محبطٌ ذلك الوقت الذي يضيع بين حدة الانفعال وفورة الغضب والجلوس للكتابة، فكثيرٌ من الأفكار التي تتدافع لاهثة في الذهن، تفقد إما كلماتها التي تولد أكثر صقلاً وتعبيراً أو بعـضــاً من الحرارة التي تكسبها روحها الصادقة.
كل ما أستطيع أن اقوله صادقاً إنني حزين.. حزين للغاية.. صورة شيماء الصباغ بوجهها النازف وهي تتهاوى مسلمةً الروح بينما زميلٌ لها يمسكها ربما في محاولةٍ يائسة للتشبث بها.. استبقائها بيننا وفي دنيانا القبيحة لتكمل مسيرة النضال.. هذه الصورة تطاردني، ولكنني سأنصرف لحياتي اليومية بروتينها الفارغ البليد، وقد بت أشعر بالذنب وبقدرٍ غير ضئيل من الجرم في ذلك؛ وليت الأمر توقف عند جرم النظام، فليس في ذلك ما يدهش من حيث المبدأ، وإنما من حيث التطور النوعي ومداه، فقد أفجعني رد الفعل البليد من قبل كثيرين كنت أعدهم اصدقاء أو أشخاصاً «طيبين» وفق المصطلح المصري، إذ عوضاً عن الشجب والثورة على جريمةٍ بشعة بكل المقاييس كتلك، تراهم يطرحون أسئلة من عينة: «وما الذي أنزلها من بيتها؟»، «هل حصلت هذه المظاهرة على تصريح؟» والأنكى وشر البلية الأكثر إضحاكاً هو ذلك الحكم القاطع الذي لا يقبل النقاش: «إخوانيٌ مندس هو الذي فعلها»- بالطبع، فالإخوان هم المشجب الذي بتنا نعلق عليه فشل النظام وقاذوراتنا النفسية وعوارنا الأخلاقي، أو من يذهبون إلى كون من قام بها مأجور من قبل أحد رجال الأعــــمال، الذين يريـــدون الوقيعة بين السيسي والناس، ويفوت على القائلين بهاتــين «التفنينتين» أنهم بذلك يدينون الأمن الموجود بكثافة ويثبتون على أفراده انعدام الكفاءة، بحيث لا يلحظون متسللاً يحمل سلاحاً ومن ثم يطلقه مردياً صريعة ويلوذ بالفرار أمام أعينهم!
شيماء الصباغ، الفتاة المناضلة والمرأة العاملة والزوجة والأم، ذلك النموذج الذي نحلم به للمرأة المتطورة التي لم تتخل عن مسؤولياتها ولم تحارب مجتمعها، وإنما خرجت منه وله، تحمل همومه وأحلامــــه، التي حمــــلت إكليلاً من الزهور لتضعه في ميدان التحرير في ذكرى أهم وأكبر حراك ثوري في تاريخنا، تشكل بصورةٍ مدهشة، ورغماً عنها، رمزاً ذا دلالاتٍ عميقة كما هي متنوعة… لقد قتل النظام فتاةً تحمل الورد… لم يتحملها… ولعـــل تلك البشـــاعة هي التي تدفع الكثيرين من أولئك «الطيبين» سالفي الذكر من الذين مازالوا يتشبثون بوهم أن النظام «طيـــب وابن حلال ووطني» بل ويراه البعض تقــــدميا تحرريا.. الخ من دفع التهمة عن منظومة أمنه لأنهم لا يرون ولا يتصورون فائدةً تعود عليه من جريمة لها ذلك البعـــد من الرمزية الفضائحية، ولكن الرد على هؤلاء يسير: لقد أخطأتم منذ البداية في فهم طبيعته وراهنتم رهاناً خاسراً… تلك هي المشكلة.
عموم المصريين محبطٌ تعب.. أرهقته سنوات ما بعد 25 يناير بفقدان الأمن وضيق العيش وانعدام المنجزات الملموسة، وقد سئم التظاهر وبات الكثيرون يخشون التغيير الذي يرونه آتٍ بما هو أسوأ بكل تأكيد، وقد خلقوا بطلاً من السيسي وأسقطوا عليه كل أمانيهم وتصوراتهم عن النموذج المثالي للبطل المغوار، الذي سيجلب لهم الاستقرار والرخاء، وهم الآن يتشبثون بتلك الأسطورة لدرجةٍ تعميهم عما هو واقعي ملموس وأكيد… أمنٌ يطلق النار على فتاةٍ تحمل الورد…يرفضون أن يصدقوا أن أحداً لديه ذرة عقل أو تمييز يفعل ذلك، ويفوتهم شيء جوهري: شهوة الدم والرغبة المستعرة للانتقام لدى منظومة أمنٍ ترى أنها أهينت منذ أربع سنوات، حين خلع ضباطها بذلاتهم العسكرية لائذين بالفرار… تلك الشهوة البدائية الأسبق من المنطق والعقل، التي قد تدفع شخصاً لأن يقدم على ما يلحق أقصى الضرر بمصلحته الشخصية. أما كل الأسئلة السخيفة لأناسٍ ينشدون عبثاً إراحة ضمائرهم وغســـل دماء شيماء وغيرها من على أيديهم، فالإجابة عليها سهلة وبسيطة لكل من لم يتلوث بذلك العصاب الجمـــاعي: هذه لم تكن مظاهرة وحزب التحالف الشعبي ليس حزباً محظوراً، ولم يحمل يوماً أعضاؤه السلاح ضد أي نظام، وتالله أنني لو خرجت للتنزه مع أخي وابن عمٍ لي وأبنائنا لفقنا أفراد تلك المسيرة عدداً وصخباً! كان في مقدور الأمن أن يعترض طريقهم، أن يوقفهم أو يحبسهم- بضع صفعات وركلات كانت تكفي في الأزمنة الخوالي، ولكنها شهوة الدم لنظامٍ اهتزت ثقته في نفسه يتصرف بارتـــباكٍ وتوترٍ يدفعانه للحماقة.
وأهم من كل ذلك يحق لي أن أطرح بعض الأسئلة المهمة، أو بالأحرى أن أجأر بها: أي مسيرةٍ اقتصاديةٍ تلك وأي نظامٍ ذاك الذي تعرقلهما وتهددهما فـــتاةٌ تحمل إكليلاً من الزهور؟ لماذا لم يستقل وزير الداخلية، إن لم يكن على إجـــرام أحد العناصر المحسوبين عليه فعلـــى تقصـــيرهم في القــــيام بمهمتهم؟ لماذ لم يخرج علينا السيسي أو رئيس وزرائه باعتذارٍ معرباً عن كون جريمةٍ كتلك هزت الوجدان الوطني وواعداً بالقصاص الفوري؟ أهما أكبر من ذلك؟
لست أذيع سراً حين أقول إن شعبية السيسي تتراجع، فقد بدأت أزمات نظامه ذي الانحيازات المتطابقة مع سلفيه، فالتناقضات الاجتماعية الأساسية والاستعصاءات السياسية التي أدت إلى 25 يناير لم تحل، بل زادت تعقيداً، فالنظام لا حلول لديه وفقير الخيال، لا يملك سوى العنف الذي لم يحل شيئاً من قبل ولم يوقف 25 يناير أساساً، ويتعين علينا أن نؤكد هنا مستجداتٍ وثيقة الصلة بالشأن المصري، تتمثل في التغيرات السياسية في خريطة موازين القوى في السعودية، إثر رحيل الملك عبد الله وهبوط سعر البترول بما سيؤدي له من تراجع قدرة الأنظمة الداعمة لنظام السيسي عن الاستمرار في تمويله، الأمر الذي سيخلق له أزمةً وجودية قد تضطره إلى المزيد من العنف كبديلٍ وحيدٍ لا يجيد غيره.
أنا جد حزين ليس فقط بسبب هذه الجريمة وشعوري بالقهر، وإنما من البلادة التي تلقى بها الكثيرون وقائعها وتعاملوا معها، كأنها أمرٌ لا يعنيهم… أحد هذه الأشياء التي تحدث وتلقيها الحياة في طريقهم فيمرون بها بدون أن تثير ثورة استبشاعٍ أو حتى التوقف… يفشلون في أن يروا ما يشير إليه حدثٌ جللٌ كذلك من تطورٍ نوعي في عنف النظام وطبقته، فالذي لم يتحمل فتاةً تحمل الورد لن يطيق أي نقدٍ جادٍ أو بسيطٍ، يريد معارضةً سياسية من عينة «معارضتي وشعبي»- معارضة «تمليك» من التي كان يفاخر الرئيس المؤمن بها.
سيعود أغلبنا إلى حياته اليومية بكل مشاكلها ورتابتها، سنكبر ونهرم إن عشنا بما فيه الكفاية، لكن شيماء ستظل واقفةً تمسك بإكليل الورد، لن تذبل ولن تهرم، وسيطارد دمها ودم كل من سقطوا ظلماً كل المجرمين والطغاة الذين يريدون أن يسرقوا من الناس ثورتهم وحريتهم… قد يرى البعض في ذلك كلاماً شاعرياً وما أنا بشاعر… لكنني أذكر أن صورة جثة خالد سعيد المشوهة لعبت دوراً محورياً محفزاً في 25 يناير، فما بالكم بالفتاة التي أرادت أن تصدح بكلمتين وتضع ورداً في ذكرى الشهداء؟!
قد يتصور البعض أن الأمر سيمر، ولكنني على يقين من أن صورة شيماء وهي تسقط قد استقرت في وجدان الكثيرين، بدون أن يدركوا، وسوف تظهر ثانيةً في أيامٍ لاحقة كلما تهاوت محاولات ترقيع صورة النظام.
٭ كاتب مصري
د. يحيى مصطفى كامل
د. يحيي مصطفى كامل قد وفيت في مقالاتك هذه ولم تندهش من جرم النظام ومع حق لان النظام لم يتغيير والنظام البائد الفاسد التي قامت من اجله ثورة 25 يناير عاد من جديد ولكن قد افجعك رد فعل الناس الطيبين هم فعلا ناس طيبين لانهم يصدقون كل شيء يمليهم عليهم النظام باعلامه فلا تفجع يادكتور يحيى الناس الطيبين لا يدرون انهم ضحايا للعبة السياسة القذرة وسيظلون كذلك الي ان يأتي اليوم الموعود .اعتقدت اثناء وبعد ثورة 25 يناير ان الناس الطيبين في مصر فاقوا من الغفلة وانتفضوا من الخوف وثاروا على النظام البائد الفاسد والطغاه وقضوا عليهم ولكن الطغاه والنظام البائد الفاسد لعبها باحترافيه وجعل الناس الطيبين انفسهم بعدما هبوا وناصروا الثورة المجيدة 25 يناير انقلبوا عليها بثورة اخرى مضادة تدعى ثورة 30 يوليو وجاءت امثال البطلة شيماء الصباغ لتقيذ الناس الطيبين والشعب كله كما تفضلتم بشيء بسيط هو اكليل من الزهور لشهداء ثورة 25 يناير لكن يد الغدر طالتها لا تنسى دكتور يحيي ان قيادات شباب ثورة 25 يناير هم في المعتقلات بحجة انهم عملاء لكي الله يامصر .
تذكرت أول قتيلة بثورة 25 يناير 2011 كان اسمها سالي زهران
فلقد كانت صورتها لا تنسى وهي مبتسمة على صفحات الجرائد
فقد كانت سالي من ضمن الورد الذي فتح في جناين مصر
والله زمان يا 25 يناير
ولا حول ولا قوة الا بالله
مقال ممتاز
لا افهم كيف يستطيع هؤلاء ان يخدعوا انفسهم الى هذا الحد ؟؟؟!!!
كيف يستطيعوا النظر فى المراية؟؟؟
كيف يستطيعون النوم بعد كل هذة الدماء البريئة؟؟؟
على اى حال, الفيلم شارف على النهاية المحتومة التى لا مفر منها.
عندما يذهب الشهداء الى النوم أصحو
وأحرسهم من هواة الرِّثاء
وأقول……
عبست لي الدنيا
وتكدرت اشراقة الصبح الجميل
بعد الرحيل
كبت الخيول ومات في اعماقها صوت الصهيل
بعد الرحيل
كل الزهور بروضتي ماتت واعلنت الحداد
وتوشحت كل القصائد بالسواد
وتوقفت عن شدوها البلابل
واستعدت للرحيل عن البلاد
بعد الرحيل
نكست اعلامي وبسطت الامي
وبحثت عنك فلم اجدك ولم اجد عنك البديل
وتكسرت كل المريا
وتناثرت منها الجرائم والخطايا
وبحثت عن روحك الحزينة
في كل ارجاء المدينة
فوجدتها تعلو على وجوهم الممزقه
بين الاف الشظايا
اشلاء مزقها الحطام
وعفا عليها الدهر في كوم ركام
يا شيماء يا زيتونة بترت
وحمامة وئدت
وقضية طويت
ذابت تلاشت بين الاف القضايا….
لا.لا . حتمآ ستعود شيماء في فصل الربيع ورده حمراء جميله كزهره شقائق نعمان…
شيماء صوت الحق والضمير ماتت نخوتهم ورجولتهم , وشاخت حناجرهم…
سننتذرك يا ياشيماء في الربيع كلما مرت أسراب السنونو ياعنقاء الكنانه وأرض النيل…
واليخسأ قاتلك …..
العائد إلى يافا
لاجىء فلسطيني
أنا اختلف مع د. يحيى مصطفى كامل لأنني من أنصار الحكمة ولست من أنصار الفلسفة، لماذا؟ لأنَّ الحكمة تمثل خلاصة حكمة لغة أي مجتمع في فهمه ما حوله، فمثلا هناك حكمة عربية تقول “الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى”، كذلك الحال مع الشمس نعمة لا يُقدِّر نعمتها إناس مثل أهل بلاد الغيوم والضباب والليل الطويل، في حين المطر نعمة لا يُقدّر نعمته إناس مثل أهل بلاد الشمس، وهناك حكمة أخرى تلخص كل ذلك تقول “مصائب قوم عند قوم فوائد” في حين الفلسفة أو الفكر فكل همّه وما يتم التركيز عليه هو الـ أنا ورغبات ومزاجية الـ أنا، ومهما كنت ذكيا وحصيفا، أنت لا شيء أمام ذكاء وحصافة مجموع خبرة المجتمع، ولكن مشكلة ثقافة الـ أنا هي لا تنتبه ولا تعترف بوجود أي شيء إلا الـ أنا، فكيف يمكن أن تستفيد وتبني على خبرة الآخرين أشياء مفيدة له وللـ آخر سوية.
أنت ما زلت لم تعترف إلا بمن تعتبرهم من ضمن الـ أنا الخاصة بك ولم تعترف ببقية ابناء الشعب ممن يسقطوا يوميا في مصر
هناك أمل منك عندما تخرج من ضيق الـ أنا العلمانية والديمقراطية والليبرالية، إلى سعة الـ نحن التي تشمل جميع فصائل الشعب التي شاركت في ثورة 25 يناير عام 2011 من تتفق مع ومن تختلف معه وخصوصا التيارات الإسلامية
ما رأيكم دام فضلكم؟
رحم الله كل شهداء العروبة،مقالك راءع معبر ومحزن
احسنت القول.