ليست القراءة، في نظر الباحثين المعاصرين، وإنهم لطوائف وطوائف كثـــــيرة، مجرد تلقّ سلبي لخطاب أو نص ما، باعتباره نسيجا من الفجوات، أو الفراغات البيضاء، التي على القارئ ملؤها. وليست أيضا وعطفــــا، عملية بسيطة، نُمرّرُ عبرها البصر يمنة ويسرة، أو العكس، بل هي عملية صعبة للغاية، تستدعي عند القـــــراءة أكثر من منهج، ومن ثم كان ديدنها، هو الاختلاف والتمايز، تبعا لاختلاف الأسئلة المركزية، التي توجهها، وكذا اختلاف منطلقاتــها، أو مرجعياتها.
وإذن القراءة، في معنى كهذا، هي فعلٌ مركّبٌ ومعقد، يسعى من خلالها القارئ أبدا إلى تحقيق وجود النص، وتحديد معناه المُنفتح على كل تأويل أو قراءة جديدة. فكيف استوعب جمهور القراء الانعطافة الحاصلة في حركية الشعر المعاصر في المغرب بُعيد الاستقلال. أقصد تجربة جيل الرُّواد، أولئك الشعراء الذين عملوا بخطى واثقة ووثيقة على تبيئة حركة الشعر الحر وتأصيلها في بلاد المغرب؟ فمباشرة بعد حصول المغرب على الاستقلال، سيظهر وعي بويطيقي جديد، مغاير تماما للسابق، بموجبه أصبحت المتان الشعرية الجديدة تتمايزعن الدُّوكسا الشعري، انسجاما والتّمفصلات الواقعة في حركية الشعر المغربي الحديث، إذ إن هذه المتان صارت تطرح تساؤلات فنية جديدة، برؤى وجودية وشعرية، مختلفة تماما عن المُواضعات الفنية التي كرست ذوقا جماليا مصابا بفوبيا الطارئ والجديد، ولا يطمئن سوى للمعطى.
ويُمكن القول هاهنا، إن تحولا كهذا، قد أحدث جُروحا نرجسية في الشعرية التقليدية في المغرب. وبذلك يكون الوعي الشعري الجديد قد فجر النسق الجمالي الكلاسيكي على جميع المستويات. فعلى مستوى الإيقاع تخلّص الشاعر المعاصر من سيممترية البيت التقليدي منتصرا للتفعيلة الحرة؛ أما اللُّغة فقد أصبح وضعها أكثر تعقيدا مما كان عليه. الوضع هذا سيخدم بشكل كبير نظيمة الصورة الفنية لترتقي إلى المدارج العليا للتخييل، مستقوية في ذلك بالرمز والأسطورة.
لقد قدمت نصوص كل من أحمد المجاطي، ومحمد الخمار الكنوني، ومحمد السرغيني وعبد الكريم الطبال، وأحمد الجوماري، ومحمد الميموني، ومحمد بنيس، وعبد الله راجع… أجوبة فنية لبعض تساؤلات المرحلة، إذ أنها، كشعرية جديدة، شوشت على أفق انتظار جمهور القراء، وجعلتهم ينظرون إلى مقاييس الجمال المعطاة سلفا بعين الشك والريبة.
والحقيقة إن هذه المرحلة كانت مرحلة تغيير وتخييب، بالنسبة للقراء في الوقت نفسه، مرحلة تغيير لأنها أسهمت في تطوير ذوق القراء وكذا في تغيير أفق انتظارهم الجمالي من خلال سعي البويطيقا الجديدة الدؤوب إلى تقويض كل ميتافيزيقا شعرية. ومرحلة تخييب لأنها شكلت صدمة كبيرة بالنسبة لبوليس وعسس الشعرية التقليدية المصابين بفوبيا الجدة والمغايرة، صدمة سوف تؤجل الحوار إلى فترة لاحقة.
وفي هذا الإطار يرى عباس الجيراري، أن ندرة الكتابات النقدية الموازية لهذه الظاهرة، لا تعود إلى الفعالية النقدية ذاتها، بقدر ما تُعزى إلى قلة الإنتاج الشعري الجديد. ويُمكن اعتبار دراسة محمد بنيس «ظاهرة الشعر المعاصر في المغرب» من أهم الدراسات التي أُنجزت في الموضوع، إلا أنه على الرُّغم من أهميتها، فقد شابتها مجموعة من النواقص، تقول يمنى العيد بخصوص كتاب الظاهرة «غير أن هذه الممارسة، على أهمية ما حققته وبسبب اقتصارها على الهدف الذي حدّدته، أهملت إمكانية إبراز الخصائص الجمالية للنص التي هي خصائص دلالية في الوقت نفسه، أي خصائص على علاقة وثيقة بالنواة، بالرؤية الماثلة في النص، وربما كانت المكوّن لها»(في معرفة النص).
إن الباحث محمد بنيس «لم يُعط القارئ صورة متكاملة وواضحة عن إمكانيات هذا النظام اللُّغوي الشعري المعاصر من حيث مكمن الجمال فيه». ويعود هذا الإهمال بالأساس، في نظر الناقدة يمنى العيد، إلى طبيعة المنهج البنيوي التكويني، الذي سلكه الناقد في كتاب الظاهرة، وهو منهج يبحث في عناصر الرّواية أكثر منه في الشعر، وذلك بسبب طبيعة مادته.
ولقد أجمعت جُلُّ الدراسات النقدية، أثناء تناولها لعناصر البلاغة المُكوّنة لهذه المتان الشعرية، على أن ظاهرة الغموض، كظاهرة فنية جديدة، كانت العُنوان الأبرز لهذه التجربة الشعرية الجديدة. وليس من شك أن مستوى تعامل النقاد مع هذه الظاهرة، تراوح بين الرفض والقبول. ففي سنة 1963يكتب محمد زفزاف مُعلّقا على قصيدة «الصمت اللّعين» لأحمد المجاطي قائلا «الحزن يسربل الشاعر الذي لا يلبث أن ينظر إلى الدُّنيا بمنظار أسود، عليه ألف غشاوة وغشاوة من تشاؤم، فلا تُحسُّ لقدمه فوق الحقل غير صمت ودبيب خافت. أما نظرته فهي خرساء، تعبّرُ ولا توحي بشيء غير الإبهام والغموض»، ثم يستأنف قائلا «في القصيدة بعض الغموض والتعمّقُ في المعاني الرمزية التي يصعب إدراكُها بسهولة».
ولئن كان جُلُّ الدارسين لهذا المتن،إن لم نقل كلهم، قد أقرُّوا بغموض بلاغة هذه النصوص، فإن البعض منهم، يقرُّ بفشل هذه التجربة، ويُعزي هذا الفشل إلى هذا التشتت الدلالي الذي أدى إلى الإبهام والعماء. فحسن الطريبق، مثلا، يخلُص إلى أن القصيدة المعاصرة «لا تُعبر بحال عما يعتمل في دواخلهم – الشعراء – ويفيض به وجدانهم، فهي اجترار لما أنتجه الأقدمـــون، ولأجل ذلك نجد أن أغلب النماذج الجديدة لا تتجاوب مع كثير من المثقفين ولا تتــــفاعل مع الحياة إلا بمقدار ضئيل، لما يعوزها من تكامل ولما يعتريها من نشوز، نتيجة جنوح أصحابها إلى الضرب في تيه الأسطورة وصحراء الرمزية والغموض، وإلى الخلط بين القليل مما استوعبوه من الآخرين، وبين تلك الظلال الخفية من عواطف القدماء».
إن فشل هذه التجربة، في نظر حسن الطريبق، يعود بالأساس إلى عملية توظيف الشعراء للأسطورة والرمز، بدون وعي أو نضج فني ما جعل الانغلاق علامة فارقة في هذه التجربة الشعرية. الموقف نفسه سيجتره عبد الكريم غلاب حينما يقول «وإلى جانب هذه النقطة (يقصد مشكلة الأوزان) هناك مشكلة أساسية أعتبرها من مظاهر أزمة الشعر الحديث، هي الغموض الواضح. وهي مشكلة أساسية بالأخص من ناحية الشكل. فالشعر إذا لم يفصح، لا يستطيع أن يُصبح شعرا. وإذا كان الشاعر يعتمد على الرمز والصورة، أو المجاز والاستعارة، فليس معنى ذلك أن يغمض إلى درجة الإبهام مثلما فعل الذين غرقوا في تطبيق البلاغيات. والشاعر لا يؤدي المعنى بدعوى أن المفهوم غامض في نفسه. وهو يتحدث بغموض عن غموض، لقد خلقت هذه المشكلة حالة من الغموض خطيرة جدا، لأن كثيرا من الشعراء اعتمدوا هذا الغموض حتى أصبح هو الطابع العام. وأنت تقرأ قصيدة فيداهمك الغموض والإلغاز، ويدفع الشاعر هذه التهمة بأن الشيء غامض من الأساس. وأنا أعتبر هذا نوعا من الهروب من الواقع أو نوعا من الستار يحاول الشاعر أن يستر به فشله».
والحاصل إن جل الدراسات النقدية، التي واكبت وعي بويطيقي جديد ومضاد كهذا الذي أنتجته، الفعالية الشعرية، لجيل الرواد، قد تراوحت، ما بين القبول والتّحفّظ، بخصوص هذه الظاهرة الجديدة.
ومن ثم نستطيع الجزم بأن تعامل القارئ، في عمومه، مع هذا المتن الشعري، خاصة، من جهة بلاغته الجديدة والمضادة، كان تعاملا مطبوعا بالرفض، نظرا للتشتت والغموض والإبهام، الذي نال منه، بما لم يكن متاحا من قبل.
٭ شاعر وكاتب مغربي
محمد الديهاجي