القاهرة ـ «القدس العربي»: ضمن سلسة ندوات «التايخ والذاكرة الثقافية»، التي يقيمها «مُلتقى مدى»، جاءت الندوة الثالثة تحت عنوان «سينما الهزيمة»، التي أقيمت في مركز الفيلم البديل «سيماتيك».
حاولت الندوة من خلال ثلاثة أعمال سينمائية تناولت أجواء هزيمة يونيو/حزيران 1967، وهي … «ثرثرة فوق النيل» 1971، «زائر الفجر» 1973، و»المذنبون» 1975، الكشف عن مدى الوعي السينمائي في كيفية معالجة السينما لهذا الحدث وتبعاته. وهل بالفعل تحولت هذه الأعمال كدأبها من الدعاية لنظام حاكم إلى حالة نقدية له. من ناحية أخرى كيف كان الموقف النقدي من هذه الأعمال وما يتماس معها من أعمال أخرى، وهو النقد الفني الذي رغماً عنه تواصل بشكل أو بآخر مع النقد الاجتماعي. بمعنى هل يمكننا الآن ــ بشكل آخر ووجهة نظر أخرى ــ النظر إلى هذه الأعمال السينمائية والأعمال النقدية التي تناولتها، سواء في متابعات نقدية أو دراسات وأبحاث أكاديمية، في ما يُشبه نقد النقد؟ اعتمدت الندوة على عدة أبحاث مُختارة، كحالة نقدية يجب فحصها بالضرورة، منها .. مختارات من كتاب «السينما والسياسة 1961-1981» لدرية شرف الدين، جزء من كتاب «فيلموغرافيا أفلام الجريمة الإيطالية 1968-1980» لروبرتو كورتي، وبحث بعنوان «سينما الدولة سينما بديلة» لمي التلمساني. ونستعرض في ما يلي بعض الانطباعات عن الندوة، وما أثارته من موضوعات ستظل دوماً محلاً للنقاش.
الجريمة والبحث عن الفاعل
ما يميز الأفلام الثلاثة أنها دارت حول جريمة ما، وأن مسألة البحث عن الفاعل تكشف عدة جرائم أخرى، كانت سبباً مباشراً في الجريمة الكبرى. هناك حالة إدانة للجميع، وحالة مزمنة من التواطؤ. مجتمع فاسد يتنفس فساده الجميع من دون استثناء، ويتورطون، سواء بإرادة حرّة أو لظروف اجتماعية قادتهم إلى هذه النهايات. أعمق هذه الأعمال هو «ثرثرة فوق النيل» 1971 إخراج حسين كمال، عن رواية نجيب محفوظ، التي كتبها عام 1966. حالة اللامبالاة التي أصابت الجميع، والتي جعلتهم يغرقون في دخان الحشيش، وأولهم «أنيس زكي» المناضل القديم في عهد الاحتلال الإنكليزي، الذي أصبح الآن نصف إنسان ونصف ميت. عالم العوامة ومخلوقاته، محكوم عليه بالفناء والضياع، خاصة بعد جريمة القتل المجانية للفلاحة المصرية الشابة في الفيلم ــ أو شبح لم يستطع أحد تبيان حقيقته في الرواية ــ المهم أن هناك فعلاً هو القتل، وهناك جريمة ناتجة عن فساد اجتماعي كبير. حالة الجريمة وما يتكشف عنها من جرائم أخرى جاءت بصورة أوضح في فيلم «المذنبون» 1975 من إخراج سعيد مرزوق ــ كتب القصة السينمائية نجيب محفوظ ــ عالم كبير موبوء، بداية من مدير مدرسة، وحتى ممثلة شهيرة، كان جسدها هو ساحة الصراع ومكمن الجريمة. ويأتي فيلم «زائر الفجر» 1973 من إخراج ممدوح شكري، تأليف رفيق الصبان. وهنا يصبح موت الضحية ليس مباشراً، لكنه نتيجة صراعات ونضال ثوري وسياسي كبير.
ثيمات الشكل الفيلمي
ومن خلال هذه الأفلام يمكن استنتاج عدة تشابهات بين الثيمات الأساسية التي تجمع هذه الأفلام. أولها الجريمة بالطبع كما أسلفنا، وما تتكشف عنه من جريمة كُبرى تمس النظام الاجتماعي، الذي بالضرورة يرجع إلى نظام سياسي فاسد، صنعها وخلق لها مجالاً، لولاه ما تحققت. وثاني هذه التماثلات يكمن في الضحية، وهي «امرأة» كنموذج مباشر لمجتمع ذكوري، إلا أن الأهم هو أن سوء السُمعة وجريمة الشرف هي ما ترمي بظلها على الشخصية النسائية، كما في نساء «ثرثرة فوق النيل»، مَن خانها زوجها، وتستعيض بتكرار خيانته مع آخرين «سنية/نعمت مختار»، أو الفتاة التي تمثل الجيل الجديد الضائع، الذي يحاول إثبات أنه يليق بجلسات الكبار، أو الموظفة التي تعول أسرتها من خلال بيع جسدها. بينما في «المذنبون»، هناك حالة من الصرع الجنسي، جسدته سهير رمزي التي تدور حولها وحول مهنتها كممثلة كل مظاهر الفساد. أما في «زائر الفجر»، فالأمر أكثر عقلانية، فلم توصم المرأة «ماجدة الخطيب» في سلوكها إلا بالتخمينات وسوء الظن، بينما هي على الخلاف من ذلك كلية.
والملاحظة الكبرى على هذه الأفلام الثلاثة محل البحث، والعديد بعد ذلك من أفلام انتهجت المنوال نفسه، أنها استعارت بعض التقنيات وأساليب السرد التي يمكن اكتشافها عبر مقارنتها بسينما «بوليتزيوتسكي» الإيطالية، التي تطورت في أعقاب هزيمة الحرب العالمية الثانية وانهيار النظام الفاشي في إيطاليا. التشابهات هنا تكمن في البنى السردية الكبرى، فجميعها تدور حول جريمة قتل لامرأة يتساءل الجميع عن أسباب قتلها، إضافة إلى تبعات تلك الجريمة من خلال شخصية رجل القانون/المحقق الذي يطرح فكرة «مَن القاتل؟» ومَن المذنب؟ لتصبح الإجابة هي الجميع مذنبون في ظل واقع الهزيمة. ومن تلك النقطة تبدأ عملية كشف وتشريح للأزمة فتخرج الجريمة من إطارها، كواقعة فردية عابرة إلى حدث ذي أبعاد اجتماعية أكثر تعقيداً.
حركة «انقلاب» يوليو والسينما
بدأ انقلاب يوليو/تموز 1952 وعينه على السينما، كأداة من أهم أدوات الترسيخ له، وهو ما تثبته مقولة محمد نجيب أول رئيس للنظام الجمهوري المصري، بعد عدة أيام من الانقلاب، في بيان أصدره للسينمائيين، جاء بعنوان «الفن الذي نريده»، بقوله … «إن السينما وسيلة من وسائل التثقيف والترفيه، وعلينا أن ندرك ذلك، لأنه إذا ما أسيء استخدامها فإننا سنهوي بأنفسنا إلى الحضيض، وندفع بالشباب إلى الهاوية». هذا البيان الصادر في 8 أغسطس/آب 1952.
جاء ليوضح للسينمائيين ما يجب أن يقدموه وما يسيرون في ظِله من تعاليم. إلا أن السينمائيين كانت نظرتهم الأولى نظرات الارتياب، فهناك نظام جديد، وهناك صناعة راسخة متلونة فنياً، ولا تستطيع الاقتصار على ترديد نغمة الثورة وتداعياتها، اللهم إلا الإسراع بتغيير نهايات بعض الأفلام، التي تم تصويرها في العهد الملكي ــ الأمر نفسه وبشكل أكثر سوقية وانتهازية تم مع بعض الأفلام التي تم تصويرها ولم تنته حينما قامت ثورة 25 يناير/كانون الثاني 2011 ــ لكن الأمر استتب في ما بعد، وأصبحت السينما أحد أهم أبواق الدعاية للنظام الجديد، وأصبح العهد الملكي البائد هو سبب كل الموبقات، كذلك أصبح رجال الجيش يحتلون أدوار البطولة، سواء في أفلام تراجيدية أو كوميدية شعبية ــ سلسلة أفلام إسماعيل يس ــ على سبيل المثال. إلا أن اللافت في فيلم «المذنبون» أن القاتل ينتمي إلى أسرة أرستقراطية، وأنه الوحيد الذي لم يتورط في فساد أو أي شكل من فساد اجتماعي، وتاريخه المتمثل في القلادة الموروثة عن أمه، وقد أهداها إلى حبيبته مهوسة الجنس، كان عليه استردادها، وكانت روح شهيدة فراشها هي الثمن. فهو قاتل وضحية في الوقت نفسه.
هل كانت أعمالاً انتقادية بالفعل؟
ما يثور الآن من تساؤل… أولاً حول هذه الأعمال وأيضاً حول النصوص النقدية التي رافقتها، هو هل هي انتقادية بالفعل؟ أم أنها لعبة أخرى من ألعاب التطهير المعروفة في الدراما؟ يرى البعض أن الأعمال الثلاثة محل البحث، ولو بدرجة متفاوتة، جاءت من قبيل استيعاب تبعات الهزيمة، وأن سينما «الضوء الأخضر» هذه كانت في مرحلة حرب الاستنزاف، وبالتالي كمحاولة للحشد مرّة أخرى، كحالة من حالات الاعتراف ــ الجزئي ــ بالخطأ. من دون أن تكون أعمالاً انتقادية بشكل واضح وصريح للنظام السياسي. ولنا الحق في مقارنة بسيطة بين هذه الأفلام ــ المتزنة رغم كل شيء ــ وأعمال سينمائية أخرى انتقمت من العصر الناصري لصالح عصر السادات، وجسدت من خلال موضوعاتها صراعات مراكز القوى، والتمجيد والتهليل لثورة التصحيح/مايو/أيار 1971. والمثال الأقرب إلى الذهن فيلم «الكرنك» 1975 ــ العام نفسه الذي كتب فيه نجيب محفوظ الرواية ــ إلا أن الفيلم انتهى بمانشتات ثورة التصحيح وهي نهاية دعائية غاية في المباشرة. فالسينما المصرية طوال تاريخها ــ اللهم في تجارب محدودة ــ كانت دوماً بوقاً دعائياً للنظام الذي تحيا في كنفه، تهلل وتبارك، وقد تنتقد لامتصاص موجات غضب الناس، وقد تزيّف لمواكبة الحدث، وركوب الموجة ــ هوجة أفلام 25 يناير، خاصة التي تمت كتابتها والموافقة الرقابية عليها، وتنفيذ معظمها في عهد المخلوع ــ فالأفلام السينمائية في النهاية وثيقة كاشفة، لن يمسسها سوء فهم تجاه صُناعها، الذي يتبارى أغلبهم في الحصول على لقب «المذنبون».
محمد عبد الرحيم