اخرى كلمة (شهيد) كان لها دلالة الموت الدينية في الديانة المسيحية والمفارقة أن الكلمة المستخدمة (Martyr ) في معناها الأصلي هي الشاهد الذي يدلي بشهادته في المحكمة، واستخدمت بهذا المعنى في العهد الجديد من الكتاب المقدس، لكن التغيير ابتدأ عندما اصبح (شهداء الكنيسة الاوائل) يحضرون امام المحاكم، وتطلب شهادتهم أو الاعتراف بانتمائهم، ولانهم صادقون ولا ينكرون علاقتهم بالدين الجديد، لذلك تعرضوا لأقسى انواع التعذيب والتنكيل، حتى وصل الامر بهم إلى ابشع الميتات، وهم يواجهون الوحوش الجائعة في ساحات المصارعة، فتحول مفهوم الشهادة من الشاهد إلى الشهيد، لكن المصطلح في الدين المسيحي بقي في إطار الموت في سبيل الدين في مراحله المبكرة، في مرحلة اباء الكنيسة الذين صكوا هذا المصطلح ورأوا في السيد المسيح اول الشهداء عندما عذب ومات على الصليب.
وقد اتخذ الامر مسارا مشابها في الحيثية في الديانة الاسلامية، ونجد ذلك تحديدا في كتب الحديث والتفسير التي استفاضت في شروحات لاحقة على النص القرآني، فنجد المحدثين والفقهاء وقد فسروا الامر بأن (الشهيد) هو من يقتل في سبيل الله تعالى، وسمي شهيدا لأنه يكون يوم القيامة شاهدا على كل من ظلمه من اعداء الحق، وفي الحديث الشريف الذي رواه مسلم والبخاري في الصحيحين تفصيل من هو الشهيد (من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد) بل توسع البعض في الامر ليشمل من مات حرقا أو غرقا عد شهيدا.
ومع أن مصطلح (الشهيد) يحمل معنى دينيا وانزياحا نحو مستقبل اخروي، وفق معايير دينية تفصلها الاديان بحسب معتقداتها، إلا اننا نجد أن المصطلح توسع ليشمل احزابا وحركات غير دينية، بل ربما كانت متقاطعة مع الدين والتفكير الديني لكنها تتبنى المصطلح، مثل (شهداء الحزب الشيوعي) جملة يمكننا أن نقرأها كثيرا في الاشارة إلى المناضلين من افراد هذا الحزب، الذين قضوا في صراعهم ضد مضطهديهم من الانظمة، أو من الاحتلال، كذلك بات امرا طبيعيا طرح مفاهيم اوسع مثل شهداء الوطن أو شهداء الواجب أو شهداء الطبقة العاملة، وهنا تشتبك مفاهيم الشهادة بمفاهيم العطاء والتضحية، ولان دلالة الشهادة هي اعلى ما يمكن أن يقدمه الانسان، الصقت هذه التيارات أو الاحزاب والحركات مفهوم الموت الديني بما تقدمه حتى إن كانت لا تؤمن بكل ما يقدمه الدين من معطيات.
والحديث عن الشهادة لابد ان يجرنا إلى ما بات يعرف بـ(العمليات الاستشهادية) التي يعتبرها بعض الفقهاء المعاصرين عمليات انتحارية ويدينها، بينما يعتبرها البعض الاخر عمليات استشهادية وان منفذها شهيد يتبوأ مكانه في الجنة مع الانبياء والصديقين، ولكل فريق دليله الذي يقدمه لمريديه، فالفريق الاول يستدل على حرمة هذه العمليات بقوله تعالى «وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ» النساء/29، وقول الرسول (ص) «من قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِي يَدِهِ يَجَأُ بِهَا فِي بَطْنِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدًا مُخَلَّدًا فِيهَا أَبَدًا» رواه البخاري (5442)، بينما يرى الفريق الثاني عكس ذلك، فمثلا يقول د. منير جمعة عضو هيئة علماء الجمعية الشرعية بمصر؛ أن النبي (ص) أذن لعوف بن عفراء ولعُمير بن الحمام وأنس بن النضر بالاقتحام على العدو في غزوة بدر ولم يسألهم عن طريقة اقتحامهم أو صفته، ولم يشترط عليهم شروطا لهذا الاقتحام. ويضيف قائلا: وقد جاء في أخبار من كان قبلنا ما يدل على جواز التضحية بالنفس في سبيل الله لتحقيق مصلحة الدين، كما جاء في قصة الساحر والراهب والغلام التي جاءت في صحيح مسلم، وعلق ابن تيمية على هذه القصة بقوله: إن الغلام أُمر بقتل نفسه لأجل مصلحة ظهور الدين، ولهذا جوّز الأئمة الأربعة أن ينغمس المسلم في صف الكفار، وإن غلب على ظنه أنهم يقتلونه إذا كان في ذلك مصلحة المسلمين، ومن هنا يتضح أن التضحية بالنفس لإعزاز الدين شيء حسن.
إن اغلب من يمارس (العمليات الاستشهادية) اليوم هم مقاتلو ما يعرف بالحركات السلفية الجهادية، والمفارقة أن اكبر فقهاء السلفية في السعودية – والمفروض انهم يمثلون مرجعيات فقهية للحركات الجهادية – كفروا هذه العمليات، فقد سئل الشيخ عبد العزيز ابن باز مفتي المملكة العربية السعودية: ما حكم من يلغم نفسه ليقتل بذلك مجموعة من اليهود؟ فأجاب: «الذي أرى وقد نبهنا غير مرة أن هذا لا يصح، لأنه قتل للنفس، والله يقول: «ولا تقتلوا أنفسكم»، ويقول النبي (ص) «من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة»، رواه البخاري (5700) ومسلم (110). كذلك استفتي الشيخ ابن عثيمين وهو من كبار علماء السعودية حول العمليات الانتحارية فأجاب بما اجاب به استاذه الشيخ بن باز من حرمة هذه العمليات وان منفذها خالد في النار.
بينما نجد بعض الفقهاء من ذوي الاهواء السياسية، التي تميل بحسب المصالح قد تغيرت فتاواهم بين الجواز والحرمة، فقالوا بجوازها شرط اخذ موافقة الابوين، أو الزوج اذا كانت منفذة العملية متزوجة، ثم بعد أن تغيرت اجنداتهم السياسية واصبحت هذه العمليات تهدد اولياء نعمتهم افتوا بحرمتها، ليبقى المفهوم زلقا ومنفلتا وملتبسا يتراوح بين شهداء هنا وشهداء هناك دون أن نملك له تحديدا.
كاتب عراقي

شهداء ولكن

صادق الطائي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    لقد غلبَ لفظ (الشهيد) في لسان الشريعة على مَن يُقْتل مجاهِدًا في سبيل الله، ولكن مَن ينظُر في القرآن الكريم، يجد أنَّ لفظ (شهيد) لَم يردْ في المواضع التي أورده فيها القرآن بهذا المعنى الذي يدلُّ على الاستشهاد في سبيل الله، بل نرى القرآن الكريم قد آثَر لفظ (القتْل) على لفظ الاستشهاد عند ذِكْر القتال، والقتْل في سبيل الله كما في قوله – تعالى -: ﴿ وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 154]، ولَم يَجِئ النظم القرآني بلفظ (يستشهد) بدلاً عن لفظ (يقتل)، الذي جاء عليه النظم القرآني.

    ومثل هذا قوله – تعالى -: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169]، وقوله – سبحانه وتعالى -: ﴿ وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [آل عمران: 157]، وقوله – تعالى -: ﴿ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 74]، وقوله – سبحانه -: ﴿ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ﴾ [التوبة: 111]، وهكذا نرى الآيات القرآنية تتوارَد على لفظ (القتْل)، ولا نجد موضعًا واحدًا جاء فيه لفظُ استشهاد بدلاً عن لفظ القتْل.
    – عن شبكة الألولة –
    ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول سمير احمد بريطانيا ،لندن:

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
    أود أن أوجه عنايتكم إلى أن الشهيد درجة عظيمة يبلغها المؤمن وتعني انه عبد الله كما لو كان يراه.و قد جاء في القرآن الكريم : أولئك الذين انعم الله عليهم من النبيين والصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا. النساء 69
    ولذا ندعوا به يجعلنا الله مع الحاصلين علي درجات النبيين والصديقين و الشهداء و الصالحين. التفسير الكبير الجماعة الأحمدية. ولكم جزيل الشكر والسلام.

  3. يقول د محمد شهاب أحمد / بريطانيا:

    سؤالي : كيف تنظر السلطة في العراق بعد ٢٠٠٣ الى أولئك الشباب اللذين سقطوا في الحرب العراقية الإيرانية …أرجو أنهم لا يعتبروهم من “أزلام النظام “!
    و الشيء بالشيء يذكر : عام ٢٠٠٩ رجعت للعراق أول مرة منذ الغزو و ذهبت الى وزارة الصحة لأرى إمكانية العودة للعمل . الموظف الشاب خاطبني : دكتور هل تريد الطريق السريع للعودة للعمل أم الطريق البطيء ؟!……مستغرباً ، أجبته ما هو الطريق السريع ( و خير البر عاجله ) ، أجابني ، إن كان في عائلتك أحد الشهداء من الأحزاب !…شكرت له توضيحه و قلت أخي ضغوط في الطريق البطيء ……و لا زلت أنتظر !!
    لا زالت صورة بعض من سقطوا في الحرب العراقية الإيرانية أمام ناظري ، و تقض مضجعي !!!!!

  4. يقول د محمد شهاب أحمد / بريطانيا:

    سؤالي : كيف تنظر السلطة في العراق بعد ٢٠٠٣ الى أولئك الشباب اللذين سقطوا في الحرب العراقية الإيرانية …أرجو أنهم لا يعتبروهم من “أزلام النظام “!
    و الشيء بالشيء يذكر : عام ٢٠٠٩ رجعت للعراق أول مرة منذ الغزو و ذهبت الى وزارة الصحة لأرى إمكانية العودة للعمل . الموظف الشاب خاطبني : دكتور هل تريد الطريق السريعا للعودة للعمل أم الطريق البطيء ؟!……مستغرباً ، أجبته ما هو الطريق السريع ( و خير البر عاجله ) ، أجابني ، إن كان في عائلتك أحد الشهداء من الأحزاب !…شكرت له توضيحه و قلت أخي ضعني في الطريق البطيء ……و لا زلت أنتظر !!
    لا زالت صورة بعض من سقطوا في الحرب العراقية الإيرانية أمام ناظري ، و تقض مضجعي !!!!!ع

إشترك في قائمتنا البريدية