صورة غزة

حجم الخط
6

■ عندما تحضر الصورة، فإن الكتابة تصبح مهمة صعبة لا قدرة للقلم على اجتراحها. الكتابة هي صورة ذهنية للمضامين، أما وقد تكفلت الشاشات الحمراء بنقل الصورة التلفزيونية بكل ألوانها التي تختلف فقط في درجة حمرتها، أما وقد فعلت الشاشات ذلك، فإن الكتابة تصبح شيئاً صعباً في حضور الصورة القادمة من غزة.
صورة غزة خرجت هذه الأيام مضرجة بالدم المنسكب في كل مكان، والأشلاء المختلطة بركام المنازل المحطمة، والأثاث المحترق، والأنين المتشظي، كل ذلك يشير إلى مرور التاريخ بعملية حرق لمراحله يستعجلها الذين يقومون بعملية المونتاج للصورة القادمة من هذه المدينة.
خيل إلى منتج صورة غزة اليوم أن العرب في أسوأ أحوالهم، مع اشتداد المعارك التي تخوضها الطائفة والأمة: الطائفة التي تريد لشطط أحلامها أن تتحول إلى أمة، والأمة التي تقاوم للاحتفاظ بمكانتها ووضعها الطبيعي، وترفض مبدأ «تغليب الأقلية»، الذي يسعى العالم إلى فرضه عليها في واحدة من أصعب مراحلها التاريخية.
غير أن منتج صورة غزة ليس في أحسن أحواله على أي حال، هو يعيش حالة من القلق والترقب، ومبعث هذا القلق وهذا الترقب ناشئ من إحساسه بأنه أقحم على السياق التاريخي لهذه المنطقة، وعلى خرائطها التي أعيد رسمها لاستيعابه، هو طارئ على المنطقة مهما ساق من نصوص دينية لإضفاء مسحة تاريخية وميثولوجية على وجوده هنا، هو طارئ ويعلم أنه طارئ، وتلك هي حقيقة أزمته.
وعوداً إلى صورة غزة، فإنهـــا تخــــرج اليـــوم مكتنزة بالكثــــير من الإيحـــاءات والـــدلالات. الأطفـــال الذي شاهدناهم وقد تفحمت أجسادهم في حرب لا دخل لهم بها، هذه الصورة هي انعكاس لضمائرنا المحترقة، ووضعنا الذي فرض علينا فيه أن نكتفي بالفرجة والدخول بعدها في طقوس من الألم المرضي.
وصورة غزة تعري مقولات هي عارية بالأساس روجت لها إسرائيل: تعري كذبة جيش «الدفاع» الذي «يهاجم» الأطفال، وتعري «قيم حقوق الإنسان» التي تتجاوز قطاع غزة إلى حيث يمكن أن تكون هناك بشرة أكثر بياضاً من بشرة الغزيين الذين لوحتهم شمس السماء ونيران الأرض.
هناك قدر كبير من الحقد في الصحافة الإسرائيلية على غزة، التي تشكل استمراراً لعقيدة المقاومة في الأمة. وقد وصلت الوقاحة ببعض كتاب الأعمدة الإسرائيليين إلى المطالبة باستمرار حرق القطاع إلى أن يركع أهله، على اعتبار أن العرب لا يعرفون إلا منطق القوة، وأنهم ينبغي أن يصلوا إلى قناعة بأنهم «إذا مدوا أيديهم مرة أخرى على إسرائيل فإن رؤوسهم ستنكسر»، وعندها يمكن أن يكفوا «اعتداءاتهم» على «الدولة المسالمة».
لقد أصبحت صورة غزة في هذه اللحظة التاريخية الحمراء من حياة العرب، مكررة، هي نفسها منذ أيام «عمود السحاب»، و»الرصاص المصبوب»، وإلى «الجرف الصامد» وما قبل ذلك وما سيأتي بعده. الصورة ذاتها التي يلـــــوح في مشاهدها الجزئية أطفال هرستهم آلة الحرب الإسرائيلية الفاجرة، وأمهات بعيون حمر من السهر والبكاء، وثكالى وأيتام، وركام وحطام يشبه حطام سنوات القحط العربي الطويل.
لا جديد في الموضوع سوى أن صورة غزة التي كانت تخرج من غزة وحدها قبل سنوات ثلاث، أصبحت اليوم تخرج بالتفاصيل ذاتها، ولكن من حلب وحمص وداريا والفلوجة والموصل وتكريت وتلعفر، وعمران وبنغازي وغيرها من المدن التي سلمت من آلة الحرب الإسرائيلية لتحرقها نيران الأشقاء، التي ساعدت على إخراج صورة غزة من المدن المذكورة بشكل جعل تأثير صورة غزة على المتلقي اليوم أقل بكثير مما كان لها من تأثير في هذا المعرض المجنون المفتوح على الخرائب والأشلاء والألحان الجنائزية الرهيبة.
بالأمس كان الصمت يطبق على المواقف الرسمية، واليوم يطبق الصمت على المواقف الشعبية كذلك، لأن المدن التي كانت تنشغل بغزة أمس انشغلت اليوم بنفسها.
يقول عاموس هرئيل من «هآرتس»: «حزب الله لا يريد الانضمام إلى المعركة (في غزة) إلى الآن لأنه غارق في الحرب الأهلية السورية وفي الصراعات الداخلية في لبنان». أما نظام بشار فقد رفع عن نفسه العتب بتصريح رسمي مفاده أنه يأسف لما يحدث لغزة، لكنه شغل عنها بقتال «التكفيريين»، وكأنه كان قبل أن يقاتل «التكفيريين» في حالة حرب مستمرة مع «العدو الصهيوني».
وبقي من أصحاب محور المقاومة صاحب العمامة السوداء في طهران، الذي مر عليه الأسبوع بدون أن يسجل نقاطاً مثل كل مرة تحترق فيها غزة، الولي الفقيه لم يعد يهتم بالشعارات التي كان يهتم بها، لأنه مشغول الآن بمرحلة ما بعد الشعار التي يبدو أنها تنضج على الصفيحة النووية الإيرانية الساخنة.
نتحدث عن المقاومين بدون أن نذكر المعتدلين الذين أخذوا اليوم دور الوسطاء في صراع هم تاريخياً وجغرافياً في صلبه، في مشهد لا يمكن إلا أن يصنف ضمن مشاهد العبث التي يجود بها التاريخ بين الحقبة والأخرى، ليجعل لسيره شيئاً من الإدهاش ولكسر رتابته.
ليست صورة غزة وحدها هي التي تصدرت المشهد، بل انداحت مئات الصور من هنا وهناك كتداعيات لهذه الصورة. منها صور لمظاهرات في عدة مدن غربية أكثر من تلك التي خرجت في المدن العربية، بما يشير إلى تضاؤل البعد العربي لغزة، مقابل اتساع الأبعاد الإنسانية لقضية غزة التي اختصرت فيها القضية المركزية في الشرق الأوسط.
ومن الصور التي كانت صورة غزة سبباً في تداعياتها صورة ذلك الإعلامي العربي المهترئ الذي ظهر على الشاشة يصف المدافعين عن غزة بـ»الكلاب» محملاً إياهم مسؤولية ما يقع لأهالي غزة، على اعتبار أنهم هم الذين اعتدوا على إسرائيل، في ضرب آخر من الجنون تضفيه صورة غزة على المشهد العربي، الذي أصبح يصدر عن ريشة إسرائيلية في بعض تفاصيله للأسف الشديد.
وصورة غزة ـ فوق ذلك – تنتمي إلى المدارس الواقعية في الفن، واقعية موجعة في ترميزاتها، جارحة في أبعادها ودلالاتها التي تنفتح على معاني تحلل النسيج العربي، وتشوش أولوياته، وتغير مزاجه الشعبي، واقترابه المربك من واقع الشرق الأوسط الجديد الذي يراد لإسرائيل فيه أن تكون جزءاً من تركيبة النسيج، بل وعصب هذا النسيج، الشرق الأوسط الذي تكون فيه إسرائيل أقرب إلى العرب من أنفسهم، وأحرص على حلب من براميل بشار، وأقرب إلى طموحات الفلوجة من عجرفة نوري المالكي وجيشه الطائفي. لم تعد غزة مدينة محاصرة، ولا منبوذة، بل إنها تتحول يوماً بعد يوم إلى فكرة مجردة، فكرة تعاد من خلالها تنقلات قطع الشطرنج، بحيث يتحول العرب في لحظة عابثة إلى وسطاء، وكونهم وسطاء يقتضي أنهم يتوسطون بين طرفين لا علاقة للعرب بهما إلا بما يقتضيه منطق التوسط، من جهة، ومن جهة أخرى فإن التوسط يعني في ما يعني تكافؤ الطرفين المتصارعين: إسرائيل وغزة، في وقت تغيرت فيه مفاهيم كثيرة لم يكن أحد يستطيع توهم تغيرها، ضمن سلسلة تحولات رمزية على مستوى التسميات التي أطلقها الإعلام العربي على إسرائيل، بدءاً بمسمى العصابات اليهودية، إلى الكيان اللقيط، إلى العدو الصهيوني، إلى الكيان الإسرائيلي، إلى إسرائيل، وأخيراً إلى دولة إسرائيل. في تداع مثير للتسميات التي أطلقت على إسرائيل، والتي تنم عن منهجية القبول بها جزءاً من النسيج الشرق أوسطي الذي تكون فيه عصب هذا النسيج، بل عقله المدبر، بحكم أن أغلب الأنسجة في حالة اشتباك دائم مع بعضها، وهي بحاجة إلى عقل يسيطر على رغباتها الغريزية التدميرية في المنطقة. والشيء ذاته حدث للمصطلحات التي اطلقت على الصراع بين إسرائيل وجيرانها، فقد كان يعرف بالصراع العربي ـ الإسرائيلي، الذي تحول في ما بعد ليصبح الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي الذي تضاءل ليصبح الصراع الغزاوي الإسرائيلي، في تسلسل عجيب يوحي بحجم التراجع الذي حصل على مستوى النظرة لهذا الصراع التاريخي في المنطقة.
شكراً غزة لم تكن الصورة أوضح مما هي عليه الآن.

٭كاتب يمني من أسرة «القدس العربي»

د. محمد جميح

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي المريسي:

    وجبة متكاملة من الألم، لو كان لدى القادة بقية من ضمير لحركتهم حجم الألم المكبوت لدى أهل غزة وغيرهم.
    حسبنا الله ونعم الوكيل

  2. يقول سماء خازندار:

    ليعلم الجميع ان غزة تخوض معركة الكرامة نيابة عن الأمة كلها. وللأسف هناك أصوات نشاز في الإعلام العربي تدعو الى استمرار ضرب غزة لأنها تكشف وجهها السيء باصطفافها الى جانب العدو على حساب قضايا الأمة

  3. يقول حميد البلوشي+الامارات:

    شكرا للدكتور محمد جميح على المقال الجميل/ محاصره مخيم اليرموك وتجويعه هي الصوره الحقيقيه لمحور ما يسمى بالمقاومه، بشار الاسد وملالي طهران يستغلون القضيه الفلسطينيه لكسب تعاطف الشعوب معهم ،كنا مخدوعين بهم طوال السنين الماضيه وانا شخضيا كنت من مناصري هاذا المحور الا ان الاحداث بسوريا اسقطت الاقنعه عنهم.وشكرا للقدس العربي

  4. يقول نبيل العلي:

    فلتخرج سوريا وإيران وحزب الله عن قضية فلسطين .. بالله عليكم أرونا تسليحكم لغزة وماذا قدم لها العربان وآل سعود …؟ أليس من العار أن نعيب على الآخرين ما لم نستطع أن تفعله
    نحن..

  5. يقول عبدالله العليي:

    غزة منصورة بنصر الشرفاء لها، في إيران ولبنان وسوريا، غزة موجود في ضمير وقلب السيد قائد الثورة الإسلامية الوحيد الذي دعا إلى إزالة إسرائيل، وفي قلب سيد المقاومة، الوحيد الذي حارب إسرائيل، وفي قلب رئيس المقاومة بشار الأسد الةحيد الذي يقاتل على جبهتين: جبهة العدو الصهيوني، وجبهة العدو التكفيري.

  6. يقول احمد الشوبكي- الاردن:

    صدقت يا دكتور غزة وفلسطين تعري ما حاول الاعراب اخفاؤه منذ مايقرب من مائة عام عندما اسلموا امرهم لبريطانيا العظمى وساهموا معها في ترتيب وتوزيع الغنائم بعد القضاء على الدولة العثمانية وطبعا كان في صلب المقتسمين الصهاينة الذين وعدوا حينها بوطن قومي لليهود والتي هي الان سيدة الموقف ولكن على حلفائها العرب المتخاذلين

إشترك في قائمتنا البريدية