«مات العقل الأنواري بعدما تصرفت به الأحوال، وتم نبذه وتهميشه، لكنه متجدد في الولادة».
عندما نهاجم العقل الأسطوري بأسلحة عقل الأنوار، ألا نكون قد استنبتنا أسلحة قلقة في أرض تعودت على الإجابات الجاهزة؟ ألا نكون قد فتحنا الأبواب المنغلقة أمام الفكر الفلسفي التنويري؟ وهل بنية السياسة المقدسة ستمسح بهذا الاقتحام الذي يهددها بالهدم، نسق الماهية؟ بل أكثر من هذا، ألا يكون هذا العلم البرهاني قد فقد شرعيته حين توجهت إليه آراء أهل المدينة الجاهلة وحكمت عليه بالإعدام؟.
لا يمكن لهذه الأسئلة إلا أن تكون نابعة من أصالة الروح التي ستحقق نفسها في العصر الذي تعيش فيه، ولذلك فإنها ستقاتل بشراسة من أجل الوجود، بيد أن هذا الوجود الثمين، يتطلب القدرة على مواجهة الروح التراثية التي تؤسس الإنسان على قياس الشاهد على الغائب، وبعبارة معاصرة إنها تتصرف في العلوم التقنية لإعادة الروح إلى القرون الوسطى مستغلة اشتعال الوجودان وتمزق الروح في التيولوجية، متأثرة بالقهر والشقاء، ومن الصعب بناء روح العصر، بهذه الأرواح التيولوجية المحطمة في الزمان، والتعيسة في المكان.
وإذا كانت الحكمة تقتضي أن نعترف بأن الفيلسوف عندما يتحدث أمام الجمهور، فلا أحد يسمعه، وبالأحرى أن يعيره اهتماما، فمن المدهش أيضا أن حديثه يحرج السلطة القمعية، لأنه يستطيع بالبرهان تمزيق حجاب الأوهام على وجه الحقيقة، وإرغامها على العودة مع شروق شمس الأنوار، ولهذا السبب يكون مذنبا عند الطغاة، الذين يحرضون العوام عليه، ويضطهدونه، والحكم عليه بأركيولوجيا الصمت، والتأمل في الفراغ، فبأي حق تتم مصادرة الحق في الأسئلة؟، هل لأن أعداء الفكر الفلسفي من الخطباء والسفسطائيين لهم قدرة مبهرة على اختراق الأرواح المحطمة؟.
إنه لعصر تعيس، تعيش فيه الأرواح بآراء وسطوية مزقها التاريخ بجدليته مع العلمي المعاصر الذي انطلق من أرضية عقل الأنوار، وأصبح يتحكم في الوجود الإنساني، باستغلاله للعلم والتقنية، إذ تمكن من احتجاز الشعوب الوسطوية، ومنحها الوجه السلبي للتقنية، من أجل القضاء على نفسها بنفسها، ولعل هذا بالذات ما نشاهده في عصرنا هذا، المصاب بمرض عضال، لا يمكن الشفاء منه، مادام الترياق يظل محتجزا في الاحتجاز، وكأنه الجذام الذي جعل الخطاب الرسمي يعتبره مذنبا، لأنه يسعى إلى إيقاظ العقل من سباته الدوغمائي، بيد أنه من الصمت أن نمنحه شهادة ميلاد جديدة، مكتوبا عليها اسم محبة الحكمة، ذلك أن إقامته طالت في العدمية، ونالت منه وأضحى قريبا من الحصول على شهادة الوفاة، فكيف يستطيع هذا العقل أن ينجو من هذه الفطائع المفجعة والمتسارعة في التطور، والثابتة في زمن النكبة؟ وبصيغة أكثر عنفا، كيف يمكن لعقل شيعت جنازته أن يولد من جديد؟ وهل يسمح الذين اغتالوه بهذه الولادة؟.
بإمكاننا أن نقول إن هذا العقل الذي ولد، وكبر في الصراعات الإيديولوجية، منذ عصر علماء الكلام والفقهاء والحركات المتطرفة في التفسير للنص الديني، من الصعب أن يقبل الحقيقة العلمية، والفكر الفلسفي البرهاني، لذلك فإنه اكتسب مناعة قوية مكنته من عدم اختراق التنوير ومقاومة جدليته، وظل يقاوم إلى أن مات، معزولا عن جدلية التاريخ، معتقدا في الصواب الموروث، الذي منحه الجهل المركب، والتأهيل المهني للقمع، والحال أن: «المشكل ليس هو تغيير وعي الناس أو ما يوجد في ذهنهم، بل تغيير النظام السياسي والمعرفي والاقتصادي والذين يتحكمون في إنتاج الحقيقة، وترويجها».
والشاهد على ذلك أنه كلما كان الوعي مغلوطا، كانت الحقيقة زائفة، ولذلك فإن الفكر يهرب من هذا الواقع، الذي يحرمه من الحرية، بل إنه يتحكم في مشيئته، ومن غير بناء مصنع الفكر، يتعذر على هذه الأمة التي أصبحت تتفاءل على التأويل الصحيح للعقيدة، أن ترى النور في بلد الحقيقة، وتتخلص من نزعتها العدمية، لأن إخضاع العلوم إلى مناهج التفسير الدينية قد عجل بنهايتها.
لقد كان ابن سينا رائعا، حين قال بأن هذه الأمة لا تحتاج إلى طب الأجسام، بقدر ما أنها في أمس الحاجة إلى طب الأرواح المريضة بنزعتها العدمية، ولعل هذا الطب الأعظم هو العلم: «فالعلم واحد لا يختلف من مكان إلى آخر، أداته القراءة والاجتهاد». في العلوم الرياضية والفيزيائية والفلكية، ولكن داخل مملكة الفلسفة. والحاصل أن الأمة التي لا تقرأ الكتب، ولا تشجع الأحداث على قراءتها، فإنها لن تشفى من مرض العدمية، بل ستترك مجالا لدعاة العدمية بنشر أفكارهم المتطرفة، من خلال الاستقطاب، وتخدير الإدراك، لأنهم وجدوا في ترياق الموت شفاء للأرواح الممزقة بالشقاء الاجتماعي، والاستبداد السياسي. لكن متى تعود المعرفة إلى نفسها وتتعرف على حقيقتها؟ وهل تساهم في اكتشاف العقل لنوره الفطري؟ وأين يوجد دهاء العقل؟.
هناك فقرة شهيرة لهيجل في فلسفة التاريخ يتحدث فيها عن دهاء العقل: «من الممكن أن نطلق اسم دهاء العقل على تلك الصفة التي يشعل بها العقل الانفعالات، لكي تعمل من أجله، على حين أن ذلك الذي ينمي حياة العقل بفعل تلك القوة الدافعة يدفع العقوبة ويعاني الخسارة، ذلك لأن الأمر يتعلق بالوجود الظاهري الذي يكون جانب منها بلا قيمة، والجانب الآخر إيجابي وحقيقي، والجزئي في معظم الأحيان ليست له قيمة تذكر إذ ما قورن بالمطلق، فالأفراد يضحى بهم، وينبذون والفكرة تدفع عقوبة الوجود والفناء، لا من ذاتها بل انفعالات الأفراد». هكذا يكون العقل هو الذي يحكم العالم، من خلال نشاطه المعرفي، لأنه بدون هذا النشاط يحترف بفعل الانفعالات الوجدانية، ويتحول إلى رماد يؤدي إلى ضياع الإنسان في عتمات العدمية.
كاتب مغربي
عزيز الحدادي