صنعاء… قبل أن تغادرني

حجم الخط
0

برلين – إيبي إبراهيم: أغمضت عيني لدقيقة، أو دقيقتين. لا أذكر. تمنيت وتأملت، ايضاً لا أذكر. ولكنني فجأة استحضرت ذاك الشارع، وتذكرت تلك المحطة بالذات. إنها صنعاء. التوقيت غير محدد. أستعيد صورة أصدقائي، وصوت الموسيقى الذي يصدح في السيارة. وطريقة قيادة أروى العصبية. تذكرت ضحكات أماني الخارجة بعفوية، وفكاهات احمد، وجلستي غير المرحب بها أصلاً بينهم.
هكذا أتذكر مدينة أحبتني واحتضنتني وأسرتني بحب، وبولع من دون اي دوافع أخرى. غير هذا السحر الذي يجمعنا. تذكرت صنعاء. وذاك الرجل الذي كان يصرخ: «اتحرك يا راااااقد». فتحت عينّي على هاتين الكلمتين. تذكرت لهجة أروى الصنعانية، صباح كل يوم الجمعة، عندما تتصل بي لنذهب إلى صنعاء القديمة من أجل فطور يمني تقليدي. شاي مع الحليب وفاصوليا ولحم وخبز، وسحر لا ينتهي، في احياء مدينة آسرة. سحر اقدم مدن الكون. ذلك السحر كان يبعد عني مجرد عشرين دقيقة أوعشر دقائق عندما تسوق بنا أروى.
ألتفت إلى الخلف، واراه وهو يردد اتحرك «يا اراقد»، لا ابالي به ولا ارد. أشغل محرك سيارتي، واقوم بدفعها إلى الامام قليلاً. ينطفئ المحرك فجأة. أغمض عينّي واعود إلى سحر ذي تاريخ عريق – إلى احساس ضاع من أمامي، إلى حضن فلت من بين ذراعي، ولم أعد أملك غير الذكريات.
أقرأ تبادل الأمنيات بين اصدقائي على ذاكرة هاتفي النقال. قاربت السنة على الانتهاء والكل مستعد للاحتفال. ماذا ستفعل هذه الليلة؟. تزورني الذكريات، وتحتضنني بقوة لتقذف بي إلى الماضي القريب. إلى اين تأخذيني الآن؟، نحن في المطار متجهين إلى بيروت. غير مختلطين مع أروى وأماني. كانتا متنكرتين بعباءتين سوداوين. نتلاقى في الطائرة. تذهب أروى إلى نهاية الخط، في مؤخرة الطائرة، لتعود من دون هذا الزي التنكري. تعود كما عرفتها. بشعر متدل إلى أسفل خصرها. لم تعد متنكرة مذلولة بظلم جاهلي هب على مدينتي من الشمال. أصبحت أروى قصيدة ألوان وأنوثة وجمال. تذهب أماني إلى الخلف هي الاخرى. بعض المسافرين تعجبوا من الموقف. لكنه لم يعد يشي بأي دهشة لنا. الزي التنكري الأسود هو ما تلبسه النساء في مدينتي. الفكر التنكري الأسود هو ما ترتديه مساجدنا، وحدائقنا، ومتاحفنا، وعاداتنا، ومسارحنا، واغانينا وبالتأكيد، ولن انسى رقصاتنا. الرقص اللحجي، الصنعاني، العدني، الضالعي، المحويتي. الستارة والبرقع والعقيق والغتره والزنه والمعوز والحب والعشق والشعر والحالي، اليهودي الحالي.
رحلوا جميعا يوماً بعد يوم و سنة بعد سنة. رحلوا وتركوا لي الذكريات فقط. واحاول أن اخمن كم من الوقت متبق لنا في هذا الانتظارالطويل؟. اصحبت متمكناً في التخمين القريب للوقت، بعد قدومي المستمر إلى هذه المحطة. لا احب المحطات الأخريات، كل ذكرياتي هنا. اخاف أن أذهب إلى محطة أخرى فتضيع مني الذكريات. لم أعد أملك غير الذكريات فأذكر نفسي بمدى أهميتها.
مرت ستة اشهر على الحرب. ستة أشهر على الحرب. ستة أشهر على الحرب. أرددها علها تمل مني وتختفي. علها تنتقم مني وتتلاشى. مرت ستة اشهر على الحرب. في الأشهر الأولى سافرت أماني وأسرتها براً إلى السعودية، وفي الأشهر الأخيرة رحل أحمد ورحلت أروى جواً نحو الأردن. مرت ستة اشهر على الحرب وسلبتني كل ما أملك. اعيش ازمة بترول. ازمة خوف و فزع. أزمة موارد غذائية. أعيشها مع الجميع. نشارك بعضنا الهموم و الخوف والأمل في فجر آمن، فجر مشمس، فجر جميل سالم عشناه جميعاً يوما ماً. أعيش ازمة حبيب رمت به أميرته من على عرش عال. عرش بلقيس و أروى. عرش حضارة كبرى. نافذتي مفتوحة. عينّي تحدقان بهاتفي. اصابعي تتلمس الشاشة المسطحة من الأسفل إلى الأعلى. اصرف كل مدخراتي على هاتفي، فهو الوحيد الذي بامكانه ان يأخذني بعيداً. أخبار وصور وأغنيات واهتمامات وكتابات. آراء من خبراء، فتاوى من غرباء، وكلمات حب من اصدقاء. العديد يسألني لماذا بقيت، لماذا لم ارحل. ليتهم يدرون الواقع، ليتهم يدرون بأنها رحلت. رحلت وتركتني وحيداً. ترمي بي الذكريات إلى أسفل نقطة. تتساقط ككتل الأحجار كلما حاولت الصعود. أواصل الصعود، وأقاوم وأقرر بأنني سأغادر. سأنجح في المغادرة. واذا بي أرى جمعاً من الذكريات يقترب مني كأسطول بحري غاضب، يقرص بي كالسرطان، يتملكني كالاكريليك على قطعة القماش، مكوناً مني لوحة ذكريات حب، ذكريات فرح، ذكريات غضب.
فكاهات أحمد الغربية وضحكات أماني العفوية. يقترب صوت مزعج ومع اقترابه مني، يقترب غباره. يرتعب البعض، خصوصا النساء، أراقبهم في عجلة يرجعن بسياراتهن الصغيرة ذات الألوان الزاهية إلى الخلف. أغلق نافذتي، مانعاً سلبياتهم من الوصول لي. تقترب سيارة الـ»ميليشيا» كاسرة خطوط الانتظار. كاسرة خطوات النظام.. لا أحب التحديق بهم، بأسلحتهم و بخناجرهم، فهم غرباء عن مدينتي. غرباء عني. تكاد أجسامهم النحيلة بالكاد قادرة على حمل الأسلحة وتصويبها على عاملي المحطة، صارخين بما يرجونه قبل الآخرين. تشرب سياراتهم المسروقة، الوقود بنهم ثم تذهب بعيداً. أتابع سياراتهم وأرغب بلبس حزام الامان. اتذكر أروى. سيارتها. سرعتها. اغانيها. أتذكر وأتمسك بالذكريات بقدر ما أستطيع. تشتغل سيارتي، وأقوم بتحريكها للأمام قليلا. تنطفئ سيارتي في ذاكرة صنعاء.

فنان يمني

 

صنعاء… قبل أن تغادرني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية