طورة والمهزلة

حجم الخط
5

 

غلاف أسبوعية «نيو ستيتسمان» البريطانية حمل العنوان التالي: «بعد خمسين سنة على وفاته، هل آن أوان كشف زيف أسطورة تشرشل»؛ والمقالة الرئيسية كتبها سايمون هيفر ـ الصحافي والمعلّق السياسي، ومؤلف سيرة مميزة عن توماس كارليل، وأخرى عن إينوك باول ـ والذي يتردد أنه غادر صحيفته التاريخية، «ديلي تلغراف»، بسبب نقده المستمر لسياسات رئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون، الذي تسانده الصحيفة عموماً.
وهذه المعلومة الأخيرة تفيد في إضاءة الخلفية النقدية الخاصة التي طبعت قراءة هيفر لسِيَر كبار الساسة البريطانيين، وهذا ما يلمسه المرء على الفور منذ السطور الأولى للمقالة عن تشرشل: الصورة الرومانتيكية عن الزعيم البريطاني «تخنق الحقيقة الفعلية»، و «تبعدنا عن إعادة تأويل نزيهة لتاريخنا»؛ خاصة أنّ منجزات رئيس الوزراء في سنة 1940 «تحرف الانتباه عن كلّ ما فعله قبل ذلك التاريخ وبعده، ولا تشجّع على تحليلها. الأسوأ في هذا كلّه، أنها لا تشجع التأمل في إدارته للحرب، والتي، كما يعلم كلّ من قرأ روايات بعض زملائه المقرّبين ـ وخاصة السير ألن برووك وأنتوني إيدن ـ كانت أقرب إلى ارتكاب الخطأ، على نقيض ما يروي التاريخ عادة».
من جانبنا، نحن شعوب هذه المنطقة من العالم، يتوجب ألا ننسى برهتَين، على الأقلّ، في مواقف تشرشل من قضايانا: تلك التي تخصّ التبرير، الصريح والفجّ والقبيح، لاستخدام أسلحة الدمار الشامل، ضدّ الثائرين على الاستعمار البريطاني في العراق؛ والتأييد، الأعمى والمطلق، للوعد الشهير الذي قطعه اللورد آرثر جيمس بلفور، للبارون روتشيلد، في تشرين الثاني /نوفمبر 1917، حول إقامة دولة قومية لليهود في فلسطين. هذا إذا وضع المرء جانباً أقوال تشرشل عن الإسلام، الطافحة بالجهل والتجاهل والضحالة والتعصب؛ كأن يجزم بأنّ المرأة، بموجب الإسلام، هي ملكية رجل ما، بالتعريف، سواء كطفلة أو كزوجة أو كمحظية!
ضمن تفاصيل البرهة الأولى، لم يجد تشرشل (وفق مذكرة محفوظة لدى وزارة الحرب البريطانية، تعود إلى 12 ايار/ مايو 1919) غضاضة في استخدام الغازات السامة ضدّ أبناء العراق، عرباً (تحالف العشائر) وكرداً (حركة الشيخ محمود الحفيد البرزنجي في لواء السليمانية)، على حدّ سواء. كذلك كان حريصاً، بصفة خاصة، على استخدام الأسلحة الكيماوية «ضدّ العرب العصاة، من باب تجريب» الصناعة العسكرية البريطانية، معتبراً أنّ الاعتراضات على هذه الأسلحة «غير عقلانية»، مضيفاً تلك الجملة الأشهر: «أنا أؤيد بقوّة استخدام الغاز السامّ ضدّ القبائل غير المتمدنة، وذلك لكي يدبّ الذعر في نفوسهم».
في تلك المذكّرة، يسهب تشرشل في التهكم على أصحاب المواعظ الأخلاقية، ممّن يناهضون استخدام تلك الأسلحة، بل يذهب إلى ميدان عجيب ـ الموضة عموماً، وتنورة المرأة خصوصاً ـ لإجراء المقارنات حول تبدّل المواقف الأخلاقية إزاء هذه الأسلحة، بتبدّل الوظائف التي تؤديها: «إنه لمن السخف اعتماد المبدأ الأخلاقي في هذه الموضوع حين نعرف أنّ الكلّ استخدم هذه الأسلحة في الحرب الأخيرة دون كلمة شكوى من وعّاظ الكنيسة. ومن جانب آخر، كان قصف المدن المفتوحة محرّماً في الحرب الأخيرة، ولكنّ الكلّ يمارسه اليوم وكأنه أمر مألوف. إنها ببساطة مسألة موضة تتبدّل بين القصير والطويل في تنّورة المرأة»!
عن البرهة الثانية، يكفي تقليب سريع لفصول كتاب «تشرشل واليهود: صداقة عمر»، لكي يتفق المرء مع مؤلفه، المؤرّخ البريطاني مارتن جلبرت: صحيح أنّ اللورد بلفور كان الموقّع على الوعد، إلا أنّ تشرشل كان الأكثرحماسة لتنفيذه. ولأنّ جلبرت صاحب سيرة لحياة تشرشل هي الأضخم حتى الساعة (ثمانية أجزاء!)؛ فإنه عليم تماماً بما ما يرويه عن تعاطف الأخير مع الحركة الصهيونية، وليس مع الدولة اليهودية وحدها؛ وكيف بقي على موقفه هذا رغم، وضدّ، كل الاعتبارات التي كانت كفيلة بإضعافه، خاصة عندما اصطدمت المصالح العليا للتاج البريطاني مع المنظمات والميليشيات الإرهابية الصهيونية. وفي سنة 1922، حين زار فلسطين للمرّة الأولى، برفقة «لورنس العرب» والمفوّض السامي هربرت صمويل، أطلق تشرشل تصريحه الشهير: معارضة العرب للهجرات اليهودية إلى فلسطين تنمّ عن موقف عنصري، كما تتناقض مع حقيقة أنّ المهاجرين اليهود جلبوا إلى فلسطين الرخاء والرفاه والنموّ الاقتصادي.
وفي ملفات كهذه لسنا، نحن أبناء المنطقة، بحاجة إلى تفكيك أية أساطير، لأنّ الوقائع ليست صارخة جلية، فحسب؛ بل هي تجعل الأسطورة… مهزلة!

صبحي حديدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول حي يقظان:

    ومع ذلك، ورغم كل تلك الشرور والآثام التي ارتكبها تشرتشل في حق الشعوب المغلوبة على أمرها أصلاً، منحته السويد جائزة نوبل في الأدب، ومنحته الولايات المتحدة المواطنة الأمريكية الفخرية أيضًا. حقيقة، إن مجرد منح جائزة نوبل لـ”شخصيات” بريطانية من أمثال تشرتشل وكيبلينغ لدليل كافٍ على مأسسة هذه الجائزة وعلى زيفها وبطلانها كذلك.

  2. يقول عباس النمر:

    سلمت يداك، لم أكن أعلم أن هذا التشرشل صهيوني قذر

  3. يقول منی:الجزائر.:

    شكرا جزيلا استاذ صبحي حديدي علی هذا التنوع في الطرح ؛ وجهدك في تعريفنا بمواضيع وشخصيات وأفكار يصعب اقتناصها؛ إلا اذا كان القناص محنكا ومتمرسا ومن قامتك استاذ ؛ فشكرا مرة اخری.

  4. يقول الكروي داود النرويج:

    تشرشل قد يكون اسطورة عند البريطانيين ولكنه ليس كذلك عندنا
    فهو كان وزير المستعمرات لدى الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس
    ومع هذا فقد نفع البريطانيين خلال الحرب حين استنجد بأمريكا ضد هتلر

    شكرا للمعلومات الغائبة يا أستاذ صبحي خاصة استعماله الغاز بالعراق

    ولا حول ولا قوة الا بالله

  5. يقول د. هاني:

    كما عودنا الاستاذ الكاتب مقال ممتاز جداً ـ الف شكر و تحية لك استاذ صبحي .

إشترك في قائمتنا البريدية