لم يقترن بلد باسم قائد سياسي مثل اقتران العراق باسم نوري باشا السعيد، إلى درجة أن بعض الكتاب، مثل البريطاني السر هارولد انتوني نتنغ، وصفوا العهد الملكي في العراق بأنه عهد نوري السعيد.
وكانت نتائج حكمه خير دليل على اختياره الأسلوب الصحيح، الذي كان في تأسيس حكومة قوية تفرض النظام والعدل على الجميع، من تعليم واقتصاد متطورين والعمل الجاد والانضباط الشديد. وكان له الكثير من المنافسين والأعداء اختلفوا معه في أفكارهم مثل، ياسين الهاشمي ويونس السبعاوي، اللذين كانا في مثل وطنيته. ونقيضهم من أمثال الحزب الشيوعي الذي دعا إلى هدم الدولة والمجتمع في العراق والتبعية للاتحاد السوفييتي. ومع ذلك فقد تغلب عليهم جميعا عن طريق الصراع السلمي في أغلب الأحيان فقد كان العنف بالنسبة لنوري باشا السعيد الملاذ ألأخير دائما. وحتى في حالة نشوب صراع سياسي فإنه ما أن تنتفي الحاجة له حتى يقوم نوري السعيد بالعودة إلى أواصر الصداقة مع عدو الأمس، فالمسألة ليست شخصية والمصلحة الوطنية فوق كل شيء. ولم يهتم كثيرا بسلامته الشخصية وحارسه الوحيد كان سائقه ومسدس الكولت الصغير الذي كان يحمله دائما، وكم من المرات شاهده الناس بينهم حتى بدون هذا الحارس الوحيد. فالعراقيون بالنسبة له أبناء له ومتعة الأب هي الاختلاط بأبنائه، ولذلك فقد كان بابه مفتوحا للجميع مستمعا لناقديه بكل رحابة صدر، وكان شديد الثقة بنفسه إلى درجة أنه اعتقد باستحالة قيام أي شخص باغتياله وهو صاحب المقولة الشهيرة «إن الذي يقتلني لم يولد بعد»، إلا أنه لم يكن يتخيل أن بعض الذين صنعهم بنفسه سيأخذونه على حين غرة. ومن الممكن القول إن شخصية نوري السعيد تمثل الشخصية البغدادية آنذاك بخفة دمها وأدبها الجم والتمسك بالتقاليد العراقية الأصيلة.
وكان شديد التمسك بالعائلة المالكة في العراق، لكونها رمز الدولة العراقية، على الرغم من وقوع بعض الخلافات مع بعض أفرادها مثل الملك غازي والوصي على العرش (ولي العهد لاحقا) عبدالإله فهذه الخلافات لم تكن بالنسبة له سوى زوابع في فنجان. واعتقد نوري باشا السعيد أن العراق في وضعه الحالي غير قادر على النهوض بمفرده، ولذلك فإنه يحتاج إلى مساعدة العالم المتقدم، كما أنه من الخطأ أن يكون العراق في المعسكر الخاسر في الأزمات والحروب العالمية، ولذلك اختار بريطانيا كحليف قوي يعتمد عليه العراق، فقد كان يعتقد أن المعسكر الذي يضم بريطانيا كان سيكون المنتصر في الأزمات العالمية، وقد أثبت التاريخ صدق حدسه، وكان يعرف جيدا أن التطور ووطنية الحكم خيرا أسس لبناء الاستقلال المرجو للبلاد. ويدين الكثير من الشخصيات العراقية له لإعطائهم الفرصة للدخول في معترك الحياة السياسية.
ولكن علينا هنا أن نصف حالة العراق في نهاية الحرب العالمية الأولى، وبعد أربعة قرون من الاحتلال العثماني. فلم يهتم العثمانيون بالعراق وكان هذا واضحا من قلة المشاريع التي قاموا بها فيه، ولذلك انتشرت الأمية وانعدمت الصناعة وتضررت الزراعة كثيرا، وانتشرت الأمراض تفتك بالعراقيين بدون وجود لأي رعاية صحية، بل أن بعض السياسات العثمانية كان لها ضرر فادح. ومع ذلك فإن إهمال العثمانيين ترك المجتمع العراقي في حالة مستقرة نسبيا سمحت بظهور بعض المثقفين الذي كانوا فوانيس في ظلام دامس. ولم يكن العراق صحراء تعبث بها القبائل (أي العشائر) كما تشاء، فالقيادة الاجتماعية كانت في بغداد والموصل والبصرة، التي كانت أيضا مراكز الدولة العثمانية مع وجود أفضلية لبغداد، فمركز قيادة القوات العثمانية (الجيش السادس) في العراق كان في بغداد، بالإضافة إلى وجود الشهر العقاري (الطابو) لكل العراق فيها، أما القبائل فلم يكن لها أي دور في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ولد نوري سعيد صالح المعروف باسم نوري السعيد في منطقة تبة الكاوور في بغداد عام 1888 لأب من أصل موصلي، كان يعمل محاسبا في دائرة الأوقاف في بغداد، ولذلك فنوري السعيد كان ينتمي إلى الطبقة المتعلمة في بغداد، وأنهى المدرسة عام 1902 والكلية العسكرية في أسطنبول عام 1906 ليصبح ضابطا برتبة ملازم ثان في الجيش السادس في العراق، وكان قصير القامة أبيض البشرة وسيم الملامح عسلي العينين. وكان بروزه الأول في الثورة العربية، أثناء الحرب العالمية الأولى التي تزعمها الأمير (ملك العراق لاحقا) فيصل بن الحسين، الذي منح لقب باشا لنوري السعيد، وكان أحد قادة الثورة العربية، وما أن تأسست الدولة العراقية عام 1921 حتى أصبح نوري باشا السعيد أول رئيس لأركان الجيش العراقي، وبعد ذلك وزيرا للدفاع والخارجية، بل أنه اصبح رئيسا للوزراء في العراق اربع عشرة مرة من 1921 وحتى قيام انقلاب 1958 العسكري، وصانع كل مجلس وزراء حتى إن لم يشترك فيه رسميا، وهو من كان يفرض سياسته عليه، حينما يريد وكان الذي يحل أي مشكلة عويصة يعجز عن حلها السياسيون العراقيون، وكان الأفضل في كل منصب شغله، أما العراق في نهاية حكمه فقد كان بالغ الاختلاف عما كان في بدايته فالتعليم كان مجانيا والجامعات العراقية كانت من الأفضل في العالم العربي ومعدل الجريمة كان منخفضا إلى درجة تثير حسد أي دولة غربية والرعاية الطبية من الأفضل في العالم العربي، بالإضافة إلى أنها كانت مجانية، وكان العراق من كبار المصدرين العرب للمواد الغذائية، أما من ناحية السفر فقد كان بإمكان المواطن العراقي السفر إلى أي دولة في أوروبا بدون تأشيرة، بالإضافة إلى العدد الهائل من الطلاب العراقيين الذين كانوا يدرسون في الجامعات الغربية. وبالنسبة للحياة الأدبية فقد ازدهرت بشكل واضح، ولا ينسى الناس أن بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي ونازك الملائكة والجواهري كانوا جميعا من نجوم عصره. ولكن بعض الناس لا يعجبهم العجب واعتقد البعض الآخر بأن الثقة التي منحهم إياها نوري السعيد، وهي ثقة الأب بابنائه، هي وسيلة للانقضاض عليه.
كان هدف عبد الكريم قاسم من انقلاب 14 تموز/ يوليو 1958 الاستيلاء على السلطة والقضاء على النظام العراقي القائم، واعتمد في هذا على التصفية الجسدية للطبقة الحاكمة المتمثلة بالعائلة المالكة ونوري السعيد، كي ينعدم أي أمل في عودة النظام التي كانت تعني فشل عبدالكريم في تحقيق مسعاه.
كان التاريخ هو الرابع عشر يوليو 1985 والوقت قبيل الفجر، أما المكان فكان منزل نوري باشا السعيد على شاطئ نهر دجلة في جانب الكرخ، وهو منزل بسيط في البناء والأثاث ولم يكن فيه سوى الباشا وعدد بسيط من الحراس والسائق عبود وامرأة أتت قبل قليل لتحضير الخبز الطازج. اقترب رجل من البوابة الأمامية ودخل المنزل بدون أي اعتراض من الحراس وفي الداخل وجد عبود وأبلغه بضرورة التكلم مع الباشا فورا، وكان له ما أراد فقد أوقظ الباشا الذي قابل الرجل وهو في ملابس النوم (البيجاما). وأبلغه الرجل بأن عبدالكريم قاسم قد قام بالانقلاب وهناك جنود مختبئين أمام المنزل للقبض عليه، وسوف يهجمون على المنزل قريبا وناصحا أياه بالهرب. وقد صدق الباشا كل كلمة قالها الرجل الذي لم يكن سوى الضابط وصفي طاهر، مرافقه الخاص والمسؤول عن حمايته ومحل ثقته المطلقة والذي كان سرا من أهم أعوان عبدالكريم قاسم، فعلى ما يبدو كان وصفي يحاول تأمين نفسه في حالة فشل الانقلاب، فحينئذ كان سيقول بأنه هو الذي أنذر الباشا وهو في هذه الحالة يشابه سيده الجديد عبدالكريم قاسم، الذي لم يقم بالانقلاب بنفسه، بل كلف عبدالسلام عارف ليقوم باحتلال بغداد، ففي حالة فشل الانقلاب كان عبدالكريم قاسم سينضم إلى قوات النظام الملكي ويقتل الانقلابيين.
كان نوري باشا السعيد في السبعين من العمر ويعاني من ارتفاع ضغط الدم، ولكن مظهره وسرعة حركته لم تعط الانطباع لمن حوله أنه كان يشكو من أي مشكلة صحية، وفي هذه اللحظة كان رد فعله سريعا، فقد ارتدى معطف النوم وأخذ مسدسين ثم هرع إلى الحديقة الخلفية المجاورة للشاطئ وهناك لمح صيادا للسمك على قاربه فناداه وطلب منه أخذه إلى الضفة المقابلة، وانصاع الصياد للطلب، وعلى ما يبدو أن الباشا كان يريد الوصول إلى وزارة الدفاع معتقدا أنه لاتزال هناك قطعات من الجيش تؤيده، ولكن قبل الوصول إلى الضفة الأخرى لاحظ الباشا ازديادا واضحا في أصوات إطلاق النار وانفجار القنابل فغير رأيه وعاد إلى الضفة الأولى قاصدا منزل جاره وصديقه صالح البصام وكان حر يوليو الحارق سببا آخر لمعاناة الباشا. وفي هذه الأثناء تم الهجوم على منزل الباشا من قبل الانقلابيين واستجواب الموجودين فيه بدون جدوى، فأصدرت إذاعة بغداد بيانا برصد عشرة آلاف دينار (مبلغ جسيم في ذلك الوقت وكاف لشراء منزلين) لمن يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض على الباشا.
استقبل سكان منزل البصام الباشا وبعد مناقشة الأمر معهم قام بالتخفي وغادر المنزل متوسطا سيدتين من العائلة في سيارة مع سائق متوجها إلى منزل لأحد أقرباء العائلة في الكاظمية، حيث قضى الليلة هناك متابعا الأحداث، وكانت الإذاعة قد أعلنت مقتل الأمير عبدالأله (فقد أعلن عن مقتل الملك فيصل الثاني لاحقا) وكان الباشا يتوقع تدخل الدول الأعضاء في حلف بغداد لإعادة النظام، وعند عدم حدوث التدخل قال الباشا لقد خانوا العراق مرة أخرى. وقبيل الفجر أتت امرأة من العائلة لتبلغهم بأن منزل آل البصام المجاور لمنزل الباشا تمت مداهمته، ولذلك فمن الأفضل نقل الباشا إلى مكان آمن آخر فقد تتعرض كل منازل العائلة للمداهمة، فغادر الباشا مع امرأتين إلى منزل محمود الأستربادي وهناك كان الباشا يتساءل «أين وصفي» أي وصفي طاهر (رئيس حمايته) وكأنه كان يتوقع اتصالا منه ويثير هذا الاستغراب سؤالا، هل وعد وصفي الباشا بشيء ما عندما كان في منزله؟ وكيف كان وصفي سيستطيع الاتصال به؟ وهل كان الباشا يبلغ وصفي بتحركاته اعتقادا منه أن وصفي كان من المخلصين له؟ وبعد ذلك اقترح الحاضرون عليه أن يذهب إلى منزل قريبهم هاشم جعفر في البتاوين، وقد رحب الباشا بالفكرة، خاصة أن منزل صديقه محمد العريبي في المنطقة نفسها، وقد يستطيع العريبي نقل الباشا إلى دولة مجاورة ومن هناك سيحاول أن يجد طريقة لهزيمة الانقلابيين.
وبعد وصول الباشا مع امرأتين إلى منزل هاشم جعفر شعر الباشا انه لم يكن مرحبا به، وسمع باب الدار يغلق بقوة، فشك في الأمر ولم يكن شكه في غير محله، فقد ذهب ابن وابنة صاحب الدار لإبلاغ السلطات الانقلابية بمكان وجوده وقامت هذه السلطات بإرسال فرق بحث إلى البتاوين. وهنا قرر الباشا الذهاب إلى منزل العريبي، فغادر منزل هاشم جعفر مع سيدة من عائلة الأستربادي وإحدى الخادمات، وفي الطريق شاهد سيارة شرطة ووصفي طاهر يترجل منها وهنا حدث شيء مجهول جعل الباشا يكتشف بأن وصفي كان خائنا طوال الوقت، وأنه غدر به وكشف أمره وفي هذه اللحظة أدرك الباشا أن مصيره قد تقرر، وأن لحظة الموت قد حلت، فطلب من الامرأتين المرافقتين له أن يتركانه بمفرده لضمان سلامتهما، فالباشا كان دائما يتحمل المسؤولية وحده، ويخشى أن يتعرض الأبرياء ومن يساعدونه لأي مكروه بسببه فهو الجبل الشامخ أبدا، ومهما طعن في السن فنفسية المقاتل لم تتخل عنه، خاصة أن الموت صار وشيكا، وما حجم الألم في قلب الأب عندما يتعرض لغدر أبنائه، ولكن إذا كان هؤلاء الأبناء بهذا القدر من العقوق والغدر والخيانة فالموت أفضل. ولكن لم ينل أحد بفرصة قتل نوري باشا السعيد، وعندها أخرج مسدسه وأطلق النار على نفسه منتحرا، ليسقط للمرة الأولى والأخيرة حارما من عدهم ابناء له، مما كانوا يصبون إليه. واقترب وصفي طاهر من الجثة وسمع من يقول «هذا باشتنا يا وصفي هذا أبوك وابو الكل أنقذوه» التفت وصفي إلى مصدر الصوت فإذا به السيدة من آل الأستربادي فأطلق وصفي عليها النار من رشاشه وأرداها قتيلة، ثم عاد وأطلق الرصاص على جثة الباشا كي يثبت إخلاصه لعبدالكريم قاسم بتلطيخ يديه بدم الباشا الذي كان جثة هامدة أصلا، وليفتخر كذبا بأنه هو من كان قد قتله. ويمثل هذا لحظة تغير جذرية في تاريخ العراق حيث بدأ عصر الأقزام.
لقد فتح انقلاب عبدالكريم قاسم بابا كان من الصعب غلقه، فقد بدأت المؤامرات والاعدامات والتعذيب والانقلابات، وقد خرق عبدالكريم قاسم القانون والعرف وكأنه أمر سهل ما جعل الكثيرين يأخذون المسار نفسه، فقد تعلم الجميع الحيلة والخداع ليقع البلد في بئر مظلمة لا قاع لها. وقد دفع عبدالكريم قاسم ثمن ما فعله عندما لاقى هو ومن أتى بعده المصير نفسه.
كاتب عراقي
زيد خلدون جميل
لن يجود التاريخ بقائد للعراق مثل الباشا.. الرحمة لأرواح الهاشميين البررة و اللعنة على كل من سفك دمائهم الزكية بغير حق
إلا ان الكاتب يختصر تاريخ العراق بعجالة اذ
يساوي بين نوري السعيد من جهة وياسين
الهاشمي ويونس سبعاوي من جهة اخرى وكأن
اختلافهم الجذري كان في الرؤى فحسب. وليس
خلاف بين متعاونين مع رجال الانجليز وقومييين
وطنييين دفع الأخيرين حياتهم ثمنا لها.
قاسم كان اداة للانقلاب الذي خطط له بدقة رفيق عارف رئيس اركان الجيش الملكي لكي يكون هو رئيس الجمهورية. كان نوري السعيد في رحلة استجمام في بريطانيا و تم استدراجه للعراق عن طريق برقية تقول له بضرورة العودة باسرع ما يمكن و لم يكن امامه طريقة سوى ركوب طائرة شحن و جلس بالقرب من الطيار . اجرى رفيق عارف تنقلات عسكرية مهمة ضمنت ان كل الانقلابيين اصبحوا في اماكن حساسة ، قاسم هو زعيم الصدفة و غالبا وجد انه يستطيع حكم العراق بدون العقل المدبر للانقلاب
مقالة جديره بالاهتمام،، وشكرا
الرجاء من العراقيين المثقفين أن ينظروا بتجرد إلى الاموروعدمم الانجراف وراء الميول الشخصية أن العراق بتاريخه الطويل لم يكن فيه قائد بالمعنى الصحيح وإنما هناك زعماء أو رؤساء اوشيوخ أو ملوك فالقائد وهذا لم نجده سمة مثالية يحوز على الكفاءة والمقبولية وتنعدم في وقته صفة العنصرية والطبقية والطائفية ويكون تكافؤ للفرص وخط شروع واحد وهو مالم يوفره أحد خلا علي ابن أبي طالب رضي بعد الرسول اماالتفاخر بالثقافة جيد شريطة توفر الحاجات الأساسية للشعب ولو أن الجواهري قبل نوري السعيد وهو ومحمد مهدي البصير وعمالقة كثيرين من مفرزات المؤسسة العلمية الفقية الأدبية ووجود شاعر مصادفة لعهد لا يعني رقيه بدليل المعلقات والجاهلية ولكم جزيل الشكر والتقدير وان وجهة نظركم لطيفة وهي نابعة عن حب